الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
518 - وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ، أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك . قال المغيرة : فتبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الغائط ، فحملت معه إداوة قبل الفجر ، فلما رجع أخذت أهريق على يديه من الإداوة ، فغسل يديه ووجهه ، وعليه جبة من صوف ، ذهب يحسر عن ذراعيه ، فضاق كم الجبة ، فأخرج يديه من تحت الجبة ، وألقى الجبة على منكبيه ، وغسل ذراعيه ، ثم مسح بناصيته وعلى العمامة ، ثم أهويت ، لأنزع خفيه ، فقال : " دعهما ; فإني أدخلتهما طاهرتين " فمسح عليهما ، ثم ركب وركبت ، فانتهينا إلى القوم ، وقد قاموا إلى الصلاة ، ويصلي بهم عبد الرحمن بن عوف ، وقد ركع بهم ركعة ، فلما أحس بالنبي صلى الله عليه وسلم ذهب يتأخر ، فأومأ إليه ، فأدرك النبي صلى الله عليه وسلم إحدى الركعتين معه ، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم وقمت معه ، فركعنا الركعة التي سبقتنا . رواه مسلم .

التالي السابق


518 - ( وعن المغيرة بن شعبة أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك ) قيل : تبوك غير منصرف للعلمية والتأنيث لا وزن الفعل ، وإن جعل اسم الموضع جاز صرفه - يعني التأنيث - باعتبار البقعة أو البلدة ، وقوله : " لا وزن " الفعل فيه نظر ، ولعله أراد أن وزنه فعول لا تفعل ، لكنه خلاف المفهوم من القاموس والنهاية . ( قال المغيرة : فتبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم ) في القاموس : برز بروزا أي : خرج إلى البراز كتبرز ، وفي النهاية البراز بالفتح اسم للفضاء الواسع ، فكنوا به عن قضاء الغائط كما كنوا عنه بالخلاء ; لأنهم كانوا يتبرزون في الأمكنة الخالية من الناس ، وبالكسر كناية عن الغائط اهـ . وعلى كل فلا معنى لقول ابن حجر أي : خرج إلى التبرز وهو قضاء الحاجة ، بل معنى تبرز هنا خرج وذهب على التجريد ; لقوله : ( قبل الغائط ) : بكسر القاف وفتح الباء أي : جانبه لقضاء الحاجة ، والغائط هو المكان المنخفض من الأرض .

[ ص: 474 ] قال ابن حجر : الغائط في الأصل المكان المطمئن من الأرض يقضى فيه الحاجة ، سمي باسم الخارج للمجاورة ، وإن أريد الحقيقة فواضح ، والتقدير : خرج للتبرز نحو المكان المذكور ، أو المجاورة ، فالتقدير خرج للتبرز لأجل الغائط اهـ . وفيه مع ركاكة عبارته - خرج للتبرز لأجل الغائط - المنافية لما سبق عنه أن يمنع من إرادة المجاور قوله : قبل الغائط ، فتأمل ( فحملت ) أي : ذاهبا ( معه إداوة ) بكسر الهمزة : مطهرة أو ركوة ; ليتوضأ منها ، وكان خروجه عليه الصلاة والسلام لقضاء الحاجة ( قبل الفجر ) وفيه دليل على استحباب المبادرة إلى تهيؤ أسباب العبادة قبل دخول أوقاتها ، ( فلما رجع ) أي : من قضاء الحاجة ( أخذت ) أي : شرعت ( أهريق ) : بضم الهمزة وفتح الهاء وتسكن أي : أصب الماء ( على يديه ) الكريمتين ( من الإداوة ) فيه دلالة على جواز الاستعانة في الطهارة ، سيما إذا أريد بها الإفادة والاستفادة ( فغسل يديه ) أي : كفيه ( ووجهه ) : الوجيه ، ولا دلالة فيه على عدم وجوب المضمضة والاستنشاق في الوضوء كما زعم ابن حجر ; لاحتمال عدم ذكره لهما إما اختصارا أو نسيانا أو لكونهما داخلين في حد الوجه من وجه على ما حققه في محله ومع تحقق الاحتمال لا يصح الاستدلال ( وعليه ) أي : على بدنه ، والواو للحال ( جبة من صوف ) فيه دليل على أن لبس الصوف مستحب ( ذهب ) أي : شرع وأخذ ، وهو استئناف ، ولا يبعد أن يكون حالا من الضمير المجرور ( يحسر ) بكسر السين وضمها أي : يكشف كميه ( عن ذراعيه ) أي : ليغسلهما ( فضاق كم الجبة ) بحيث لم يقدر أن يخرج يده إلى المرفق عن كم الجبة من غاية ضيقه ، فيه رد على إطلاق بعض الفقهاء أن لبس الإنسان غير زي أهل إقليمه يسقط المروءة ، ولذا قيل : محله فيمن لم يلبسه لحاجة ، أو لم يقصد التأسي بالسلف في عدم التكلف ، وترك النظر إلى هيئات العادات ، فإن ذلك أمر حدث فأناطوا به حكمه حيث لا حاجة ، ولا قصد للتأسي ، وإلا فقد قالت الصوفية : الإرادة ترك العادة ، نعم لو غير زيه على جهة عدم المبالاة الدالة على قلة الحياء وعدم التقييد بشيء من الأمور الشرعية والقواعد العرفية ، فيحكم بسقوط مروءته وعدم عدالته ، كما هو مقرر في محله ، ومنها الأكل في السوق .

وفي الحديث : أن الأصل فيما يجلب من بلاد المجوس ونحوهم من المتدنسين بالنجاسة الطهارة كالجوخ ، وإن اشتهر أنهم يعملونه بشحم الخنزير ، وكالجبن وإن قيل : إنهم يجعلون فيه أنافح الخنزير ، ويدل لذلك خبر أحمد ، أن عمر أراد أن ينهى عن حلل الحيرة ; لأنها تصبغ بالبول ، فقال له أبي : ليس لك ذلك ; قد لبسهن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولبسناهن معه ، وفي رواية للخلال من وجه آخر : أن أبيا قال له : يا أمير المؤمنين ، قد لبسها نبي الله ، ورأى الله مكانها ، لو علم الله أنها حرام لنهى عنها . فقال : صدقت .

وروى الطبراني بسند جيد ، لكنه غريب ، أنه عليه الصلاة والسلام أتي بجبنة في غزوة فقال له عليه الصلاة والسلام : " أين يصنع هذا ؟ قال : بفارس ، أي : أرض المجوس إذ ذاك . فقال عليه الصلاة والسلام : " ضعوا فيها السكين وكلوا " فقيل : يا رسول الله ، نخشى أن يكون ميتة . فقال " سموا الله وكلوا . وأخرج الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم أهدي له خفان فلبسهما ، ولا يعلم أهما ذكيا أم لا ؟ وفي حديث سلمان : النهي عن السؤال عن الجبن والسمن والفراء ، مع أنهما كانت تجلب من بلاد المجوس ، وذكر عند عمر الجبن ، وقيل : إنه يوضع فيه أنافح الميتة . فقال : سموا الله وكلوا . قال أحمد : أصح حديث في جبن المجوس هذا الحديث . ( فأخرج يديه من تحت الجبة ، وألقى الجبة ) أي : ذيلها ( على منكبيه ) فيه دليل على أنه كان تحته إزار أو قميص ، وإلا لظهرت العورة ( فغسل ذراعيه ، ثم مسح بناصيته ) وهي مقدرة بربع الرأس لما جاء في رواية : أنه مسح على مقدم رأسه ( وعلى العمامة ) بكسر العين ، في رحمة الأمة في اختلاف الأئمة : أن المسح على العمامة دون الرأس بغير عذر لا يجوز عند أبي حنيفة والشافعي ومالك ، وقال أحمد بجوازه ; بشرط أن يكون تحت الحنك منها شيء . قال ابن حجر : فيه أن مسح الرأس في الوضوء لا يجب استيعابه ولا استيعاب ربعه ; لأن الناصية دونه بكثير . قلنا : قدر الناصية بالربع ، وعلى [ ص: 475 ] سليم صحة منعه كان الواجب أن يقدر بمقدار معلوم كما قدره بعض أئمتنا بثلاث أصابع ; لأنها أقل ما اكتفى به عليه الصلاة والسلام لبيان الجواز مع استيعاب المسح بالمواظبة في سائر الحالات ، فلو كان أقل منه جائزا لفعله ولو مرة ، فالتقدير بمسمى - مسح وإن قل قدره - مخالف لظاهر النصوص ، وقول ابن حجر : إن ادعاء القائل باستيعاب الكل أن المسح على العمامة يحتمل أنه كان لعذر ، يرد بأن العذر لا يثبت بالاحتمال مدفوع بأنه عليه الصلاة والسلام لما كان مواظبا على الاستيعاب ، وهنا جمع بين مسح البعض من الرأس وبين مسحه على العمامة تكميلا للاستيعاب كان قرينة دالة على العذر ، لكنه إنما يتم لو لم يقع له مسح على بعض الرأس بدون مسح العمامة ، وقد ثبت في روايات متعددة والله تعالى أعلم . هذا ، وقال محمد في موطئه : أخبرنا مالك قال : بلغني عن جابر أنه سئل عن العمامة فقال : لا ، حتى يمس الشعر الماء ، ثم قال : وأخبرنا مالك عن نافع قال : رأيت صفية ابنة أبي عبيد توضأت ونزعت خمارها ، ثم تمسح برأسها . قال نافع : وأنا يومئذ صغير . قال محمد : بلغنا أن المسح على العمامة كان فترك ، ( ثم أهويت ) أي : قصدت الهوي من القيام إلى القعود ، وقيل : الإهواء إمالة اليد إلى شيء ليأخذه ، أي : انحنيت ( لأنزع خفيه ) ظنا أنه يجب غسل الرجلين في مطلق الأحوال ( فقال : " دعهما " ) أي : اتركهما ولا تنزعهما عن رجلي ( فإني أدخلتهما ) أي : لبستهما حال كون قدمي ( طاهرتين ) وفي رواية : فإني أدخلتهما وهما طاهرتان .

قال الشمني : ليس فيه دلالة لما ذهب إليه الشافعي من اشتراط الطهر بكونه تاما وقت اللبس ، إذ معناه : أدخلت كلا منهما وهي طاهرة ، على حد : دخلنا البلد ركبانا ; أي : دخل كل منا وهو راكب ، لا أن جميعنا راكب عند دخول كل منا اهـ .

والحاصل أن في مذهب الشافعي يشترط أن توجد الطهارة كاملة عند اللبس ، وفي مذهب أبي حنيفة عند الحدث ، ولهذا الاختلاف فروع محلها كتب الفقه . ( فمسح عليهما ) وفي نسخة ابن حجر : فمسح بهما ، وهو مخالف للنسخ المصححة ، واختلفوا في قدر الإجزاء ، فقال أبو حنيفة : يجزئه قدر ثلاثة أصابع ، وقال الشافعي : ما يقع عليه اسم المسح ، وقال أحمد : مسح الأكثر ، وقال مالك بالاستيعاب ( ثم ركب ) صلى الله عليه وسلم ( وركبت ) يعني : فسرنا ( فانتهينا ) أي : وصلنا ( إلى القوم ، وقد قاموا إلى الصلاة ) أي : صلاة الصبح ، جملة حالية ( ويصلي بهم ) أي : والحال أنه يصلي بهم إماما لهم ( عبد الرحمن بن عوف ، وقد ركع ) أي : صلى بهم ( ركعة ، فلما أحس ) أي : علم ( بالنبي ) أي : بمجيئه ( صلى الله عليه وسلم ذهب ) شرع ( يتأخر ) من موضعه ; ليتقدم النبي صلى الله عليه وسلم ( فأومأ ) بالهمز ( إليه ) أي : أشار إليه عليه الصلاة والسلام أن يكون على حاله ( فأدرك النبي صلى الله عليه وسلم إحدى الركعتين معه ) أي : مقتديا به يعني : اقتدى به في الركعة الثانية ، وفيه دليل على جواز اقتداء الأفضل بالمفضول إذا علم أركان الصلاة ، وعلى عدم اشتراط العصمة للإمام خلافا للإمامية ، ( فلما سلم ) أي : الإمام ( قام النبي صلى الله عليه وسلم ) لأداء ما سبق ( وقمت معه ) أي : لأني كنت مسبوقا أيضا . قال ابن حجر : ويؤخذ منه ما قاله أئمتنا أن المسبوق لا يجوز له القيام إلا بعد سلام الإمام ، فإن قام قبله بلا نية مفارقة عمدا عالما بطلت صلاته ، أو جاهلا أو ناسيا يجب جميع ما أتى به اهـ .

وقال علماؤنا : يكره كراهة تحريم أن يقوم إلى قضاء ما سبق قبل سلام الإمام ، إلا أن يكون القيام لضرورة صون صلاته عن الفساد كما إذا خشي إن انتظره أن تطلع الشمس قبل تمام صلاته في الفجر ، فإن قام قبل أن يقعد الإمام قدر التشهد ; فإن كان مسبوقا بركعة إن وقع من قراءته بعد فراغ الإمام من التشهد مقدار ما تجوز به الصلاة جازت صلاته ، وإلا فسدت صلاته ; لأن قيامه وقراءته قبل فراغ الإمام من التشهد لا يعتبر ، وهذه مسألة يفعلها الجاهلون ، والناس عنها غافلون . ( فركعنا ) أي : صلى كل منا ( الركعة التي سبقتنا ) أي : فاتتنا .

[ ص: 476 ] قال النووي : في الأصول بفتح السين والباء والقاف ، وبعدها تاء مثناة من فوق ساكنة أي : وجدت قبل حضورنا ، وأما بقاء عبد الرحمن في صلاته هذه ، وتأخر أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في صلاته في حديث آخر ; ليتقدم النبي صلى الله عليه وسلم ، فالفرق بينهما أن قضية عبد الرحمن كان قد ركع ركعة ، فترك النبي صلى الله عليه وسلم التقدم لئلا يختل ترتيب صلاة القوم ، بخلاف قضية أبي بكر ، نعم وقع لأبي بكر أنه مع الإشارة له بعدم التأخر تأخر ، ولعبد الرحمن أنه لم يتأخر ، فإما أن يقال بنظير ذلك من أن عبد الرحمن تذكر أن تأخره يضر بالقوم فلم يفعله ، وأبا بكر علم أنه لا ضرر في تأخره فتأخر ، وإما أن يقول - وهو الأحسن - : أن أبا بكر فهم أن سلوك الأدب أولى من امتثال الأمر بخلاف عبد الرحمن ، فإنه فهم أن امتثال الأمر أولى ، ولا شك أن الأول أكمل ; لأن الكلام في أمر علم بالقرائن أنه لرعاية حال المأمور دون الآمر ، ففي الامتثال إيهام إخلال بكمال الأدب مع الآمر ، وإن كان في الامتثال أدب أي أدب ، وفي إيثار الأدب إظهار رعاية حال الأمر ، والإعراض عن حال المأمور بكل وجه ، فكان هذا أولى وأكمل ، وقد يقال : إن أبا بكر من الفرح لم يملك نفسه عن التأخر ، وللمبالغة في امتناعه عن التقدم ، والله أعلم .

وجاء في رواية : أنه عليه الصلاة والسلام قال لهم بعد الفراغ منها : " أحسنتم ، صلوا الصلاة لوقتها " يعني لا تؤخروها بعد دخول وقت الاختيار لانتظار الإمام ، وإنما يستحب ترك انتظاره إذا مضى زمان كثير إن لم يعلموا أنه متى يجيء ، أما إذا علموا فيستحب الانتظار ، وإن كان موضع الإمام قريبا من المسجد يستحب إعلامه وقت الصلاة . ( رواه مسلم ) وروى البخاري أصل الحديث في اللباس وفي غيره ، ولم يذكر المسح على الناصية في كتابه ، ولا ذكر المسح على العمامة من حديث المغيرة ، ولا ذكر في كتابه صلاة عبد الرحمن بن عوف بالناس ، ولا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، كذا ذكره ميرك شاه .




الخدمات العلمية