الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الباب الثاني في أحكامه : قال صاحب التنبيهات مذهب الكتاب : أن القراض الفاسد يرد إلى أجرة المثل إلا في تسع مسائل : القراض بالعروض ، وإلى أجل ، وعلى الضمان ، والمبهم ، وبدين يقبضه من أجنبي ، وعلى شرك في المال ، وعلى أنه لا يشتري إلا بالدين فاشترى بالنقد ، وعلى أنه لا يشتري إلا سلعة كذا لما يكثر وجوده فاشترى غيرها ، وعلى أن يشتري عبد فلان بمال القراض ثم يبيعه ويتجر بثمنه ، وألحق بالتسعة عاشرة من غير الفاسد ، ففي الكتاب إذا اختلفا وأتيا بما لا يشبه له قراض المثل ، والضابط كل منفعة اشترطها أحدهما على صاحبه ليست خارجة عن المال ولا خالصة لمشترطها ، ومتى كانت خارجة من المال أو كان غررا حراما فأجرة المثل ، فعلى هذه الثلاثة الأمور تدور المسائل وقاله : ابن حبيب ، إلا أنه يرى أن إجارة المثل في الربح ، فإن لم يكن فلا شيء له والمشهور أنها متعلقة بالذمة ربح أم لا ، وقراض المثل متعلق بالربح إن كان وإلا فلا شيء له ، وعن [ ص: 44 ] مالك قراض المثل مطلقا وعند محمد قراض المثل ما لم يزد على المسمى إن كان رب المال المشترط ، وإلا فالأقل من قراض المثل ، والأجرة أو المسمى . وقال ابن نافع في المغيا : إلى أجل يسقط الشرط ويصح العقد ، وعنه أيضا لمشترط الزيادة إسقاطها ، وتصح كإسقاط شرط السلف في البيع ، فإن أتما فأجرة المثل ، وقال عبد العزيز : بالأجرة مطلقا في كل فاسد و ( ش ) و ( ح ) نظرا لاستيفاء العمل بغير عقد صحيح وإلغاء العقد بالكلية ، فهذه سبعة أقوال ، قال صاحب القبس : فيها خمسة أقوال ، ثالثها لابن القاسم إن كان الفساد في العقد فقراض المثل ، أو الزيادة فأجرة المثل ، ورابعها لمحمد الأقل من قراض المثل أو المسمى ، وخامسها تفصيل ابن القاسم ، قال غيره : وقد نظم بعضهم مسائل ابن القاسم فقال :

                                                                                                                وأجرة مثل في القراض تعينت سوى تسعة قد خالف الشرع حكمه     قراض عروض واشتراط ضمانه
                                                                                                                وتحديد وقت والتباس يضمه     وإن شرطا في المال شركا لعامل
                                                                                                                وأن يشترى بالدين فاختل رسمه     وأن يشتري غير المعين للشرا
                                                                                                                فاعط قراض المثل من حال عزمه     وأن يقتضي الدين الذي عند غيره
                                                                                                                ويتجر فيه عاملا لا يذمه     وأن يشتري عبد لزائد بيعه
                                                                                                                ويتجر فيما ابتاعه ويلمه

                                                                                                                وفي الجواهر ضابطها كل ما شرط فيه رب المال على العامل أمرا فضره به على نظره ، أو اشترط زيادة لنفسه ، أو شرطها العامل لنفسه فأجرة المثل ، وإلا فقراض المثل ، قال : وفصل ابن الحارث أن ما فسد لزيادة لا تحل ، أو [ ص: 45 ] تخصيص لا ينبغي ، فأجرة المثل ، وإلا فقراض المثل إلا في مسألتين : اشتراط الضمان وإمساك المال مدة معينة فقراض المثل ، قال : وعكس قول ابن حبيب غيره فجعل القراض متعلقا بالذمة ، فإذا جمعت هذه الأقوال من هذه الأمهات تزيد على العشرة :

                                                                                                                تمهيد : منشأ الخلاف أمران أحدهما أن المستثنيات من العقود إذا فسدت هل ترد إلى صحيح أنفسها كفاسد البيع ، أو إلى صحيح أصلها ، والقراض مستثنى من الإجارة فيكون المستحق أجرة المثل ; لأن الشرع إنما استثنى الصحيح ; لاشتماله على القوانين الشرعية ، فإذا فسد المستثنى رجعنا إلى أصله ; لأن الشرع لم يستثن الفاسد ، فهو مبقي على العدم وله أصل يرجع إليه وهو الفرق بينها وبين البيع أن البيع ليس له أصل آخر يرجع إليه في ذلك قولان ، وثانيهما أن أسباب الفساد إذا تأكدت بطلت حقيقة القراض بالكلية ، فتتعين الإجارة وإن لم تتأكد اعتبرنا القراض ، ثم النظر بعد ذلك في المفسد هل هو متأكد أم لا ، هو تحقيق مناط ، وأما جعل الجميع في الربح فلرضاه بالربح ، وجعل الجميع في الذمة فلسقوط العقد .

                                                                                                                فرع : مرتب : في النكت قال ابن القاسم حيث يكون له أجرة المثل ، فهو أسوة الغرماء لتعلقها بالذمة ، وحيث يكون قراض المثل أو مساقاة المثل فهو أحق بما في يده من الغرماء في الموت والفلس لتعلق حقه بالمال . قال عبد الحق : ينبغي إذا كان أجيرا في المساقاة أن يكون أولى بالثمن في الفلس فقط ، قال سحنون : إذا كان له [ ص: 46 ] أجرة مثله وفيما عمله بعد ذلك قراض مثله فهو أحق بما في يده في الموت والفلس ولم يوجد لغيره .

                                                                                                                فرع : في النكت قال ابن حبيب : يفسخ القراض الفاسد متى عثر عليه قبل العمل أو بعده ، ويرد إلى قراض المثل أو أجرة المثل ، وتفسخ المساقاة قبل العمل مطلقا وبعده إن كانت ترد إلى مساقاة المثل لم يفسخ ، وإلا فسخت ، وقال غيره : لا تفسخ بعد العمل مطلقا .

                                                                                                                فرع : قال ابن يونس : نمنع هدية كليكما لصاحبه للتهمة على التمادي فهو بذل مال في مجهول ، وقد أجاز محمد ترك العامل للنفقة بعد شغل المال وهو هبة لوجوب النفقة له بالسفر ، ومنعه قبل الشغل لعدم لزوم القراض ، فكأنك اشترطت عدم النفقة في العقد وهو ممنوع لمخالفة موجبة .

                                                                                                                فرع : في الكتاب إذا اختلفا في جزء الربح قبل العمل رد المال لعدم اللزوم ، إلا أن يرضى بقولك أو بعده صدق كالصانع ; لأنه بائع لعمله إن أشبه قوله ، وإلا فقراض مثله ، وكذلك المساقاة ، فإن ادعى جزءا ما نحو مائة درهم ونصف ما بقي صدقت ، لدعواك الحلال ; لأنه أصل تصرفات المسلمين ، قال اللخمي : إن سلم المال بعد العمل تسليم إيداع حتى ينفصلا فكعدم التسليم ، أو تسليم بت [ ص: 47 ] ويكون جزء المال سلفا عندك ، صدقت لحصول يدك على المال ، فإن ادعى النصف وادعيت مائة وله ثلث الربح جمع كلاكما بين الحلف على إثبات دعواه ونفي دعوى صاحبه ، فإن نكلت وحلف فله دعواه إن حلفتما على إثبات الدعوى ، وإلا فإن حلفت ونكل خير بين قراض المثل باليمين المتقدمة أو تحلف يمينا ثانية على إثبات دعواك وتأخذ أجرة المثل ، وإن حلف أولا ونكلت خير بين قراض المثل باليمين الأولى ، أو يحلف ثانية على إثبات دعواه ويأخذها .

                                                                                                                فرع : في الكتاب عقدا على الثلثين واختلفا لمن هما صدق ; لأنه البائع لعمله ، قال ابن يونس : قال محمد : إن اتفقا على عدم تبيين ذلك جعلته لمن يشبه أن يكون ذلك له ، فإن أشبههما فللعامل ; لأنه بائع لعمله ولم يرض بإخراجه بدون ذلك ويحلف ، قال ابن يونس : إنما يصدق بعد العمل ، وقال : كانت نيتي ذلك ويحلف أنه كذلك نوى ، فإن نكل حلفت على نيتك ، قال بعض القرويين : هذا إذا كان ادعى كلاهما أنه فهم عن صاحبه ذلك ، أما إن قال : لم أفهم عن صاحبي شيئا ، لكني ظننت ذلك فالربح بينهما نصفان ; لأن كليهما سلم الثلث لصاحبه ونازع في الثلث الآخر فيقسم بينهما . قال ابن يونس : ويلزمه ذلك إذا ادعياه مطلقا ، لكن لما كان العامل حائزا صدق فيهما ولا عبرة بما قال ، قال صاحب النكت : اشتراط محمد الأشبه خلاف المدونة ، قال اللخمي : إن ادعى كلاهما أنه فهم ذلك عن صاحبه بقرائن ، فكما في النكت وإن لم [ ص: 48 ] يكن إلا العقد فسد القراض ورد إلى قراض المثل ; لأنها معاملة بمجهول إلا أن يكون عادة فيأخذ الثلثين من عادته الثلثان .

                                                                                                                فرع : في الكتاب إذا قلت : مالي سلف عندك وقال : قراض أو وديعة صدقت مع يمينك ; لأن وضع اليد ظاهر في الضمان وهو يدعي إسقاطه ، قال ابن يونس : إن قلت : قراض ، وقال سلف : صدق ; لأنك تدعي الربح والأصل عدم استحقاقك له ، وقال أشهب : إنما يصدق في السلف إذا حرك المال ، فإن تسلف قبل العمل صدق ، وعن مالك يصدق مطلقا ; لأن الأصل عدم الضمان ، وإذا قلت : وديعة وقال : قراض أو قلت : قراض وقال : وديعة أو قلت : قراض وقال : بضاعة ، أو قلت : غصب وقال : وديعة أو قلت : أقبضتك من قراض أو رددته إليك من قراض كان لك عندي ، وقال : أودعتنيه ، قال مالك وابن القاسم في هذا كله : تصدق أنت ، وإنما يفارق ابن القاسم إذا قلت : قرض وقال قراض : أو وديعة أو قلت : وديعة أو قراض وقال قرض : أو قلت : وفيتكه من قرض أو رددته من قراض ، وقال وديعة : وقد ضاع صدقت عند ابن القاسم في هذه الثلاث فقط ، وإذا قلت : قرض وقال : قراض وفي المال ربح وقف نصيبك من الربح ; لأنك أنكرته ، فإن طال تصدق به ، وكذلك إذا قلت : وديعة عن ابن القاسم لورثتك أخذه إن أحب المقدم دفعه من غير قضاء ; لأن موروثهم مات عن غير حق ، وفي الكتاب : إن قلت : أبضعتكه فعمل به وقال قراض : صدقت مع يمينك وعليك أجرة المثل ، قال ابن يونس : قال سحنون : إلا أن يكون دعواه من [ ص: 49 ] الربح أقل من أجرة المثل . فله الأقل ، فإن نكلت صدق مع يمينه إن كان ممن يستعمل مثله في القراض ، قال محمد : إن كان الربح أقل من أجرة المثل أو مثلها لا يحلف ويأخذه ، أو أكثر حلفت ، فإن نكلت حلف إن كان يستعمل مثله في القراض ، وقيل : إن كانت العادة أن للبضاعة أجرا صدق إن كان أقل من نصف الربح ; لأنه يؤول إلى اختلاف في الربح كقولك الثلث وقوله النصف ، فيصدق إذا أشبه مع يمينه وإن كانت إجارة مثله نصف الربح فأكثر فلا أيمان ويعطى نصف الربح ، وإن كانت البضاعة لا أجر لها فهو كقولك عملته لي باطلا ، وقال بأجر فإنه يصدق ، وعلى قول الغير يتحالفان وله الأقل من أجرة المثل أو ما أقر به ، قال : وقوله : إن كان مثله يستعمل في القراض مستغنى عنه ; لأن من نكل فقد مكن خصمه من دعواه أشهد أم لا ، قال اللخمي : إن قلت : بضاعة بغير أجرة صدقت ، أو مثله لا يقارض أو مثل تلك السلعة لا تكون قراضا ليسارتها صدقت أيضا ، وإن قال بضاعة بأجر وقلت : قراض صدق مع يمينه على الإجارة ، وأنت تقول جعالة وإن اختلفتما في القرض والقراض فأيكما يصدق قولان لمالك ، وقال أشهب : يصدق بعد تحريك ; لأنه مدعى عليه الضمان ، وتصدق أنت إذا ضاع بعد التجر ; لأنه يدعى تحريكه على ملكك وأنه لم ينتقل ، وفي الكتاب إذا ادعيت الوديعة وادعى القراض صدقت لدعواه طرح الضمان عن نفسه ، قال ابن يونس : قال ابن القاسم : إن كان المال في [ ص: 50 ] سلعة بعينها فبيعت بفضل قيل له : إن سلمت أنه قراض ادفع الربح من غير قضاء ، فإن دفع لا يقضى عليك بأجرة ، وقال ابن القاسم : إن ادعى الوديعة وادعيت القراض والمال في سلعة صدق ; لأنك تدعي الربح ، وإن رجع إليك بعد البيع لم يصدق .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية