الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وأما كيف يقرأ القرآن

                                                          فإن كلام الله تعالى يقرأ بالتحقيق وبالحدر وبالتدوير الذي هو التوسط بين الحالتين مرتلا مجودا بلحون العرب وأصواتها وتحسين اللفظ والصوت بحسب الاستطاعة .

                                                          أما التحقيق فهو مصدر من حققت الشيء تحقيقا إذا بلغت يقينه ، ومعناه المبالغة في الإتيان بالشيء على حقه من غير زيادة فيه ولا نقصان منه . فهو بلوغ حقيقة الشيء والوقوف على كنهه والوصول إلى نهاية شأنه ، وهو عندهم عبارة عن إعطاء كل حرف حقه من إشباع المد ، وتحقيق الهمزة ، وإتمام الحركات ، واعتماد الإظهار والتشديدات ، وتوفية الغنات ، وتفكيك الحروف ، وهو بيانها وإخراج بعضها من بعض بالسكت والترسل واليسر والتؤدة وملاحظة الجائز من الوقوف ، ولا يكون غالبا معه قصر ولا اختلاس ولا إسكان محرك ولا إدغامه فالتحقيق يكون لرياضة الألسن وتقويم الألفاظ وإقامة القراءة بغاية الترتيل ، وهو الذي يستحسن ويستحب الأخذ به على المتعلمين من غير أن يتجاوز فيه إلى حد الإفراط من تحريك السواكن وتوليد الحروف من الحركات وتكرير الراءات وتطنين النونات بالمبالغة في الغنات كما روينا عن حمزة الذي هو إمام المحققين أنه قال : لبعض من سمعه يبالغ في ذلك : أما علمت أن ما كان فوق الجعودة فهو قطط وما كان فوق البياض فهو برص [ ص: 206 ] وما كان فوق القراءة فليس بقراءة .

                                                          ( قلت ) : وهو نوع من الترتيل ، وهذا النوع من القراءة ، وهو التحقيق ، هو مذهب حمزة وورش من غير طريق الأصبهاني عنه وقتيبة عن الكسائي والأعشى عن أبي بكر وبعض طرق الأشناني عن حفص وبعض المصريين عن الحلواني عن هشام وأكثر العراقيين عن الأخفش عن ابن ذكوان كما هو مقرر في كتب الخلاف مما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى .

                                                          قرأت القرآن كله على الإمام أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن المصري التحقيق ، وقرأ هو على محمد بن أحمد المعدل التحقيق ، وقرأ على علي بن شجاع التحقيق ، وقرأ على الشاطبي التحقيق ، وقرأ على ابن هذيل التحقيق ، وقرأ على أبي داود التحقيق ، وقرأ على أبي عمرو الداني التحقيق ، وقرأ على فارس بن أحمد التحقيق ، وقرأ على عمرو بن عراك التحقيق ، وقرأ على حمدان بن عون التحقيق ، وقرأ على إسماعيل النحاس التحقيق ، وقرأ على الأزرق التحقيق ، وقرأ على ورش التحقيق ، وأخبره أنه قرأ على نافع التحقيق ، قال : وأخبرني نافع أنه قرأ على الخمسة التحقيق ، وأخبره الخمسة أنهم قرءوا على عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة التحقيق ، وأخبرهم عبد الله أنه قرأ على أبي بن كعب التحقيق ، قال : وأخبرني أبي أنه قرأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التحقيق ، قال : وقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - على التحقيق . قال الحافظ أبو عمرو الداني هذا الحديث غريب لا أعلمه يحفظ إلا من هذا الوجه ، وهو مستقيم الإسناد ، وقال في كتاب التجريد بعد إسناده هذا الحديث : هذا الخبر الوارد بتوقيف قراءة التحقيق من الأخبار الغريبة والسنن العزيزة لا توجد روايته إلا عند المكثرين الباحثين ولا يكتب إلا عن الحفاظ الماهرين ، وهو أصل كبير في وجوب استعمال قراءة التحقيق ، وتعلم الإتقان والتجويد ، لاتصال سنده ، وعدالة نقلته ، ولا أعلمه يأتي متصلا إلا من هذا الوجه انتهى ، وقال بعد إيراده له في جامع البيان هذا الحديث غريب لا أعلمه يحفظ إلا من [ ص: 207 ] هذا الوجه ، وهو مستقيم الإسناد ، والخمسة الذين أشار إليهم نافع هم : أبو جعفر يزيد بن القعقاع ويزيد بن رومان وشيبة بن نصاح وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج ومسلم بن جندب . كما سماهم محمد بن إسحاق المسيبي عن أبيه عن نافع .

                                                          وأما الحدر فهو مصدر من حدر - بالفتح يحدر بالضم - إذا أسرع فهو من الحدور الذي هو الهبوط ; لأن الإسراع من لازمه بخلاف الصعود فهو عندهم عبارة عن إدراج القراءة وسرعتها وتخفيفها بالقصر والتسكين والاختلاس والبدل والإدغام الكبير وتخفيف الهمز ، ونحو ذلك مما صحت به الرواية ، ووردت به القراءة مع إيثار الوصل ، وإقامة الإعراب ومراعاة تقويم اللفظ ، وتمكن الحروف ، وهو عندهم ضد التحقيق . فالحدر يكون لتكثير الحسنات في القراءة ، وحوز فضيلة التلاوة ، وليحترز فيه عن بتر حروف المد ، وذهاب صوت الغنة ، واختلاس أكثر الحركات ، وعن التفريط إلى غاية لا تصح بها القراءة ، ولا توصف بها التلاوة ، ولا يخرج عن حد الترتيل ، ففي صحيح البخاري أن رجلا جاء إلى ابن مسعود - رضي الله عنه - فقال : قرأت المفصل الليلة في ركعة فقال : هذا كهذ الشعر ، الحديث . قلت : وهذا النوع ، وهو الحدر : مذهب ابن كثير وأبي جعفر وسائر من قصر المنفصل ، كأبي عمرو ويعقوب وقالون والأصبهاني عن ورش في الأشهر عنهم ، وكالولي عن حفص ، وكأكثر العراقيين عن الحلواني عن هشام .

                                                          وأما التدوير فهو عبارة عن التوسط بين المقامين من التحقيق والحدر ، وهو الذي ورد عن أكثر الأئمة ممن روى مد المنفصل ولم يبلغ فيه إلى الإشباع ، وهو مذهب سائر القراء وصح عن جميع الأئمة ، وهو المختار عند أكثر أهل الأداء . قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : لا تنثروه - يعني القرآن - نثر الدقل ولا تهذوه هذ الشعر . الحديث سيأتي بتمامه .

                                                          وأما الترتيل فهو مصدر من رتل فلان كلامه إذا أتبع بعضه بعضا على [ ص: 208 ] مكث وتفهم من غير عجلة ، وهو الذي نزل به القرآن . قال الله تعالى : ورتلناه ترتيلا وروينا عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله يحب أن يقرأ القرآن كما أنزل أخرجه ابن خزيمة في صحيحه .

                                                          وقد أمر الله تعالى به نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال تعالى : ورتل القرآن ترتيلا . قال ابن عباس : بينه . وقال مجاهد : تأن فيه . وقال الضحاك : انبذه حرفا حرفا . يقول تعالى تلبث في قراءته وتمهل فيها ، وافصل الحرف من الحرف الذي بعده ، ولم يقتصر سبحانه على الأمر بالفعل حتى أكده بالمصدر اهتماما به وتعظيما له ليكون ذلك عونا على تدبر القرآن وتفهمه ، وكذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يقرأ ، ففي جامع الترمذي وغيره عن يعلى بن مالك أنه سأل أم سلمة - رضي الله عنها - عن قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا ، قالت عائشة - رضي الله عنها - : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ السورة حتى تكون أطول من أطول منها . وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام بآية يرددها حتى أصبح إن تعذبهم فإنهم عبادك رواه النسائي وابن ماجه ، وفي صحيح البخاري عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فقال : كانت مدا ، ثم قرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) يمد الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم . فالتحقيق داخل في الترتيل كما قدمنا والله أعلم .

                                                          وقد اختلف في الأفضل هل الترتيل وقلة القراءة ، أو السرعة مع كثرة القراءة ؟ فذهب بعضهم إلى أن كثرة القراءة أفضل ، واحتجوا بحديث ابن مسعود : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها الحديث . رواه الترمذي وصححه ورواه غيره : كل حرف عشر حسنات ، ولأن عثمان - رضي الله عنه - قرأه في ركعة ، وذكروا آثارا عن كثير من السلف في كثرة القراءة ، والصحيح بل الصواب ما عليه معظم السلف [ ص: 209 ] والخلف ، وهو أن الترتيل والتدبير مع قلة القراءة أفضل من السرعة مع كثرتها ; لأن المقصود من القرآن فهمه والتفقه فيه والعمل به ، وتلاوته وحفظه وسيلة إلى معانيه ، وقد جاء ذلك منصوصا عن ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهم - ، وسئل مجاهد عن رجلين قرأ أحدهما البقرة والآخر البقرة وآل عمران في الصلاة وركوعهما وسجودهما واحد ، فقال : الذي قرأ البقرة وحدها أفضل . ولذلك كان كثير من السلف يردد الآية الواحدة إلى الصباح كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال بعضهم : نزل القرآن ليعمل به فاتخذوا تلاوته عملا . وروينا عن محمد بن كعب القرظي - رحمة الله عليه - أنه كان يقول : لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح ( إذا زلزلت الأرض ، و القارعة ) لا أزيد عليهما وأتردد فيهما وأتفكر أحب إلي من أن أهذ القرآن هذا ، أو قال : أنثره نثرا ، وأحسن بعض أئمتنا - رحمه الله - فقال : إن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجل وأرفع قدرا ، وإن ثواب كثرة القراءة أكثر عددا . فالأول كمن تصدق بجوهرة عظيمة ، أو أعتق عبدا قيمته نفيسة جدا ، والثاني كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم ، أو أعتق عددا من العبيد قيمتهم رخيصة ، وقال الإمام أبو حامد الغزالي - رحمه الله - : واعلم أن الترتيل مستحب لا لمجرد التدبر ، فإن العجمي الذي لا يفهم معنى القرآن يستحب له أيضا في القراءة الترتيل والتؤدة ; لأن ذلك أقرب إلى التوقير والاحترام وأشد تأثيرا في القلب من الهذرمة والاستعجال . وفرق بعضهم بين الترتيل والتحقيق : أن التحقيق يكون للرياضة والتعليم والتمرين ، والترتيل يكون للتدبير والتفكر والاستنباط ، فكل تحقيق ترتيل وليس كل ترتيل تحقيقا ، وجاء عن علي - رضي الله عنه - أنه سئل عن قوله تعالى : ورتل القرآن ترتيلا فقال : الترتيل تجويد الحروف ومعرفة الوقف .

                                                          وحيث انتهى بنا القول إلى هنا فلنذكر فصلا في التجويد يكون جامعا للمقاصد حاويا للفوائد ، وإن كنا قد أفردنا لذلك كتابنا : التمهيد في التجويد ، وهو مما [ ص: 210 ] ألفناه حال اشتغالنا بهذا العلم في سن البلوغ ، إذ القصد أن يكون كتابنا هذا جامعا ما يحتاج إليه القارئ والمقرئ .

                                                          أخبرنا الشيخ الإمام العالم المقرئ المجود أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الشامي بقراءة ابني أبي الفتح عليه ، أخبرنا الإمام العلامة المقرئ شيخ التجويد أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي سماعا ، وأخبرنا الشيخ المقرئ المجود أبو سهل اليسر بن عبد الله الغرناطي قراءة مني عليه ، أخبرنا الشيخ المقرئ أبو الحسن علي بن محمد بن أبي العافية بقرائتي عليه ، أخبرنا الشيخ المقرئ أبو بكر محمد بن إبراهيم الزنجاني ( ح ) ، وأعلى من هذا قرأت على شيخنا المقرئ أبي حفص عمر بن الحسن الحلبي أنبأني علي بن أحمد المقدسي عن شيخ الشيوخ عبد الوهاب بن علي البغدادي وغيره قالوا : أخبرنا الإمام شيخ القراءات والتجويد أبو الكرم بن الحسن البغدادي حدثنا أحمد بن بندار بن إبراهيم ، حدثنا أبو الحسين محمد بن عبد الواحد بن رزبة البزاز ، حدثنا أبو الحسن علي بن محمد المعلى الشونيزي ، حدثنا محمد بن يحيى المروزي حدثنا محمد بن سعدان ، حدثنا أبو معاوية الضرير ، عن جويبر عن الضحاك قال عبد الله بن مسعود : جودوا القرآن وزينوه بأحسن الأصوات وأعربوه ، فإنه عربي والله يحب أن يعرب به .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية