الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        [ ص: 139 ] قال : ( والمعاني الموجبة للغسل : إنزال المني على وجه الدفق والشهوة من الرجل والمرأة حالة النوم واليقظة ) وعند الشافعي رحمه الله تعالىخروج المني كيفما كان يوجب الغسل ; لقوله عليه الصلاة والسلام : { الماء من الماء }أي الغسل من المني ، ولنا أن الأمر بالتطهير يتناول الجنب ، والجنابة في اللغة : خروج المني على وجه الشهوة ، يقال : أجنب الرجل : إذا قضى شهوته من المرأة ، والحديث محمول على خروج المني عن شهوة .

                                                                                                        ثم المعتبر عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى انفصاله عن مكانه على وجه الشهوة ، وعند أبي يوسف رحمه الله تعالىظهوره أيضا اعتبارا للخروج بالمزايلة ، إذ الغسل يتعلق بهما ، ولهما أنه متى وجب من وجه فالاحتياط في الإيجاب . [ ص: 140 - 143 ]

                                                                                                        ( والتقاء الختانين من غير إنزال ) لقوله عليه الصلاة والسلام : { إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة وجب الغسل أنزل أو لم ينزل }" لأنه سبب الإنزال ونفسه يتغيب عن بصره ، وقد يخفى عليه لقلته فيقام مقامه ، وكذا الإيلاج في الدبر لكمال السببية ، ويجب على المفعول به احتياطا ، بخلاف البهيمة وما دون الفرج ; لأن السبيبة ناقصة .

                                                                                                        قال : ( والحيض ) : لقوله تعالىحتى يطهرن بالتشديد ( و ) كذا ( النفاس ) للإجماع .

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        الحديث السابع والعشرون :

                                                                                                        قال النبي صلى الله عليه وسلم { الماء من الماء }" قلت : رواه مسلم ، وأبو داود من حديث أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { الماء من الماء }انتهى .

                                                                                                        ولفظ مسلم : { إنما الماء من الماء } ، وأخرجه مسلم في قصة من حديث { عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه ، قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين إلى قباء ، حتى إذا كنا في بني سالم وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب عتبان فصرخ به ، فخرج يجر إزاره ، فقال عليه السلام : أعجلنا الرجل فقال عتبان : يا رسول الله أرأيت الرجل يعجل عن امرأته ، ولم يمن ماذا عليه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما الماء من الماء }انتهى .

                                                                                                        وهذا السياق يدفع رواية من روى عن ابن عباس أن قوله عليه السلام : { الماء من الماء }إنما كان في الاحتلام ، رواهما الترمذي في " كتابه " فقال : حدثنا علي بن حجر نا شريك عن أبي الجحاف عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : إنما الماء من الماء في الاحتلام انتهى .

                                                                                                        وأسند عن وكيع ، قال : لم نجد هذا الحديث إلا عند شريك ، [ ص: 140 ] واسم أبي الجحاف " داود بن أبي عوف " قال الثوري : كان مرجئا انتهى .

                                                                                                        ورواه الطبراني في " معجمه " حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا محمد بن الصباح ثنا شريك عن أبي الجحاف عن عكرمة عن { ابن عباس ، قال : إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم : الماء من الماء في الاحتلام }" انتهى .

                                                                                                        الكلام على نسخ هذا الحديث : اعلم أن حديث { الماء من الماء }" حديث منسوخ ; لأن مفهومه عدم الغسل من الإكسال ، بل ورد في " الصحيحين " صريحا من حديث أبي بن كعب ، ومن حديث أبي سعيد ، أما حديث أبي بن كعب ، فرواه البخاري ، ومسلم من رواية { أبي أيوب عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يصيب من المرأة ، ثم يكسل ، فقال : يغسل ما أصابه من المرأة ، ثم يتوضأ ويصلي }" . انتهى .

                                                                                                        وأما حديث أبي سعيد ، فرواه البخاري ، ومسلم أيضا من رواية ذكوان عنه : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار فأرسل إليه ، فخرج ورأسه يقطر ماء ، فقال : لعلنا أعجلناك ؟ فقال : نعم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إذا عجلت أو قحطت فلا غسل عليك ، وعليك الوضوء } ، انتهى .

                                                                                                        وهذه الأحاديث كلها منسوخة ، وللناس في الاستدلال على نسخها طريقان : أحدهما : بالأحاديث .

                                                                                                        والثاني : رجوع من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم الحكم الأول . أما الأحاديث : فمنها ما ذكر فيها النسخ ، ومنها ما لم يذكر فيها . فالتي لم يذكر فيها النسخ ، بل فيها الغسل فقط ، حديثان :

                                                                                                        أحدهما : من رواية أبي هريرة . والآخر : من رواية أبي موسى ، فحديث أبي هريرة ، رواه البخاري ومسلم من حديث أبي رافع عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا جلس الرجل بين شعبها الأربع ، ثم جهدها فقد وجب الغسل }" . زاد مسلم في رواية : { وإن لم ينزل }انتهى .

                                                                                                        وأخرج مسلم قبل ذكره حديث أبي هريرة بهذا عن أبي العلاء بن الشخير رضي الله عنه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسخ حديثه بعضه بعضا ، كما ينسخ القرآن بعضه بعضا انتهى .

                                                                                                        وحديث أبي موسى رواه مسلم من حديث { أبي بردة عنه ، قال : اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار ، فقال الأنصاريون : لا يجب الغسل إلا من الدفن أو من الماء ، وقال المهاجرون : بل إذا خالط فقد وجب الغسل ، فقال أبو موسى : أنا أشفيكم من ذلك ، فقمت واستأذنت على عائشة ، فأذن لي ، فقلت لها : يا أماه إني أريد أن أسألك [ ص: 141 ] عن شيء وأني أستحييك ، فقالت : لا تستح أن تسألني عما كنت سائلا عنه أمك التي ولدتك ، فإنما أنا أمك ، قلت : فما يوجب الغسل ؟ قالت : على الخبير سقطت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا جلس بين شعبها الأربع ، ومس الختان الختان فقد وجب الغسل } ، انتهى .

                                                                                                        وأما الأحاديث التي صرح فيها بالنسخ ، فهي ثلاثة :

                                                                                                        أحدها : ما أخرجه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه عن يونس عن الزهري عن سهل بن سعد عن أبي بن كعب ، قال : إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ، ثم نهي عنها انتهى .

                                                                                                        قال الشيخ تقي الدين في " الإمام " ، وأعل هذا الحديث بأن فيه انقطاعا بين الزهري . وسهل ، يدل عليه رواية ابن ماجه ، قال : قال سهل بن سعد الساعدي : فلم يذكر الإخبار ، وعند أبي داود .

                                                                                                        وقال ابن وهب : أخبرني عمرو بن الحارث عن ابن شهاب ، قال : حدثني بعض من أرضى : أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن أبي بن كعب أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره ، وهذا يقتضي أن الزهري لم يسمعه من سهل ، وقد جزم بذلك البيهقي ، فقال : وهذا الحديث لم يسمعه الزهري من سهل إنما سمعه من بعض أصحابه عن سهل ، قال ابن خزيمة : وهذا الرجل الذي لم يسمه عمرو بن الحارث يشبه أن يكون أبا حازم بن سلمة بن دينار ; لأن مبشر بن إسماعيل روى هذا الخبر عن أبي غسان محمد بن مطرف عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن أبي بن كعب ، قال الشيخ : قلت : قد رواه بهذا السند أبو داود في " سننه " وابن حبان في " صحيحه " عن أبي جعفر الجمال عن مبشر بن إسماعيل بالسند المذكور ، ولفظه : عن أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يفتون : " أن الماء من الماء " كانت رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام ، ثم أمر بالاغتسال بعد انتهى .

                                                                                                        وأخرجه البيهقي في " سننه " من طريق أبي داود ، وقال قبل إخراجه : وقد رويناه بإسناد آخر صحيح موصول عن سهل بن سعد . ثم ذكره .

                                                                                                        وقال ابن أبي حاتم سألت أبي عن أحاديث : { الماء من الماء }فقال : كلها منسوخة بحديث سهل بن سعد عن أبي بن كعب ، قال الشيخ : وقد وقع لي رواية عن محمد بن جعفر من جهة أبي موسى عنه عن معمر عن الزهري ، وفيها قال : أخبرني سهل بن سعد ، فعليك بالبحث عنها ، فإنها مخالفة لما ذكره عمرو بن الحارث ، والله [ ص: 142 ] أعلم انتهى .

                                                                                                        الحديث الثاني : أخرجه ابن حبان في " صحيحه " عن الحسين بن عمران عن { الزهري ، قال : سألت عروة في الذي يجامع ولا ينزل ، قال : على الناس أن يأخذوا بالآخر ، فالآخر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ولا يغتسل ، وذلك قبل فتح مكة ، ثم اغتسل بعد ذلك ، وأمر الناس بالغسل }انتهى .

                                                                                                        وأخرجه الحازمي في " كتابه " من جهة ابن حبان ، وقال : هذا حديث قد حكم ابن حبان بصحته ، غير أن الحسين بن عمران كثيرا ما يأتي عن الزهري بالمناكير ، وقد ضعفه غير واحد من أهل الحديث .

                                                                                                        وعلى الجملة ، فالحديث بهذا السياق فيه ما فيه ، ولكنه حسن جيد في الاستشهاد قال الشيخ : الذي وجدته في " كتاب الضعفاء للعقيلي " أنه روى هذا الحديث ، ثم أعله بالحسين بن عمران ، وقال : لا يتابع على حديثه ، ولا يعلم هذا اللفظ عن عائشة إلا في هذا الحديث انتهى .

                                                                                                        وذكر العقيلي عن آدم بن موسى ، قال : سمعت البخاري يقول : حسين بن عمران الجهني لا يتابع على حديثه ، وكذلك ذكر أبو العرب القروي عن أبي بشر ، قال : ولم أقف على أكثر من هذا في حسين بن عمران ، وهو أخف من قول الحازمي ، وقد ضعفه غير واحد ، بل لو قيل : ليس فيه جزم بالتضعيف لم يبعد ذلك ، انتهى .

                                                                                                        الحديث الثالث : رواه أحمد في " مسنده " حدثنا قتيبة بن سعيد ثنا رشدين بن سعد عن موسى بن أيوب الغافقي عن بعض ولد رافع بن خديج عن { رافع بن خديج ، قال : ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على بطن امرأتي فقمت ، ولم أنزل ، فاغتسلت وخرجت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا عليك ، إنما الماء من الماء قال رافع : ثم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بالغسل }انتهى .

                                                                                                        وذكره الحازمي في " كتابه " وقال : هذا حديث حسن انتهى . وهذا فيه نظر ، فإن فيه رشدين بن سعد أكثر الناس على ضعفه ، [ ص: 143 ]

                                                                                                        وبعض ولد رافع مجهول العين والحال ، وحديث يشتمل سنده على ضعيف ومجهول كيف يكون حسنا ؟ قال الشيخ تقي الدين : وقد وقع لي تسمية ولد رافع في أصل سماع الحافظ السلفي ، وساق الشيخ سنده إلى رشدين بن سعد عن موسى بن أيوب عن سهل بن رافع بن خديج عن رافع بن خديج ، فذكره .

                                                                                                        الطريق الثاني : في الاستدلال على النسخ ، وهو أن بعض من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم الحكم الأول أفتى بوجوب الغسل ، أو رجع عن الأول ، فروى مالك عن يحيى بن سعيد عن عبد الله بن كعب مولى عثمان بن عفان أن محمود بن لبيد الأنصاري سأل زيد بن ثابت عن الرجل يصيب أهله ، ثم يكسل ولا ينزل ، فقال زيد : يغتسل ، فقال له محمود : إن أبي بن كعب كان لا يرى الغسل ، فقال له زيد : إن أبي بن كعب نزع عن ذلك قبل أن يموت ، قال الشافعي : لا أحسبه تركه ، إلا أنه ثبت له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعده ما نسخه ، وقال البيهقي : قول أبي بن كعب : { الماء من الماء }"

                                                                                                        ثم نزوعه عنه بعد ذلك على أنه ثبت عنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعده ما نسخه ، وكذلك عثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، وغيرهما .

                                                                                                        وروى مالك أيضا عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون : " إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل " والله أعلم انتهى .

                                                                                                        الحديث الثامن والعشرون : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا التقى الختانان وغابت الحشفة وجب الغسل ، أنزل أو لم ينزل }. قلت : رواه الإمام أبو محمد عبد الله بن وهب في " مسنده " أخبرنا الحارث بن نبهان عن محمد بن عبيد الله عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله { أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ، ما يوجب الغسل ؟ فقال : إذا [ ص: 144 ] التقى الختانان وغابت الحشفة وجب الغسل أنزل أو لم ينزل ، }انتهى .

                                                                                                        وذكره عبد الحق في " أحكامه " من جهة ابن وهب ، وكذلك الشيخ تقي الدين في الإمام ، قال عبد الحق : وإسناده ضعيف جدا انتهى .

                                                                                                        وكأنه يشير إلى الحارث بن نبهان وأورده بهذا اللفظ ، كما أورده المصنف ، صاحب المدونة ، من المالكية في " كتابه " وقد تقدم معنى الحديث في " الصحيحين " عن أبي هريرة مرفوعا { إذا قعد بين شعبها الأربع وجهدها فقد وجب الغسل }. زاد مسلم في رواية : { وإن لم ينزل } ، ولمسلم عن عائشة مرفوعا نحوه ، وفيه { ومس الختان الختان } ، ورواه الطبراني في " معجمه الوسط " أخبرنا عبد الله بن محمد الصفار التستري ثنا يحيى بن غيلان ثنا عبد الله بن بزيع عن أبي حنيفة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده { أن سائلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أيوجب الماء إلا الماء ؟ فقال : إذا التقى الختانان وغيبت الحشفة فقد وجب الغسل أنزل أو لم ينزل }" انتهى .




                                                                                                        الخدمات العلمية