الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
106 [ ص: 100 ] حديث ثان ليحيى بن سعيد

مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب أن أبا موسى الأشعري أتى عائشة زوج النبي ، فقال لها : لقد شق علي اختلاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر إني لأعظم أن أستقبلك به ، فقالت ما هو ؟ ما كنت سائلا عنه أمك ، فسلني عنه ، فقال : الرجل يصيب أهله ، ثم يكسل ، ولا ينزل ، فقالت : إذا جاوز الختان الختان ، فقد وجب الغسل ، فقال أبو موسى : لا أسأل ، عن هذا أحدا بعدك أبدا .

التالي السابق


هكذا هذا الحديث موقوفا في الموطأ ، عند جماعة الرواة ، وقد روي ، عن أبي قرة ، عن مالك مرفوعا ما حدثناه خلف بن القاسم حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد المقدسي بمنى في مسجد الخيف إملاء من حفظه قال : حدثنا أبو سعيد الخدري حدثنا علي بن زياد اللخمي حدثنا أبو قرة قال ذكر مالك بن أنس ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي موسى ، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا التقى الختانان وجب الغسل .

وهذا خطأ ، والصواب ما في الموطأ ، وهذا الحديث يدخل في المسند بالمعنى ، والنظر ; لأنه محال [ ص: 101 ] أن ترى عائشة نفسها في رأيها حجة على غيرها من الصحابة في حين اختلافهم في هذه المسألة النازلة بينهم ، ومحال أن يسلم أبو موسى لعائشة قولها من رأيها في مسألة قد خالفها فيها من الصحابة غيرها برأيه ; لأن كل واحد ليس بحجة على صاحبه ، عند التنازع ; لأنهم أمروا إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى كتاب الله ، وسنة رسوله ، وهذا يدلك على أن تسليم أبي موسى لعائشة في هذه المسألة إنما كان من أجل أن علم ذلك كان عندها ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلذلك سلم لها إذ هي أولى بعلم مثل ذلك من غيرها ، ومع ما ذكرنا من جهة الاستدلال ، فقد روي هذا الحديث ، عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسندا ، وروي أن سعيد بن المسيب دخل مع أبي موسى على عائشة في هذه بذلك حقيقة قولنا ، وصحة استدلالنا ، وبالله التوفيق .

وأخبرنا عبد الوارث ، وأحمد بن قاسم قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا يحيى بن أبي بكير قال : حدثنا زائدة قال : حدثنا علي بن زيد بن جدعان ، عن سعيد بن المسيب قال : نازع أبو موسى ناسا من الأنصار ، فقالوا : الماء من الماء قال سعيد : فانطلقت أنا ، وأبو موسى حتى دخلنا على عائشة ، فقال لها أبو موسى الذي تنازعوا فيه ، فقالت عائشة : عندي الشفاء من ذلك [ ص: 102 ] قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس الرجل بين الشعب الأربع ، وألصق الختان بالختان ، فقد وجب الغسل .

وروى هشام ، وشعبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله سواء ذكره البخاري من طريق هشام ، ثم قال تابعه عمرو ، عن شعبة .

وقد حدثناه عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة ، وهشام ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا قعد بين شعبها الأربع ، ولزق الختان بالختان ، فقد وجب الغسل .

وحدثنا سعيد بن نصر حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا ابن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية ، عن حجاج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا التقى الختانان ، وتوارت الحشفة ، فقد وجب الغسل .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، وأحمد بن قاسم قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير ، والحارث بن أبي أسامة قالا : حدثنا عفان بن مسلم قال : حدثنا همام ، وأبان قالا : حدثنا قتادة ، عن [ ص: 103 ] الحسن ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إذا قعد بين شعبها الأربع ، وأجهد نفسه ، فقد وجب الغسل أنزل أو لم ينزل .

قال أحمد بن زهير سئل يحيى بن معين ، عن أبان ، وهمام أيهما أحب إليك ، فقال : كان يحيى بن سعيد يروي ، عن أبان ، وكان أحب إليه ، وأما أنا ، فهمام أحب إلي ، وكلاهما ثقة .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إبراهيم بن عبد الرحيم حدثنا عفان قال : حدثنا حماد بن سلمة قال : حدثنا ثابت ، عن عبد الله بن رباح ، عن عبد العزيز بن النعمان ، عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا التقى الختانان اغتسل .

وقال فيه سليمان بن حرب ، عن حماد بن سلمة بإسناده هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا التقى الختانان وجب الغسل .

قال أبو عمر : هذا إسناد كله ثقة عن ثقة ، لا أعلم فيه علة إلا أن البخاري قال : لا أعلم لعبد العزيز بن النعمان سماعا من عائشة .

وحدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا عبد الله بن روح قال : حدثنا عثمان بن عمر [ ص: 104 ] قال أخبرنا عبيد الله بن زياد ، عن عطاء قال : قالت : عائشة : إذا التقى الختانان ، فقد وجب الغسل قد كنت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفعله ، فنغتسل .

ورواه أبو الزبير ، عن جابر ، عن أم كلثوم ، عن عائشة مثله مرفوعا .

ورواه القاسم بن محمد ، عن عائشة .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قراءة مني عليه أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال : حدثنا عبيد بن عبد الواحد قال : حدثنا علي بن المديني قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : حدثنا الأوزاعي قال : حدثني عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : إذا جاوز الختان الختان ، فقد وجب الغسل ، فعلته أنا ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاغتسلنا .

قال أبو عمر : تسليم أبي موسى لعائشة في هذه المسألة دليل على صحة رفعها إلى النبي ; لأن مثل هذا لا يقال من جهة الرأي ، وكذلك قطعها - رضي الله عنها - بصحة ذلك ألا ترى إلى توبيخها لأبي سلمة في ذلك .

روى مالك ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبد الله ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال : سألت عائشة ما يوجب الغسل ، فقالت : هل [ ص: 105 ] تدري ما مثلك يا أبا سلمة مثل الفروج يسمع الديكة تصرخ فيصرخ معها إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل .

قال أبو عمر : على هذا القول جمهور أهل الفتوى بالحجاز ، والعراق ، والشام ، ومصر ، وإليه ذهب مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابهم والليث بن سعد ، والأوزاعي ، والثوري ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، والطبري .

واختلف أصحاب داود في هذه المسألة ، فبعضهم قال بما عليه الفقهاء ، والجمهور على ما وصفنا من إيجاب الغسل بمجاوزة الختان الختان ، ومنهم من قال : لا غسل عليه إلا بإنزال الماء الدافق وجعل في الإكسال الوضوء ، واحتج من ذهب هذا المذهب بما حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى القطان ، عن هشام بن عروة قال : أخبرني أبي قال : أخبرني أبو أيوب الأنصاري قال : أخبرني أبي بن كعب قال : يا رسول الله ، إذا جامع الرجل المرأة ، فلم ينزل قال : يغسل ما مس المرأة ، ثم يتوضأ ويصلي .

وذكره البخاري ، عن مسدد بإسناده مثله سواء .

وذكره عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال : حدثني هشام بن عروة بإسناده مثله حرفا بحرف ، وهذا حديث صحيح من جهة الإسناد [ ص: 106 ] إلا أن حديث عائشة يعارضه ; لأن مثلها لا يجهل الحكم في هذا المعنى ، وأيضا فإن حديث أبي بن كعب هو في نفسه ، واه من جهة رجوع أبي بن كعب ، عن القول به ، وهو الذي رواه ولو كان عنده غير منسوخ لما رجع عنه ; لأن ما لم ينسخ من الكتاب والسنة لا يجوز تركه بوجه من الوجوه ، وقد كان هشام بن عروة يقول : به ذكر عبد الرزاق ، عن مظهر قال : سمعت هشام بن عروة يقول : لقد أصبت ، فأكسلت ، ولم أنزل ، فما اغتسلت .

وذكر عبد الرزاق أيضا عن الثوري ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أبي أيوب الأنصاري ، عن أبي بن كعب أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا جامع أحدكم فأكسل ، فليتوضأ وضوءه للصلاة .

قال أبو عمر : من روى هذا الحديث ، عن أبي بن كعب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لزمه القول به ، وعساه لم يبلغه رجوع أبي بن كعب عنه ، وأما رجوع أبي بن كعب ، عن ذلك ، فروى مالك في موطئه ، عن يحيى بن سعيد ، عن عبد الله بن كعب مولى عثمان بن عفان أن محمود بن لبيد الأنصاري سأل زيد بن ثابت ، عن الرجل يصيب أهله ، ثم يكسل ولا ينزل ، فقال زيد : يغتسل ، فقال محمود بن لبيد إن أبي بن كعب كان لا يرى الغسل ، فقال زيد إن أبيا نزع عن ذلك قبل أن يموت .

[ ص: 107 ] وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا مطلب بن شعيب قال : حدثني عبد الله بن صالح قال : حدثنا الليث قال : حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، عن سهل بن سعد قال : حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يفتون بها قولهم إنما الماء من الماء رخصة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرخص فيها في أول الإسلام ، ثم أمر بالغسل بعد ، فهذا بين في أن الماء من الماء منسوخ بالتقاء الختانين .

وروى هذا الحديث معمر ، عن الزهري ، عن سهل بن سعد لم يتجاوزه ، ولم يسمع الزهري هذا الحديث من سهل بن سعد . حدثنا عبد الرحمن بن يحيى قال : حدثنا أحمد بن سعيد قال : حدثنا عبد الملك بن بحر قال : سمعت موسى بن هارون يقول : كان الزهري إنما يقول في هذا الحديث قال سهل بن سعد ، ولم يسمع الزهري هذا الحديث من سهل بن سعد ، وقد سمع من سهل أحاديث إلا أنه لم يسمع هذا منه رواه ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن الزهري قال : حدثني بعض من أرضى أن سهل بن سعد أخبره قال موسى : ولعمري إن كان الزهري سمعه من أبي حازم ، فإن أبا حازم رضى ، فقد روى أبو حازم هذا الحديث عن سهل بن سعد .

قال أبو عمر : أما رواية ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن الزهري في هذه القصة ، فأخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال [ ص: 108 ] حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن صالح قال : حدثنا ابن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن ابن شهاب قال : حدثني بعض من أرضى أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن أبي بن كعب أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما جعل ذلك رخصة للناس في أول الإسلام ، ثم أمر بالغسل ، ونهى عن ذلك . قال أبو داود : يعني الماء من الماء .

قال أبو داود : وحدثنا محمد بن مهران البزار الرازي قال : حدثنا مبشر الحلبي ، عن محمد أبي غسان ، وهو ابن مطرف ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يفتون : الماء من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بدء الإسلام ، ثم أمر بالاغتسال بعد .

قال أبو داود : وحدثني أحمد بن صالح قال : حدثنا ابن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الماء من الماء . وكان أبو سلمة يفعل ذلك .

وهذا إسناد صحيح من جهة النقل ثابت ، ولكنه يحتمل التأويل ; لأن قوله الماء من الماء ليس فيه ما يدفع الماء من التقاء الختانين ; لأن من أوجب الغسل من التقاء الختانين يقول : الماء من الماء ، ومن التقاء الختانين - أيضا - زيادة حكم ، وقد قيل معنى : الماء من الماء في الاحتلام لا في اليقظة ، وهذا مجتمع عليه ، فيمن رأى أنه يجامع ، ولم ينزل أنه لا غسل عليه ، وهذا لعمري تأويل محتمل ، في [ ص: 109 ] : الماء من الماء لولا أن بعضهم يروي حديث أبي بن كعب ، وحديث أبي سعيد الخدري بغير هذا اللفظ ، وذلك قوله : إذا جامع أحدكم فأكسل أو أقحط ، فلا يغتسل ، ولكن يتوضأ .

ذكر عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن الأعمش ، عن ذكوان ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أعجل أحدكم أو أقحط فلا يغتسل .

ورواه شعبة ، عن الحكم ، عن ذكوان أبي فلح ، عن أبي سعيد مثله .

وهذا يحتمل أن يكون أعجل ، فلم يبلغ مجاوزة الختان إلا أنه قد روي عن عثمان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ما حدثناه سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن شيبان ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة أن عطاء بن يسار أخبره أن زيد بن خالد الجهني أخبره أنه سأل عثمان بن عفان قال قلت : أرأيت إذا جامع الرجل امرأته ولم يمن ؟ قال عثمان : يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ، ويغسل ذكره ، سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : وسأل عن ذلك عليا ، والزبير ، وطلحة ، وأبي بن كعب ، فأمروه بذلك [ ص: 110 ] وذكره البخاري ، عن سعد بن حفص قال : وحدثنا النفيلي ، عن شيبان بإسناده مثله سواء إلى آخره .

ورواه حسين المعلم كما رواه شيبان ، عن يحيى سواء ، وهو حديث انفرد به يحيى بن أبي كثير ، وقد جاء عن عثمان ، وعلي ، وأبي بن كعب ما يدفعه من نقل الثقات الأثبات ويعارضه ، وقد دفعه جماعة منهم أحمد بن حنبل ، وغيره ، وقال علي ، وأبي بخلافه .

قال يعقوب بن شيبة : سمعت علي بن المديني ، وذكر حديث يحيى بن أبي كثير هذا ، فقال : إسناده جيد ، ولكنه حديث شاذ .

قال : وقد روي ، عن عثمان ، وعلي ، وأبي بن كعب أنهم أفتوا بخلافه قال يعقوب بن شيبة : هو حديث منسوخ كان في أول الإسلام ، ثم جاء بعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالغسل من مس الختان الختان أنزل أم لم ينزل .

قال أبو عمر : روى مالك ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعائشة زوج النبي كانوا يقولون : [ ص: 111 ] إذا مس الختان الختان ، فقد وجب الغسل ، وهذا هو الصحيح ، عن عثمان من نقل الثقات الأئمة الحفاظ .

وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن المسيب قال : كان عمر ، وعثمان ، وعائشة ، والمهاجرون الأولون يقولون : إذا مس الختان الختان ، فقد وجب الغسل .

وعلى أن لفظ حديث عثمان المرفوع ليس فيه تصريح لمجاوزة الختان الختان ، وهو محتمل التأويل الذي ذكرناه في حديث أبي سعيد .

وقال الأثرم : قلت لأحمد بن حنبل : حديث حسين المعلم ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن عطاء بن يسار ، عن زيد بن خالد قال : سألت خمسة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، وطلحة ، والزبير ، وأبي بن كعب ، فقالوا : الماء من الماء فيه علة تدفعه بها قال : نعم بما يروى عنهم من خلافه ، قلت : عن عثمان ، وعلي ، وأبي بن كعب ؟ قال : نعم ، وقال أحمد بن حنبل : الذي أرى إذا جاوز الختان الختان ، فقد وجب الغسل قيل له : قد كنت تقول غير هذا ؟ فقال : ما أعلمني قلت غير هذا قط ، قيل له : قد بلغنا ذلك عنك ، قال : الله المستعان .

[ ص: 112 ] قال أبو عمر :

قد تكلم في حديث أبي سلمة للاختلاف عنه فيه ; لأن ابن شهاب يرويه ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد ، ويحيى بن أبي كثير يرويه ، عن أبي سلمة ، عن عطاء بن يسار ، عن زيد بن خالد ، عن عثمان ، ومن أهل العلم بالحديث من جعلهما حديثين ، وصححهما ، وهو الصواب ; لأن حديث أبي سعيد روي من وجوه ، عن أبي سعيد فهو غير حديث عثمان بلا شك ، والله الموفق للصواب .

وأما الروايات عن الصحابة ، ومن بعدهم في هذا الباب ، فمنها ما ذكر عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن جابر ، عن الشعبي قال : حدثني الحارث ، عن علي ، وعلقمة ، عن عبد الله بن مسعود ، ومسروق ، عن عائشة قالوا : إذا جاوز الختان الختان ، فقد وجب الغسل .

قال مسروق ، وكانت أعلمهم بذلك يعني عائشة .

وعن معمر ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل أن عليا قال : كما يجب منه الحد كذلك يجب منه الغسل ، وعن محمد بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي جعفر أن عليا ، وأبا بكر ، وعمر قالوا : ما أوجب الحدين الرجم ، والجلد أوجب الغسل [ ص: 113 ] وعن علي ، وشريح قالا : أيوجب الحد ، ولا يوجب قدحا من ماء ؟ .

وعن ابن جريج ، وعبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل .

وعن الثوري ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة أن ابن مسعود سئل عن ذلك ، فقال : إذا بلغت ذلك اغتسلت .

قال سفيان والجماعة على الغسل .

قال أبو عمر :

ذكر ابن خواز منداد أن إجماع الصحابة انعقد على إيجاب الغسل من التقاء الختانين ، وليس ذلك عندنا كذلك ولكنا نقول إن الاختلاف في هذا ضعيف ، وأن الجمهور الذين هم الحجة على من خالفهم من السلف والخلف .

انعقد إجماعهم على إيجاب الغسل من التقاء الختانين ، ومجاوزة الختان الختان ، وهو الحق إن شاء الله ، وكيف يجوز القول بإجماع الصحابة في شيء من هذه المسألة مع ما ذكرناه في هذا الباب ، ومع ما ذكره عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن زيد بن أسلم [ ص: 114 ] عن عطاء بن يسار ، عن زيد بن خالد قال : سمعت خمسة من المهاجرين الأولين منهم : علي بن أبي طالب ، فكلهم قال : الماء من الماء .

قال عبد الرزاق : وأخبرنا ابن مجاهد ، عن أبيه قال : اختلف المهاجرون والأنصار فيما يوجب الغسل ، فقالت طائفة الأنصار : الماء من الماء ، وقال المهاجرون : إذا مس الختان الختان وجب الغسل ، فحكموا بينهم علي بن أبي طالب ، واختصموا إليه ، فقال علي : أرأيتم لو رأيتم رجلا يدخل ويخرج أيجب عليه الحد ؟ قالوا : نعم قال : فيوجب الحد ، ولا يوجب صاعا من ماء .

فقضى للمهاجرين ، فبلغ ذلك عائشة ، فقالت : ربما فعلنا ذلك أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقمنا واغتسلنا .

قال : وأخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار قال : أخبرني إسماعيل الشيباني على امرأة رافع بن خديج كان لا يغتسل إلا إذا أنزل الماء ، وكان إسماعيل قد خلف على امرأة رافع قال : وأخبرنا ابن جريج قال : أخبرني عمرو بن دينار ، عن عبيد الله بن أبي عياض ، عن أبي سعيد الخدري أنه قال : الماء من الماء [ ص: 115 ] قال : وأخبرنا ابن جريج قال : قال لي عطاء : سمعت ابن عباس يقول : الماء من الماء .

قال : وأخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن مسعود مثله .

قال أبو عمر : عطاء لم يسمع من ابن مسعود ، وقد قدمنا بإسناد صحيح ، عن ابن مسعود خلاف هذا ، وأما أصحاب داود ، فاختلفوا في هذه المسألة ، فطائفة منهم قالت بما عليه جمهور الفقهاء من إيجاب الغسل إذا التقى الختانان ، ومنهم من أبى ذلك ، وقال لا غسل إلا بالإنزال ، وهو المشهور عن داود ، واحتج من ذهب مذهبه في ذلك بأن الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذكر الماء من الماء أثبت من جهة النقل رواه أبي بن كعب ، وعثمان بن عفان ، وأبو سعيد الخدري ، وغيرهم ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الإكسال الوضوء ، وفي الإنزال الغسل .

قالوا : وعلى ذلك جماعة الأنصار وجمهورهم ، ومن المهاجرين علي ، وابن عباس ، وعثمان ، وغيرهم ، وضعفوا حديث علي في إيجاب الغسل من التقاء الختانين ; لأنه يدور على جابر الجعفي ، والحارث الأعور ، وهما ضعيفان ، وقالوا : حديث عثمان المسند أولى بالمصير إليه مما روي عنه في ذلك ; لأن الحديث عليه حجة ، وليس هو على الحديث حجة ، وإنما يسوغ ما ذهب إليه راوي الحديث إذا لم يدفعه ، فأما إذا دفعه [ ص: 116 ] فالحجة في المسند ، ولهم في هذا المعنى كلام طويل تركته ؛ قالوا : ورجوع أبي بن كعب ، عن ذلك لا يصح ; لأن خبر زيد بن ثابت ، وأبي في ذلك يدور على عبد الله بن كعب ، ولم يصح له سماع من زيد بن ثابت ، وإنما يروى ، عن خارجة بن زيد ، وهو أيضا مشهور بنقل العلم ، وخبر ابن شهاب في ذلك من سهل بن سعد ، ولا يدري من بينهما على صحة ، قالوا : وأقل أحوال هذه المسألة أن تتكافأ فيها الحجج ، وتتعارض فيها الآثار ، فيرجع حينئذ إلى ظاهر كتاب الله ، وليس في كتاب الله إيجاب الغسل إلا على من كان جنبا ، ولا جنب إلا الذي ينزل الماء الدافق .

قالوا : ووجه آخر أن الفرائض لا تجب إلا بيقين في هذه المسألة إلا على قول من لم يوجب الغسل إلا بإنزال الماء ، وهو الاتفاق الذي يقطع عليه ، ويستيقن ، وبالله التوفيق .

قال أبو عمر : لا مدخل ، عند أولي الألباب من العلماء للنظر ، عند ثبوت الأثر ، وما ادعاه هؤلاء من ثبوت حديث الماء من الماء ، فقد مضى الجواب ، عن ذلك ، وعلة حديث أبي بينة لرجوعه ، عن الفتيا به ، ومعلوم أنه لا يجوز أن يدع الناسخ ، ويأخذ المنسوخ ، ولا حجة في حديث أبي أيوب ; لأنه إنما يرويه ، عن أبي بن كعب ، وحديث أبي سعيد ، وغيره يحتمل أن يكون أكسل ، ولم يجاوز الختان الختان ، فهذا فيه الوضوء للملامسة ، والمباشرة ، ولا يصح ، عن المهاجرين ما ذكر بل الصحيح ما [ ص: 117 ] وصف على ما تقدم عنهم في هذا الباب ، وحديث عثمان المرفوع لا يصح ; لأنه لو صح ، عن عثمان ، وعنده ما خالف ، وقد كان يفتي بخلافه ، وكل خبر مروي في الماء من الماء يحتمل التأويل على ما وصفنا في هذا الباب ، وخبر ابن شهاب ، عن سهل صحيح عندنا لرواية أبي حازم له ، وموضع ابن شهاب موضعه ، وعبد الله بن كعب معروف روى عنه يحيى بن سعيد ، ومحمد بن إسحاق ، وغيرهما ، وقد مضى القول في هذه المعاني مبسوطا لمن تدبرها .

وأما ما رجحوه من الاحتياط في ترك إيجاب الفرض إلا بيقين ، فإنه يدخل عليهم أن الصلاة لا تجب أن تؤدى إلا بطهارة مجتمع عليها ، وقد أجمعنا على أن المجامع إذا أكسل ، ولم ينزل ، فقد وجبت عليه طهارة ، وصار في حالة لا يدخل معها في الصلاة حتى يطهر ، وأجمعوا أن الغسل طهارة له إن فعله ، ولم يجمعوا على أن الوضوء طهارة له ، فالواجب على الاحتياط القول بالغسل إن شاء الله ، والأحوط الصحيح في هذا ما جاء ، عن عائشة مرفوعا ، وموقوفا ، وعلى حديثها المدار في هذا الباب ، وحديث أبي هريرة مثله ، ولا يصح فيه دعوى إجماع الصحابة ، وقد يقرب فيه دعوى إجماع من دونهم إلا من شذ ممن لا يعد خلافا عليهم ، ويلزمهم الرجوع إليهم ، والقول بأن لا غسل من التقاء الختانين شذوذ ، وقول عند جمهور الفقهاء مهجور مرغوب عنه ، ومعيب ، والجماعة على الغسل ، وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية