الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
270 [ ص: 288 ] حديث ثان وثلاثون ليحيى بن سعيد

مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن ابن محيريز : أن رجلا من بني كنانة يدعى المخدجي سمع رجلا بالشام يكنى أبا محمد يقول : إن الوتر واجب ، قال المخدجي : فرحت إلى عبادة بن الصامت ، فاعترضت له وهو رائح إلى المسجد ، فأخبرته بالذي قال أبو محمد ، قال عبادة : كذب أبو محمد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : خمس صلوات كتبهن الله - عز وجل - على العباد ، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن ، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه ، وإن شاء أدخله الجنة .

التالي السابق


لم يختلف عن مالك في إسناد هذا الحديث ، فهو حديث صحيح ثابت ، رواه عن محمد بن يحيى بن حبان جماعة منهم يحيى بن سعيد ، وعبد ربه بن سعيد ، ومحمد بن إسحاق ، وعقيل بن خالد ، ومحمد بن عجلان ، وغيرهم بهذا الإسناد ، ومعناه سواء ; إلا أن ابن عجلان وعقيلا لم يذكرا المخدجي في إسناده ، فيما روى الليث عنهما [ ص: 289 ] ورواه الليث - أيضا - عن يحيى بن سعيد كما رواه مالك سواء ، وإنما قلنا : إنه حديث ثابت ; لأنه روي عن عبادة من طرق ثابتة صحاح من غير طريق المخدجي بمثل رواية المخدجي‌ ‌‌ ، فأما ابن محيريز : فهو عبد الله بن محيريز ، وهو من جلة التابعين ، وهو معدود في الشاميين ، يروي عن معاذ بن جبل ، وأبي سعيد الخدري ، ومعاوية ، وأبي محذورة ، وغيرهم ، توفي في خلافة الوليد بن عبد الملك ، وأما المخدجي : فإنه لا يعرف بغير هذا الحديث ، وقال مالك : المخدجي لقب ، وليس بنسب في شيء من قبائل العرب ، وقيل : إن المخدجي اسمه رفيع ، ذكر ذلك عن يحيى بن معين .

وأما أبو محمد : فيقال : إنه مسعود بن أوس الأنصاري ، ويقال : سعد بن أوس ، ويقال : إنه بدري ، وقد ذكرناه في الصحابة .

وفي هذا الحديث من الفقه دليل على ما كان القوم عليه من البحث عن العلم ، والاجتهاد في الوقوف على الصحة منه ، وطلب الحجة ، وترك التقليد المؤدي إلى ذهاب العلم .

وفيه دليل على أن من السلف من قال بوجوب الوتر ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وقد ذكرنا وجه قوله - والحجة عليه - في غير موضع من كتابنا هذا ، والحمد لله .

[ ص: 290 ] وقد روى أبو عصمة نوح بن أبي مريم ، عن أبان بن أبي عياش ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الوتر علي فريضة ، وهو لكم تطوع ، والأضحى علي فريضة ، وهو لكم تطوع ، والغسل يوم الجمعة علي فريضة ، وهو لكم تطوع .

وهذا حديث منكر لا أصل له ، ونوح بن أبي مريم ضعيف متروك ، ويقال : اسم أبيه أبي مريم يزيد بن جعدبة ، وكان ( نوح ) أبو عصمة هذا قاضي مرو ، مجتمع على ضعفه ، وكذلك أبان بن أبي عياش مجتمع على ضعفه وترك حديثه .

وفيه : أن الصلوات المكتوبات المفترضات خمس لا غير ، وهذا محفوظ في غير ما حديث ، وفيه دليل على أن من لم يصل من المسلمين في مشيئة الله إذا كان موحدا مؤمنا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - مصدقا مقرا وإن لم يعمل ، وهذا يرد قول المعتزلة والخوارج بأسرها ، ألا ترى أن المقر بالإسلام في حين دخوله فيه يكون مسلما قبل الدخول في عمل الصلاة وصوم رمضان بإقراره واعتقاده وعقدة نيته ، فمن جهة النظر لا يجب أن يكون كافرا إلا برفع ما كان به مسلما - وهو الجحود لما كان قد أقر به واعتقده - والله أعلم - .

وقد ذكرنا اختلاف العلماء في قتل من أبى من عمل الصلاة إذا كان بها مقرا - في باب زيد بن أسلم من هذا الكتاب - والحمد لله .

[ ص: 291 ] حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان بن عيينة قال : حدثني يحيى بن سعيد ، ومحمد بن عجلان ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عبد الله بن محيريز ، عن المخدجي ، قال : قيل لعبادة بن الصامت : إن أبا محمد يقول : الوتر واجب قال : وكان أبو محمد رجلا من الأنصار ، فقال عبادة : كذب أبو محمد ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة ، فمن أتى بهن لم ينتقص من حقهن شيئا استخفافا بهن ، كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد ، إن شاء غفر له ، وإن شاء عذبه .

وروى زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن الصنابحي قال : زعم أبو محمد أن الوتر فرض واجب ، فقال عبادة بن الصامت : كذب أبو محمد ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : خمس صلوات افترضهن الله ، من أحسن وضوءهن ، وصلاهن لوقتهن ، وأتم ركوعهن وسجودهن ، كان له عند الله عهد أن يغفر له ، وإن لم يفعل جاء وليس له عند الله عهد ، إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له .

حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن حرب الواسطي قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا محمد بن مطرف ، عن زيد بن أسلم ، فذكره .

[ ص: 292 ] حدثنا أحمد بن قاسم قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا محمد بن عمر الواقدي قال : حدثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة النجاري : أنه سأل عبادة بن الصامت عن الوتر ، قال : أمر حسن جميل ، وقد عمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون بعده ، وليس بواجب قال : وكان عبادة يوتر ، وربما خرج والمؤذن يقيم ، فأمر المؤذن أن يجلس حتى يوتر ويقيم .

وحدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا عبد الله بن جعفر بن الورد قال : حدثنا يوسف بن موسى بن عبد الله الأودي حدثنا عبد الله بن حنين حدثنا يوسف بن أسباط ، عن السري بن إسماعيل ، عن الشعبي ، عن كعب بن عجرة قال : خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أتدرون ما قال ربكم ؟ قال : قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : يقول : من صلى الصلاة لوقتها ، ولم يضيعها استخفافا بحقها ، فله علي أن أدخله الجنة ، ومن لم يصلها لوقتها ، وضيعها استخفافا بحقها ، فلا عهد له علي ، إن شئت غفرت له ، وإن شئت عذبته .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المومن ، وعبد الرحمن بن عبد الله بن خالد قالا : حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ببغداد قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدثنا أبي قال : حدثنا هشيم قال : حدثنا عيسى بن المسيب البجلي ، عن الشعبي ، عن [ ص: 293 ] كعب بن عجرة قال : بينما نحن جلوس في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسندي ظهورنا إلى قبلة مسجده - سبعة رهط : أربعة من موالينا ، وثلاثة من عربنا ; إذ خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصلاة الظهر حتى انتهى إلينا ، فقال : ما يجلسكم هاهنا ؟ قلنا : يا رسول الله ننتظر الصلاة قال : فأرم قليلا ، ثم رفع رأسه ، فقال : أتدرون ما يقول ربكم تبارك وتعالى ؟ يقول : من صلى الصلاة لوقتها ، وحافظ عليها ، ولم يضيعها استخفافا بحقها ، فله علي عهد أن أدخله الجنة ، ومن لم يصلها لوقتها ، ولم يحافظ عليها ، وضيعها استخفافا بحقها ، فلا عهد له ، إن شئت عذبته ، وإن شئت غفرت له .

قال أبو عمر : ذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن معنى حديث عبادة المذكور في هذا الباب ، ومعنى حديث كعب بن عجرة هذا : أن التضييع للصلاة الذي لا يكون معه لفاعله المسلم عند الله عهد ، هو أن لا يقيم حدودها من مراعاة وقت ، وطهارة ، وتمام ركوع وسجود ، ونحو ذلك ، وهو مع ذلك يصليها ، ولا يمتنع من القيام بها ، في وقتها ، وغير وقتها ، إلا أنه لا يحافظ على أوقاتها ، قالوا : فأما من تركها أصلا ، ولم يصلها ، فهو كافر ، قالوا : وترك الصلاة كفر .

واحتجوا بآثار ، منها : حديث أبي الزبير ، وأبي سفيان ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة ، وما كان في معنى هذه الآثار قد ذكرناها [ ص: 294 ] في باب زيد بن أسلم ، ثم ذكرنا اختلاف العلماء في أحكام تارك الصلاة هنالك ، فلا معنى لذكر ذلك هاهنا .

أخبرنا أبو ذر عبد بن حمد - فيما أجاز لنا - قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن خميرويه قال : أخبرنا محمد بن عبد الرحمن السامي حدثنا أحمد بن أبي رجاء حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، عن أيوب ، عن محمد بن سيرين قال : نبئت أن أبا بكر وعمر كانا يعلمان من دخل في الإسلام : تؤمن بالله ، ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة التي افترض الله عليك لمواقيتها ، فإن في تفريطها الهلكة ، وتؤدي الزكاة طيب النفس بها ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت ، وتطيع لمن ولاه الله أمرك ، وتعمل لله ، ولا تعمل للناس .

ومما احتجوا به في أن معنى حديث عبادة في هذا الباب : تضييع الوقت وشبهه : ما حدثناه عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا الحسن بن علي الأشناني حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زريق حدثنا بقية بن الوليد ، عن ضبارة بن عبد الله ، عن دويد بن نافع ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب أن أبا قتادة بن ربعي أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله تبارك وتعالى افترض على أمتي خمس صلوات ، وعهد عنده عهدا : من حافظ عليهن لوقتهن أدخله الله الجنة ، ومن لم يحافظ عليهن ، فلا عهد له عنده .

وذكر إسماعيل قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير قال : حدثنا حفص ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : كل شيء في القرآن : ساهون ودائمون وحافظون فعلى مواقيتها .

[ ص: 295 ] قال : وحدثنا ابن نمير قال : حدثني أبي قال : حدثنا الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق قال : الحفاظ على الصلاة : الصلاة لوقتها ، والسهو عنها : ترك وقتها .

وعن عبد الله بن مسعود مثل ذلك ، وقد ذكرنا خبر ابن مسعود في باب زيد بن أسلم .

وأصح شيء في هذا الباب من جهة النظر ، ومن جهة الأثر : أن تارك الصلاة إذا كان مقرا غير جاحد ولا مستكبر ، فاسق مرتكب لكبيرة موبقة من الكبائر الموبقات ، وهو مع ذلك في مشيئة الله - عز وجل - إن شاء غفر له ، وإن شاء عذبه ، فإنه لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، وقد يكون الكفر يطلق على من لم يخرج من الإسلام ، ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - في النساء : رأيتهن أكثر أهل النار بكفرهن ، قيل : يا رسول الله أيكفرن بالله ؟ قال : يكفرن بالعشير ، ويكفرن الإحسان .

فأطلق عليهن اسم الكفر لكفرهن العشير والإحسان ، وقد يسمى كافر النعمة كافرا ، وأصل الكفر التغطية للشيء ، ألم تسمع قول لبيد :


في ليلة كفر النجوم غمامها

فيحتمل - والله أعلم - إطلاق الكفر على تارك الصلاة أن يكون معناه أن تركه الصلاة غطى إيمانه وغيبه حتى صار غالبا عليه ، وهو مع ذلك مومن باعتقاده ، ومعلوم أن من صلى صلاته ، وإن لم يحافظ على أوقاتها أحسن حالا ممن لم يصلها أصلا ، وإن كان مقرا بها .

[ ص: 296 ] حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني الليث قال : حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن الصنابحي ، عن عبادة بن الصامت أنه قال : إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئا ، ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا ننتهب ، ولا نعصي ، فالجنة إن فعلنا ذلك ، فإن غشينا من ذلك شيئا كان أمر ذلك إلى الله .

وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال : حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع قال : حدثنا محمد بن مهاجر ، عن عروة بن رويم ، عن أبي حاجب ، عن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من مات يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وجبت له الجنة .

وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا أحمد بن محمد البرتي ، ومحمد بن غالب التمتام قالا : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا أبو مسلم ، عن عثمان بن عبد الله بن أوس قال : سمعت أوس بن عبد الله يقول : سمعت عبادة بن الصامت يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة .

[ ص: 297 ] وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا الترمذي قال : حدثنا سعيد بن الحكم بن أبي مريم حدثنا يحيى بن أيوب قال : حدثني محمد بن عجلان ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عبد الله بن محيريز الجمحي ، عن الصنابحي أنه قال : دخلت على عبادة بن الصامت ، وهو في الموت ، فلما رأيت ما به من العلز بكيت ، فقال : ما يبكيك ، فوالله لئن شفعت لأشفعن لك ، ولئن سئلت لأشهدن لك ، ولئن استطعت لأنفعنك ، والله ما كتمتك حديثا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا حديثا واحدا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من لقي الله يشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل الجنة .

قال أبو عمر : محمل هذه الأحاديث بعد القصاص والعفو أن يكون آخرا من الموحدين إلى الجنة ، والحمد لله .

وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا حماد بن زيد ، وعبد الواحد ، وهشيم ، ويزيد بن زريع قالوا : حدثنا خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، عن عبادة قال : أخذ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البيعة حيث أخذ على النساء : أن لا نشرك بالله شيئا ، ولا نزني ، ولا نسرق ، ولا نقتل أولادنا ، ولا بعضنا بعضا ، ولا نعصي في معروف ، فمن أتى منكم حدا في الدنيا فعجلت له عقوبته فهو كفارته ، ومن أخر ذلك عنه ، فأمره إلى الله ، إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له .

[ ص: 298 ] وحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان قال : سمعت الزهري يقول : حدثني أبو إدريس الخولاني أنه سمع عبادة بن الصامت يقول : كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس ، فقال : تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا - الآية ، فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه ، فذلك إلى الله إن شاء غفر له ، وإن شاء عذبه .

قال سفيان : كنا عند الزهري ، فلما حدث بهذا الحديث أشار علي أبو بكر الهذلي أن أحفظه فكتبته ، فلما قدم الزهري أخبرت به أبا بكر .

قال أبو عمر : قوله في حديث ابن شهاب هذا : ومن أصاب من ذلك شيئا يريد مما في الحدود ما عدا الشرك ، وقد بان ذلك في الحديث الذي قبل هذا ، وذلك مقيد بقول الله - عز وجل - ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) ومقيد بالإجماع على أن من مات مشركا ، فليس في المشيئة ، ولكنه في النار ، وعذاب الله - أجارنا الله وعصمنا برحمته - من كل ما يقود إلى عذابه .

[ ص: 299 ] أخبرنا أحمد بن قاسم قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا معلى بن الوليد بن عبد الله العبسي ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا مضر بن محمد قال : حدثنا الحكم بن موسى قالا : حدثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي ، عن الأوزاعي ، عن عمير بن هانئ ، عن جنادة بن أبي أمية ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله - زاد الحكم - : وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، وأن عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، أدخله الله الجنة على ما كان من عمل - وقال الحكم : من عمله .

وذكر الطحاوي قال : حدثنا فهد بن سليمان قال : حدثنا عمرو بن عون الواسطي قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، عن عاصم ، عن شفيق ، عن ابن مسعود ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أمر بعبد من عباد الله - عز وجل - أن يضرب في قبره بمائة جلدة ، فلم يزل يسأل الله ، ويدعوه حتى صارت جلدة واحدة ، فجلد جلدة واحدة ، فامتلأ قبره عليه نارا ، فلما ارتفع عنه أفاق ، فقال : علام جلدتموني ؟ قالوا : إنك صليت صلاة بغير طهور ، ومررت على مظلوم فلم تنصره .

[ ص: 300 ] قال الطحاوي : وفي هذا ما يدل على أن تارك الصلاة ليس بكافر ; لأن من صلى صلاة بغير طهور ، فلم يصل ، وقد أجيبت دعوته ، ولو كان كافرا ما سمعت دعوته ; لأن الله يقول : ( وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) واحتج - أيضا - بقوله - صلى الله عليه وسلم - : الذي يترك صلاة العصر ، فكأنما وتر أهله وماله .

قال : فلو كان كافرا لكان القصد إلى ذكر ما ذهب من إيمانه لا إلى ذهاب أهله وماله .

ومعلوم أن ما زاد على صلاة واحدة من الصلوات في حكم الصلاة الواحدة ، ألا ترى أن تاركها عامدا حتى يخرج وقتها يستتاب على الوجوه التي ذكرنا عن العلماء على مذاهبهم في ذلك في باب زيد بن أسلم .

وجملة القول في هذا الباب : أن من لم يحافظ على أوقات الصلوات لم يحافظ على الصلوات ، كما أن من لم يحافظ على كمال وضوئها ، وتمام ركوعها وسجودها ، فليس بمحافظ عليها ، ومن لم يحافظ عليها فقد ضيعها ، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع ، كما أن من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ، ولا دين لمن لا صلاة له .

ورحم الله أبا العتاهية حيث يقول :


أقم الصلاة لوقتها بطهورها ومن الضلال تفاوت الميقات

قال أبو عمر : إنما ذكرنا أحاديث هذا الباب - وإن كان فيها للمرجئة تعلق ; لأن المعتزلة أنكرت الحديث المروي في قوله : ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد ، إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له .

وقالت : من لم يأت [ ص: 301 ] بهن ، فهو في النار مخلد .

فردت الحديث المأثور في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من نقل العدول الثقات ، وأنكرت ما أشبهه من تلك الأحاديث ، ودفعت قول الله - عز وجل - ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) . فضلت وأضلت ، فذكرنا في هذا الباب من الآثار ما يضارع هذه الآية حجة عليهم - والحمد لله .




الخدمات العلمية