الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
فصل

وقد ينزل الشيء مرتين تعظيما لشأنه ، وتذكيرا به عند حدوث سببه خوف نسيانه ، وهذا كما قيل في الفاتحة : نزلت مرتين ، مرة بمكة ، وأخرى بالمدينة ، وكما ثبت في " الصحيحين " عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة [ ص: 124 ] فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فأنزل الله تعالى : ( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ) ( هود : 114 ) ، فقال الرجل : ألي هذا ؟ فقال : بل لجميع أمتي . فهذا كان في المدينة ، والرجل قد ذكر الترمذي - أو غيره - أنه أبو اليسر ، وسورة هود مكية بالاتفاق ، ولهذا أشكل على بعضهم هذا الحديث مع ما ذكرنا ، ولا إشكال لأنها نزلت مرة بعد مرة .

ومثله ما في " الصحيحين " عن ابن مسعود : في قوله تعالى : ( ويسألونك عن الروح ) ( الإسراء : 85 ) أنها نزلت لما سأله اليهود عن الروح وهو في المدينة ، ومعلوم أن هذه في سورة " سبحان " وهي مكية بالاتفاق ، فإن المشركين لما سألوه عن ذي القرنين وعن أهل الكهف قبل ذلك بمكة وأن اليهود أمروهم أن يسألوه عن ذلك ، فأنزل الله الجواب كما قد بسط في موضعه .

وكذلك ما ورد في ( قل هو الله أحد ) ( الإخلاص : 1 ) أنها جواب للمشركين بمكة ، [ ص: 125 ] وأنها جواب لأهل الكتاب بالمدينة .

وكذلك ما ورد في " الصحيحين " من حديث المسيب : " لما حضرت أبا طالب الوفاة ; وتلكأ عن الشهادة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله لأستغفرن لك ما لم أنه فأنزل الله : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ) ( التوبة : 113 ) ، وأنزل الله في أبي طالب : ( إنك لا تهدي من أحببت ) ( القصص : 56 ) وهذه الآية نزلت في آخر الأمر بالاتفاق ، وموت أبي طالب كان بمكة ، فيمكن أنها نزلت مرة بعد أخرى ، وجعلت أخيرا في " براءة " .

والحكمة في هذا كله أنه قد يحدث سبب من سؤال أو حادثة تقتضي نزول آية ، وقد نزل قبل ذلك ما يتضمنها ، فتؤدى تلك الآية بعينها إلى النبي صلى الله عليه وسلم تذكيرا لهم بها ، وبأنها تتضمن هذه ، والعالم قد يحدث له حوادث فيتذكر أحاديث وآيات تتضمن الحكم في تلك الواقعة وإن لم تكن خطرت له تلك الحادثة قبل ، مع حفظه لذلك النص .

وما يذكره المفسرون من أسباب متعددة لنزول الآية قد يكون من هذا الباب ، [ ص: 126 ] لا سيما وقد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال : " نزلت هذه الآية في كذا " فإنه يريد بذلك أن هذه الآية تتضمن هذا الحكم ، لا أن هذا كان السبب في نزولها أولا . وجماعة من المحدثين يجعلون هذا من المرفوع المسند ، كما في قول ابن عمر في قوله تعالى : ( نساؤكم حرث لكم ) ( البقرة : 223 ) ، وأما الإمام أحمد فلم يدخله في " المسند " وكذلك مسلم وغيره ، وجعلوا هذا مما يقال بالاستدلال وبالتأويل ، فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية ، لا من جنس النقل لما وقع .

التالي السابق


الخدمات العلمية