الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الفصل الثاني : في وجوب الإمامة وبيان طرقها ، لا بد للأمة من إمام يقيم الدين ، وينصر السنة ، وينتصف للمظلومين ، ويستوفي الحقوق ويضعها مواضعها .

                                                                                                                                                                        [ ص: 43 ] قلت : تولي الإمامة فرض كفاية ، فإن لم يكن من يصلح إلا واحدا ، تعين عليه ولزمه طلبها إن لم يبتدئوه . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وتنعقد الإمامة بثلاثة طرق ، أحدها : البيعة ، كما بايعت الصحابة أبا بكر رضي الله عنهم ، وفي العدد الذي تنعقد الإمامة ببيعتهم ستة أوجه ، أحدها : أربعون ، والثاني : أربعة ، والثالث : ثلاثة ، والرابع : اثنان ، والخامس : واحد ، فعلى هذا يشترط كون الواحد مجتهدا .

                                                                                                                                                                        وعلى الأوجه الأربعة يشترط أن يكون في العدد المعتبر مجتهد لينظر في الشروط المعتبرة ، ولا يشترط أن يكون الجميع مجتهدين ، والسادس وهو الأصح : أن المعتبر بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء وسائر وجوه الناس الذين يتيسر حضورهم ، ولا يشترط اتفاق أهل الحل والعقد في سائر البلاد والأصقاع ، بل إذا وصلهم خبر أهل البلاد البعيدة ، لزمهم الموافقة والمتابعة ، وعلى هذا لا يتعين للاعتبار عدد ، بل لا يعتبر العدد ، حتى لو تعلق الحل والعقد بواحد مطاع ، كفت بيعته ; لانعقاد الإمامة ، ويشترط أن يكون الذين يبايعون بصفة الشهود ، وذكر في " البيان " في اشتراط حضور شاهدين البيعة ، وجهين .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح : لا يشترط إن كان العاقدون جمعا ، وإن كان واحدا ، اشترط الإشهاد ، وقد قال إمام الحرمين في كتابه الإرشاد : قال أصحابنا : يشترط حضور الشهود لئلا يدعى عقد سابق ، ولأن الإمامة ليست دون النكاح ، لكن اختيار الإمام انعقادها بواحد ، وذكر الماوردي أنه يشترط في العاقدين : العدالة والعلم والرأي ، وهو كما قال . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ويشترط ; لانعقاد الإمامة أن يجيب المبايع ، فإن امتنع ، لم تنعقد إمامته ، ولم يجبر عليها .

                                                                                                                                                                        [ ص: 44 ] قلت : إلا أن لا يكون من يصلح إلا واحد ، فيجبر بلا خوف . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الطريق الثاني : استخلاف الإمام من قبل ، وعهده إليه ، كما عهد أبو بكر إلى عمر رضي الله عنهما ، وانعقد الإجماع على جوازه ، والاستخلاف أن يعقد له في حياته الخلافة بعده ، فإن أوصى له بالإمامة ، فوجهان حكاهما البغوي ، ولو جعل الأمر شورى بين اثنين فصاعدا بعده ، كان كالاستخلاف ، إلا أن المستخلف غير متعين ، فيتشاورون ، ويتفقون على أحدهم ، كما جعل عمر رضي الله عنه الأمر شورى بين ستة ، فاتفقوا على عثمان رضي الله عنه ، وذكر الماوردي أنه يشترط في المعهود إليه شروط الإمامة من وقت العهد إليه حتى لو كان صغيرا أو فاسقا عند العقد ، بالغا عدلا عند موت العاهد ، لم يكن إماما ، إلا أن يبايعه أهل الحل والعقد ، وقد يتوقف في هذا .

                                                                                                                                                                        قلت : لا توقف فيه ، فالصواب الجزم بما ذكره الماوردي ، والفرق بينه وبين الوصي ظاهر . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وذكر الماوردي أنه إذا عهد إلى غائب مجهول الحياة ، لم يصح ، وإن كان معلوم الحياة ، صح ، فإن مات المستخلف وهو بعد غائب ، استقدمه أهل الاختيار ، فإن بعدت غيبته وتضرر المسلمون بتأخير النظر في أمورهم ، اختار أهل الحل والعقد نائبا له يبايعونه بالنيابة دون الخلافة ، فإذا قدم انعزل النائب ، وأنه إذا عزل الخليفة نفسه ، كان كما لو مات ، فتنتقل الخلافة إلى ولي العهد ، ويجوز أن يفرق بين أن يقول : الخلافة بعد موتي لفلان ، أو بعد خلافتي .

                                                                                                                                                                        [ ص: 45 ] قلت : توقف إمام الحرمين في كتابه " الإرشاد " في انعزال الإمام بعزله نفسه . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وذكر الماوردي أنه يجوز العهد إلى الوالد والولد ، وفيه مذهبان آخران ، أحدهما : المنع ، كالتزكية والحكم لهما ، والثاني : يجوز للوالد دون الولد ، لشدة الميل إليه ، وأن ولي العهد لو أراد أن ينقل ما إليه من العهد إلى غيره ، لم يجز ، وأنه لو عهد إلى جماعة مرتبين ، فقال الخليفة : بعد موتي فلان ، وبعد موته فلان ، وبعد موته فلان ، جاز ، وانتقلت الخلافة إليهم على ما رتب ، كما رتب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراء جيش مؤتة ، وأنه لو مات الأول في حياة الخليفة ، فالخلافة للثاني ، ولو مات الأول والثاني في حياته ، فهي للثالث ، وأنه لو مات الخليفة وبقي الثلاثة أحياء ، فانتصب الأول للخلافة ، ثم إن أراد أن يعهد بها إلى غير الآخرين ، فالظاهر من مذهب الشافعي رحمه الله جوازه ; لأنها لما انتهت إليه صار أملك بها بخلاف ما إذا مات ولم يعهد إلى أحد ، فليس لأهل البيعة أن يبايعوا غير الثاني ، ويقدم عهد الأول على اختيارهم وأنه ليس لأهل الشورى أن يعينوا واحدا منهم في حياة الخليفة إلا أن يأذن لهم في ذلك ، فإن خافوا انتشار الأمر بعده استأذنوه ، فإن أذن ، فعلوه ، وأنه يجوز للخليفة أن ينص على من يختار خليفة بعده ، كما يجوز أن يعهد إلى غيره ، ثم لا يصح إلا اختيار من نص على أنه يختار ، كما لا يصح إلا تقليد من عهد إليه ، وأنه إذا عهد إلى غيره بالخلافة ، فالعهد موقوف على قبول المعهود إليه ، واختلف في وقت قبوله ، فقيل : بعد موت الخليفة ، والأصح أن وقته ما بين عهد الخليفة وموته ، قال صاحب " التتمة " : وإذا امتنع المعهود إليه من القبول بويع غيره ، وكأنه لا عهد ، وكذا إذا جعل الأمر شورى ، فترك القوم الاختيار لا يجبرون عليه ، وكأنه لم يجعل الأمر إليهم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 46 ] قلت : ومما ذكره الماوردي في الأحكام السلطانية من هذا ، أنه لو جمع شروط الإمامة اثنان ، استحب لأهل العقد أن يعقدوها لأسنهما ، فإن عقدوها للآخر ، جاز ، فإن كان أحدهما أعلم ، والآخر أشجع ، روعي في الاختيار ما يوجبه حكم الوقت ، فإن دعت الحاجة إلى زيادة الشجاعة لظهور البغاة وأهل الفساد ، كان الأشجع أحق ، وإن دعت إلى زيادة العلم لسكون الفتن ، وظهور البدع ، كان الأعلم أحق ، وأنه لو تنازعها اثنان ، فقد قال بعض الفقهاء : يقدح ذلك فيهما فيعدل إلى غيرهما ، والذي عليه الجمهور : أنه لا يقدح ; لأن طلب الخلافة ليس مكروها ، ثم هل يقرع بينهما عند التساوي ، أم يقدم أهل الاختيار من شاءوا بلا قرعة ؟ فيه خلاف ، وأن الخليفة إذا أراد العهد ، لزمه أن يجتهد في الأصلح ، فإذا ظهر له واحد ، جاز أن ينفرد بعقد بيعته من غير حضور غيره ، ولا مشاورة أحد ، وأن المعهود إليه إذا استعفى ، لم يبطل عهده حتى يعفى ، فإن وجد غيره ، جاز استعفاؤه ، وخرج من العهد باجتماعهما ، وإن لم يوجد غيره ، لم يجز إعفاؤه ولا استعفاؤه ، ويبقى العقد لازما . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        وأما الطريق الثالث ، فهو القهر والاستيلاء ، فإذا مات الإمام ، فتصدى للإمامة من جمع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة ، وقهر الناس بشوكته وجنوده ، انعقدت خلافته لينتظم شمل المسلمين ، فإن لم يكن جامعا للشرائط بأن كان فاسقا ، أو جاهلا ، فوجهان ، أصحهما : انعقادها لما ذكرناه ، وإن كان عاصيا بفعله .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو تفرد شخص بشروط الإمامة في وقته ، لم يصر إماما بمجرد ذلك ، بل لا بد من أحد الطرق .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية