الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          المسألة السادسة : القياس الأصولي :

                          عرفه ابن السبكي ـ تبعا للباقلاني ـ بأنه حمل معلوم على معلوم لمساواته في علة حكمه ، وابن الحاجب تبعا للآمدي مساواة فرع الأصل في علة حكمه ، وفيه خلاف ، فمنعه ابن حزم في الأحكام الشرعية مطلقا ، وابن عبدان إلا في حال الضرورة ، ومنع داود غير الجلي منه ، ومنعه أبو حنيفة في الحدود والكفارات والرخص والتقديرات ، وقوم [ ص: 171 ] في الأسباب والشروط والموانع ، وقوم في أصول العبادات ، صرح بذلك كله في جمع الجوامع وعلى الأخير الأستاذ الإمام ، وأركان القياس عندهم أربعة :

                          1 - الأصل المشبه به ، أي : المقيس عليه .

                          2 - حكم الأصل ، قالوا : ومن شرطه أن يثبت بغير القياس .

                          3 - الفرع المشبه بالأصل وهو المقيس ، ومن شرطه وجود تمام علة حكم الأصل فيه .

                          4 - العلة ، قالوا : وهي المعرف للحكم .

                          أقول : وفيها معترك الأنظار ، فمنها ما هو بديهي ككون الإسكار هو علة تحريم الخمر ، ومنها ما لا يدل عليه عقل ، ولا نقل ، كالأقوال المشهورة في علة تحريم الربا : الكيل والوزن والطعم ، وقد اكتفى الحنفية في العلة بأي نوع من التشبيه ، والحنابلة على أنه لا بد من علة معينة تجمع بين الفرع والأصل حتى يجوز الرد والحمل وهو الأقرب ، ولا يظهر حمل الأمر برد المتنازع فيه إلى الله والرسول على عرضه على مثل تلك العلل والتشبيهات التي لا نص عليها في كتاب ولا في السنة ولا هي متبادرة منهما ، على أن ذلك لا يزيل التنازع ، بل ربما يزيده ، وإذا امتنع هذا وامتنع أن يكون المراد محصورا في طلب النصوص في نفس الشيء المتنازع فيه ، تعين أن يكون المراد ما قلناه من قبل ، وهو ما يشمل رده إلى مقاصدهما أو قواعدهما العامة وما يتبادر من علل الأحكام فيهما بحيث لا يكون للتنازع فيه مجال .

                          هذا والظاهر من تعريف الأصوليين للاجتهاد والمجتهد أنه لا يشترط فيه عندهم الإحاطة بما يمكن معرفته من الأحاديث ، بل صرح بعضهم بأن سنن أبي داود كافية لما ينبغي العلم به منها ، ويؤيد ذلك عمل الصحابة وقضاتهم ، فقد كان الخلفاء الراشدون يسألون عن السنة وقضاء النبي من حضر ولا يستقصون في الطلب ، فإن لم يجدوا عملوا بالرأي الذي مناطه المصلحة ، كما فعل عمر وأصحابه في واقعة الوباء قبل أن يخبرهم عبد الرحمن بن عوف بما عنده فيها من الحديث المرفوع ، ولكن طلب النصوص من الكتب الآن أسهل من طلبه من الناس قبل تدوين الحديث .

                          قال ابن تيمية : هل يجوز الحكم بالقياس قبل الطلب التام للنصوص ؟ هذه المسألة لها ثلاث صور :

                          الأولى : الحكم به قبل طلبه من النصوص المعروفة ، وهذا لا يجوز بلا تردد .

                          الثانية : الحكم به قبل الطلب من نصوص لا يعرفها مع رجاء الوجود لو طلبها ، فهذه طريقة الحنفية تقتضي جوازه ، ومذهب الشافعي وأحمد وفقهاء الحديث أنه لا يجوز ، [ ص: 172 ] ولهذا جعلوا القياس بمنزلة التيمم ، وهم لا يجيزون التيمم إلا إذا غلب على الظن عدم الماء فكذا النص ، وهو معنى قول الإمام أحمد : ما تصنع بالقياس ، وفي الحديث ما يغنيك عنه ! وهذه المسألة أم في الفرق بين أهل الحديث وبين أهل الرأي ، لكن يتفاوت أهل الحديث في طلب النصوص وطلب الحكم منها ، وهذه المسألة تشبه جواز الاجتهاد بحضور النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وفيها لأصحابنا وجهان مع أن قول الحنفية هناك أنه لا يجوز ، لكن قد يقولون : وجود النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس بمنزلة وجود النص .

                          الثالثة : إذا أيس من الظفر بنص بحيث يغلب على الظن عدمه فهناك يجوز بلا تردد ، اهـ .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية