الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي ، رحمه الله تعالى : " وليس لأحد سافر في معصية أن يقصر ، ولا يمسح مسح المسافر ، فإن فعل أعاد ولا تخفيف على من سفره في معصية " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال : إذا سافر منشئا لسفر في معصية الله سبحانه كقطع الطريق ، وإخافة السبيل ، والسعي بالفساد ، أو خرج باغيا على مسلم ، أو معاهد ، أو أبقا من شدة ، أو هاربا من حق لزمه وهو قادر على بذله إلى غير ذلك من معاصي الله سبحانه ، فليس له أن يترخص بشيء من رخص السفر بحال .

                                                                                                                                            قال : لا يقصر من صلاته ، ولا يفطر في صيامه ، ولا يمسح ثلاثا على خفه ، ولا يتنفل على الراحلة حيث ما توجهت ، ولا يأكل الميتة إن خاف على نفسه . وبه قال مالك ، وأحمد ، وقال أبو حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي ، والمزني : العاصي في سفره كالطائع في استباحة الرخص تعلقا بقوله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة [ النساء : 101 ] . فكان على عمومه في كل هارب من طائع ، أو عاص ، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم : إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة قالوا : ولأن كل صلاة جاز الاقتصار فيها على ركعتين استوى في فعلها الطائع ، والعاصي كالجمعة ، والصبح .

                                                                                                                                            قالوا : ولأن للمقيم رخصة وللمسافر رخصة فلو منعت المعصية من رخصة المسافر لمنعت من رخصة المقيم ، فلما جاز للمقيم أن يترخص أيضا ، وإن كان عاصيا ، جاز للمسافر أن يترخص أيضا وإن كان عاصيا ، وقالوا : ولأنه لو أنشأ سفرا في طاعة من حج ، أو جهاد ، ثم جعله معصية لسعيه بالفساد جاز أن يستبيح رخص السفر ، كذلك إذا أنشأ سفره عاصيا .

                                                                                                                                            وتحريره قياسا أن يقول : لأنه مسافر فجاز أن يستبيح الرخص مع المعصية كما لو طرأت المعصية في سفره قالوا : ولأنه لما جاز للعاصي أن يتيمم في سفره إجماعا ، ولم تمنعه المعصية من التيمم كذلك لا تمنعه من سائر الرخص كالقصر وغيره .

                                                                                                                                            [ ص: 388 ] قالوا : ولأن المعصية لو منعته من أكل الميتة عند الضرورة في سفره لاستباح بالمعصية قتل نفسه : لأنه إذا امتنع من أكلها أفضى به الجوع إلى التلف ، وقتل النفس محرم عليه لقوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم [ النساء : 29 ] . ولأن معصيته لما لم تبح له قتل غيره لم تبح له قتل نفسه .

                                                                                                                                            والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة والدم [ المائدة : 3 ] . فأطلق تحريم الميتة عموما ، ثم استثنى من جملة التحريم مضطرا ليس بعاص فقال تعالى : فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم [ المائدة : 3 ] . أي غير مرتكب لمعصية ، فإن الله غفور رحيم .

                                                                                                                                            فوجب أن يكون العاصي المضطر كالطائع الذي ليس بمضطر في تحريم الميتة عليهما لعموم التحريم .

                                                                                                                                            وقال سبحانه : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم [ البقرة : 173 ] . فحرم الميتة تحريما عاما ، واستثنى منه مضطرا غير باغ ولا عاد ، قال الشافعي : غير باغ على الإمام ، ولا عاد على المسلمين ، فإن قيل : إنما أراد بقوله تعالى : غير متجانف لإثم [ المائدة : 3 ] . أي : غير مرتكب لتناول ما زاد على سد رمقه ، وبقوله : " غير باغ " أي غير طالب لأكل ما لا حاجة له إليه ، وبقوله : ولا عاد ، أي : لا متعمد فيها بعد سد رمقه .

                                                                                                                                            قيل عن هذا جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : استعماله في الأمرين ، وحمل على العموم في الموضعين .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : وهو المرضي أن هذا التأويل لا يصح لأن الله تعالى أباح الميتة لمضطر غير باغ ، ولا عاد ، فلم يجز حمله على من زاد على سد رمقه ، لأنه غير مضطر ، والإباحة لمضطر على حق ، فعلم أن المراد بها عدم المعصية .

                                                                                                                                            ومن الدليل على ما ذكرنا : هو أن رخص السفر متعلقة بالسفر ، ومنوطة به ، فلما كان سفر المعصية ممنوعا منه لأجل المعصية وجب أن يكون ما تعلق به من الرخص ممنوعا منه لأجل المعصية .

                                                                                                                                            فإن قيل : هذا باطل بما إذا جرح نفسه فعجزه عن القيام ، يجوز له أن يصلي قاعدا ، وإن كان الجرح معصية ، وكذلك المرأة إذا ضربت بطنها فألقت ما فيه ، فإنه تسقط عنها الصلاة في مدة النفاس وإن كان الضرب معصية ، قلنا : جواز القعود إنما يتعلق بالعجز عن القيام ، والعجز في نفسه غير معصية ، وإنما هو متولد عن الضرب الذي هو معصية ، وكذلك الصلاة إنما تسقط بوجود النفاس وليس النفاس معصية ، وإنما هو متولد عن الإسقاط الحادث عن سبب هو معصية ، فلذلك ما جوزناه ، وسبب هذه الرخص هو السفر لا غير وهو في نفسه [ ص: 389 ] معصية لأن السفر حركاته التي هو عليها معاقب فلم يجز أن يجلب التخفيف والرخص ، ولأن ما يتعلق بالسفر من رخصة تخفيف من الله سبحانه على عباده لما يلحقهم من المشقة فيه ليكون ذلك معونة لهم وقوة على سفرهم ، والعاصي لا يستحق المعونة فلم يجز أن يستبيح الرخصة ، ولأنه لما كان سفر المعصية مانعا من صلاة الخوف لأجل المعصية وجب أن يكون مانعا من سائر الرخص لأجل المعصية ، وتحريره قياسا أن السبب المحظور لا يسقط شيئا من فرض الصلاة كالخوف بالقتال المحظور لا يبيح صلاة شدة الخوف ، ولأن الرخص إذا استبيحت بشرط ، وكان الشرط مردودا بالشرع صار مفقودا كالمطلقة ثلاثا لما شرط في عودها إلى الأول نكاح زوج ثان ، ثم كان نكاح الزوج الثاني لورود الشرع بفساده كان وجوده كعدمه في تحريمها على الأول ، كذلك القصر لما كان مشروطا بالسفر وكان سفره لمعصية مردودا بالشرع صار كالمعدوم ، وإذا عدم السفر حرمت الرخصة .

                                                                                                                                            فأما تعلقهم بالآية والخبر فأدلتنا مخصصة لهما ، وأما قياسهم على الجمعة والصبح فوصف العلة غير موجود في الأصل عندنا ، وفي الأصل والفرع عندهم ، على أن المعنى في الجمعة وفي الصبح أن الاقتصار فيهما على ركعتين لا يختص بسبب من جهته فلا يقع الفرق بينهما من طاعته ، ومعصيته ، ولما كانت رخص السفر بسبب حادث من جهته ، وهو السفر وقع الفرق فيه بين طاعته ومعصيته فاستباح الرخص مع الطاعة ومنع منها مع المعصية ، وأما جمعهم بين معصية المقيم ، والمسافر في جواز استباحة الرخص ، فقد كان أبو سعيد الاصطخري يمنع المقيم منها كما يمنع المسافر ويجمع بينهما في حظر الرخص عليهما ، فعلى هذا بطل استدلالهم به ، وذهب سائر أصحابنا إلى أن المقيم يجوز له أن يترخص وإن كان عاصيا بخلاف المسافر .

                                                                                                                                            والفرق بينهما أن الإقامة نفسها ليست معصية : لأنها كف وإنما الفعل الذي توقعه في الإقامة معصية ، فلما لم تكن الإقامة معصية لم تمنع الرخص ، والسفر في نفسه معصية ، لأنه فعل ، وحركة يتوصل بها إلى المعاصي فكانت معصية ، وإذا كان السفر معصية لم يجز أن يبيح الرخص .

                                                                                                                                            فإن قيل : قد تكون نفس الإقامة معصية وهو أن ينوي الإقامة لزنا ، أو قتل إنسان .

                                                                                                                                            قيل : لا تكون الإقامة معصية ، وإنما المعصية هو العزم على الفعل ، وما نواه من الرق ، والقتل ، ألا تراه يعاقب على عزمه ، ولا يعاقب على نية مقامه ، والسفر حركات هو عليها معاقب ، فعلم أن السفر معصية ، والإقامة ليست بمعصية .

                                                                                                                                            وأما الجواب عمن أحدث المعصية في سفره ، وقد أنشأه طائعا فليس للشافعي فيه نص ، ولأصحابنا فيه وجهان :

                                                                                                                                            [ ص: 390 ] أحدهما : وهو قول أبي القاسم الداركي وعزاه لأصحابنا : لا يجوز له أن يترخص كالمنشئ لسفره في معصية فعلى هذا سقط استدلالهم به .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو قول عامة أصحابنا : يجوز أن يترخص لأن الذي جلب له هذه الرخص إحداث السفر ، وإحداثه لم يكن معصية ، وفي مسألتنا إحداثه معصية فافترقا في استباحة الرخص .

                                                                                                                                            وأما ما ذكره من التيمم فلا يختلف مذهبنا في جواز التيمم ، ولكن هل يلزمه إعادة الصلاة أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يعيد ، فعلى هذا لا تخفيف .

                                                                                                                                            والثاني : لا إعادة عليه ، والفرق بينه وبين سائر الرخص أن الرخص يخير بين فعلها وتركها ، والتيمم واجب عليه ، وليس له الخيار بين تركه ، وفعله ، وإن تركه كان عاصيا بتركه ، ولو ترك الرخصة لم يكن عاصيا بتركها فافترقا .

                                                                                                                                            وأما قولهم : إن في منع المضطر العاصي من أكل الميتة إتلاف نفسه ، وحراسة نفسه واجب ، قلنا : إذا اضطر إلى أكلها وهو عاص وجب عليه أكلها لإحياء نفسه غير أنه لا يجوز أن يأكل إلا بعد إحداث التوبة ، كما أن من دخل عليه وقت الصلاة ، وهو محدث فقد وجب عليه فعل الصلاة ، غير أنه لا يجوز له فعلها محدثا إلا بعد الطهارة لأنه قادر عليها كما أن المضطر العاصي قادر على التوبة .

                                                                                                                                            فإذا ثبت أن العاصي ممنوع في سفره من رخص السفر كلها ، ففي جواز مسحه على خفه يوما وليلة وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يجوز لأنه ممنوع من رخص السفر ، والمسح يوما وليلة رخصة للمقيم ، والوجه الثاني : لا يجوز أن يمسح على خفيه أصلا ، لأنه عاص في سفره فلم يجز أن يترخص .

                                                                                                                                            وليس من حيث كان للمقيم أن يفعل ما يدل على أن له أن يفعله ، ألا ترى أن المضطر يأكل الميتة ، وهو مقيم ، ثم إنه لا يدل على أنه يأكلها مسافرا عاصيا بسفره .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية