الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وقال في كفايته : اختلفوا في المد والقصر على ثلاثة مذاهب - يعني في المنفصل - فكان عاصم والكسائي وخلف يمدون هذا النوع مدا حسنا تاما ، والباقون يمكنون هذا النوع تمكينا سهلا ، إلا أن ابن كثير أقصرهم تمكينا ، فإن اتفق حرف المد والهمز في كلمة واحدة ، فأجمعوا على مد حرف المد من غير خلاف ، ويتفاوت تقدير المد فيما بينهم ، والمشافهة تبين ذلك . انتهى .

                                                          وهذا صريح في التفاوت في المتصل ، وقال أبو العز القلانسي في إرشاده عن المنفصل : كان أهل الحجاز والبصرة يمكنون هذه الحروف من غير مد ، والباقون بالمد ، إلا أن حمزة والأخفش عن ابن ذكوان أطولهم مدا ، وقال في كفايته : قرأ الولي ، عن حفص وأهل الحجاز والبصرة ، وابن عبدان ، عن هشام بتمكين حروف المد واللين من غير مد - يعني المنفصل ومثله . ثم قال : إلا أن حمزة والأعشى أطولهم مدا ، وقتيبة أطول أصحاب الكسائي مدا ، وكذلك عن ابن عامر - يعني في رواية ابن ذكوان . ثم قال الآخرون بالمد المتوسط ، وأطولهم مدا عاصم . انتهى . وهو صريح بتطويل مد عاصم على الآخرين ، خلاف ما ذكره في " الإرشاد " ، وقال أبو طاهر [ ص: 332 ] بن سوار في " المستنير " عن المنفصل : إن أهل الحجاز غير الأزرق وأبي الأزهر ، عن ورش ، والحلواني عن هشام ، والولي عن حفص من طريق الحمامي ، وأهل البصرة يمكنون الحرف من غير مد ، وقال : وإن شئت أن تقول اللفظ به كاللفظ بهن عند لقائهن سائر حروف المعجم . وحمزة غير العبسي وعلي بن سلم ، والأعشى وقتيبة يمدون مدا مشبعا من غير تمطيط ولا إفراط كان . وكذلك ذكر أشياخنا ، عن أبي الحسن الحمامي في رواية النقاش ، عن الأخفش الباقون بالتمكين والمد دون مد حمزة وموافقيه ، قال : وأحسن المد من كتاب الله عند استقبال همزة أو إدغام ، كقوله تعالى : ( حاد الله ) ، ( ولا الضالين ) ، ( طائعين ) ، ( والقائمين ) ثم قال : فإن كان الساكن والهمزة في كلمة فلا خلاف بينهم في المد والتمكين . انتهى . ويفهم منه الخلاف فيما كان الساكن في كلمتين ، والله أعلم .

                                                          وقال أبو الحسن علي بن فارس في " الجامع " : إن أهل الحجاز والبصرة والولي ، عن حفص وقتيبة - يعني من طريق ابن المرزبان - لا يمدون حرفا لحرف . ثم قال الباقون بإشباع المد ، وأطولهم مدا حمزة والأعشى ، وقال أبو علي المالكي في " الروضة " : فكان أطول الجماعة مدا حمزة والأعشى وابن عامر دونهما ، وعاصم في غير رواية الأعشى دونه ، والكسائي دونه غير أن قتيبة أطول أصحاب الكسائي مدا . انتهى . وإنما ذكر ذلك في المنفصل .

                                                          وقال أبو بكر أحمد بن الحسين بن مهران في الغاية ( بما أنزل إليك ) مد حرف لحرف كوفي وورش وابن ذكوان . انتهى . ولم يزد على ذلك ، وقال في " المبسوط " عن المنفصل : أبو جعفر ، ونافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب لا يمدون حرفا لحرف . قال : وأما عاصم ، وحمزة ، والكسائي وخلف وابن عامر ، ونافع برواية ورش فإنهم يمدون ذلك ، وورش أطولهم مدا ، ثم حمزة ، ثم عاصم برواية الأعشى . الباقون يمدون مدا وسطا لا إفراط فيه . ثم قال عن المتصل : ولم يختلفوا في مد الكلمة ، وهو أن تكون المدة والهمزة في كلمة واحدة ، إلا أن منهم من يفرط ومنهم من يقتصر كما ذكرنا في مذاهبهم في مد الكلمتين . انتهى . وهو نص في [ ص: 333 ] تفاوت المتصل ، وفي اتفاق هشام وابن ذكوان ، وورش من طريقيه على مد المنفصل ، وكلاهما صحيح ، والله أعلم .

                                                          وقال أبو الطاهر إسماعيل بن خلف في " العنوان " : إن ابن كثير وقالون وأبا عمرو يترك الزيادة في المنفصل ويمد المتصل زيادة مشبعة ، وإن الباقين بالمد المشبع بالضربين ، وأطولهم مدا ورش وحمزة ، كذا ذكر في " الاكتفاء " ، وكذا نص شيخه عبد الجبار الطرسوسي في " المجتبى " : ( فهذا ما حضرني من نصوصهم ) ولا يخفى ما فيها من الاختلاف الشديد في تفاوت المراتب ، وإنه ما من مرتبة ذكرت لشخص من القراء إلا وذكر له ما يليها ، وكل ذلك يدل على شدة قرب كل مرتبة مما يليها ، وإن مثل هذا التفاوت لا يكاد ينضبط ، والمنضبط من ذلك غالبا هو القصر المحض والمد المشبع من غير إفراط عرفا ، والتوسط بين ذلك . وهذه المراتب تجري في المنفصل ، ويجري منها في المتصل الاثنان الأخيران ، وهما الإشباع والتوسط ، يستوي في معرفة ذلك أكثر الناس ، ويشترك في ضبطه غالبيتهم ، وتحكم المشافهة حقيقته ، ويبين الأداء كيفيته ، ولا يكاد تخفى معرفته على أحد ، وهو الذي استقر عليه رأي المحققين من أئمتنا قديما وحديثا ، وهو الذي اعتمده الإمام أبو بكر بن مجاهد وأبو القاسم الطرسوسي ، وصاحبه أبو الطاهر بن خلف ، وبه كان يأخذ الإمام أبو القاسم الشاطبي ; ولذلك لم يذكر في قصيدته في الضربين تفاوتا ، ولا نبه عليه ، بل جعل ذلك مما تحكمه المشافهة في الأداء ، وبه أيضا كان يأخذ الأستاذ أبو الجود غياث بن فارس ، وهو اختيار الأستاذ المحقق أبي عبد الله محمد بن القصاع الدمشقي ، وقال : هذا الذي ينبغي أن يؤخذ به ، ولا يكاد يتحقق غيره .

                                                          ( قلت ) : وهو الذي أميل إليه وآخذ به غالبا وأعول عليه ، فآخذ في المنفصل بالقصر المحض لابن كثير وابن جعفر من غير خلاف عنهما ؛ عملا بالنصوص الصريحة والروايات الصحيحة ، ولقالون بالخلاف من طريقيه ، وكذلك ليعقوب من روايتيه جميعا بين الطرق ، ولأبي عمرو إذا أدغم الإدغام الكبير عملا بنصوص من تقدم ، وأجرى الخلاف عنه مع الإظهار لثبوته نصا وأداء [ ص: 334 ] وكذلك أخذ بالخلاف ، عن حفص من طريق عمرو بن الصباح ، عنه كما تقدم ، وكذا أخذ بالخلاف عن هشام من طريق الحلواني جميعا بين طريقي المشارقة والمغاربة اعتمادا على ثبوت القصر عنه من طريق العراقيين قاطبة ، وأما الأصبهاني ، عن ورش فإني آخذ له بالخلاف لقالون ؛ لثبوت الوجهين جميعا عنه نصا كما ذكرنا من الأئمة ، وإن كان القصر أشهر عنه ، إلا أن من عادتنا الجمع بين ما ثبت وصح من طرقنا ، لا نتخطاه ولا نخلطه بسواه ، ثم إني آخذ في الضربين بالمد المشبع من غير إفراط لحمزة وورش من طريق الأزرق على السواء ، وكذا في رواية ابن ذكوان من طريق الأخفش عنه كما قدمنا من مذهب العراقيين ، وآخذ له من الطريق المذكورة أيضا ومن غيرها ، ولسائر القراء ممن مد المنفصل بالتوسط في المرتبتين ، وبه آخذ أيضا في المتصل لأصحاب القصر قاطبة . وهذا الذي أجنح إليه وأعتمد غالبا عليه ، مع أني لا أمنع الأخذ بتفاوت المراتب ولا أرده ، كيف وقد قرأت به على عامة شيوخي ، وصح عندي نصا وأداء عمن قدمته من الأئمة ، وإذا أخذت به كان القصر في المنفصل لمن ذكرته عنه كابن كثير وأبي جعفر وأصحاب الخلاف كقالون وأبي عمرو ، ومن تبعهما ، ثم فوق القصر قليلا في المتصل لمن قصر المنفصل ، وفي الضربين لأصحاب الخلاف فيه . ثم فوقها قليلا للكسائي وخلف ولابن عامر سوى من قدمنا عنه في الروايتين ، ثم فوقها قليلا لعاصم . ثم فوقها قليلا لحمزة وورش والأخفش ، عن ابن ذكوان من طريق العراقيين ، وليس عندي فوق هذه مرتبة إلا لمن يسكت على المد كما تقدم ، وسيأتي هذا إذا أخذت بالتفاوت بالضربين كما هو مذهب الداني وغيره ، أما إذا أخذت بالتفاوت في المنفصل فقط كما هو مذهب من ذكرت من العراقيين وغيرهم ، فإن مراتبه عندي في المنفصل كما ذكرت آنفا ، ويكون المتصل بالإشباع على وتيرة واحدة ، وكذلك لا أمنع التفاوت في المد اللازم على ما قدمت ، إلا أني أختار ما عليه الجمهور ، والله الموفق .

                                                          وقد انفرد أبو القاسم بن الفحام في " التجريد " [ ص: 335 ] عن الفارسي ، عن الشريف الزيدي ، عن النقاش ، عن الحلواني ، عن هشام بإشباع المد في الضربين ، فخالف سائر الناس في ذلك ، والله أعلم .

                                                          ( تنبيه ) من ذهب إلى عدم تفاوت المتصل ، فإنه يأخذ فيه الإشباع كأعلى مراتب المنفصل ، وإلا يلزم منه تفضيل المنفصل ، وذلك لا يصح ، فيعلم ، وبهذا يتضح أن المد للساكن اللازم هو الإشباع كما هو مذهب المحققين ، والله أعلم .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية