الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          ولا يعفى عن يسير شيء من النجاسات إلا الدم وما تولد منه من القيح والصديد وأثر الاستنجاء وعنه : في المذي والقيء ، وريق البغل والحمار وسباع البهائم والطير وعرقها ، وبول الخفاش والنبيذ والمني : أنه كالدم ، وعنه في المذي : أنه يجزئ فيه النضح .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          ( ولا يعفى عن يسير شيء من النجاسات ) لقوله تعالى وثيابك فطهر [ المدثر 4 ] والأحاديث مستفيضة بذلك ( إلا الدم ) فإنه يعفى عن يسيره في الصلاة دون المائعات [ ص: 247 ] والمطعومات ، فإن الإنسان غالبا لا يسلم منه ، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم ، ولقول عائشة : ما كان لإحدانا إلا ثوب تحيض فيه ، فإذا أصابه شيء من دم ، قالت بريقها ، فمصعته بظفرها ، وهذا يدل على العفو عنه ، لأن الريق لا يطهر ، ويتنجس به ظفرها ، وهو إخبار عن دوام الفعل ، ومثله لا يخفى عنه عليه السلام ، فلا يصدر إلا عن أمره ، وعن ابن عمر : أنه كان يخرج من يديه دم في الصلاة من شقاق كان بهما ، وعصر بثرة فخرج منها دم فمسحه ، ولم يغسله ، ولأنه يشق التحرز منه ، فعفي عنه كأثر الاستجمار ، وقيل : يختص بدم نفسه ، واليسير : الذي لم ينقض الوضوء ، والكثير : ما نقض الوضوء ، والدم المعفو عنه : ما كان من آدمي أو حيوان طاهر لا الكلب ، ولا الخنزير .

                                                                                                                          بقي هاهنا صور : منها دم ما لا نفس له سائلة كالبق ، والقمل ، والبراغيث في ظاهر المذهب ، وعنه : نجس ، ويعفى عن يسيره قال في دم البراغيث : إني لأفزع منه إذا كثر ، قال في " الشرح " : ليس فيه تصريح بنجاسته بل هو دليل التوقف .

                                                                                                                          ومنها : دم السمك فإنه طاهر ، لأنه لو كان نجسا لتوقفت إباحته على إراقته بالذبح كحيوان البر ، ولأنه يستحيل ماء ، وقيل : نجس .

                                                                                                                          ومنها : دم الشهيد فإنه نجس ، وقيل : طاهر ، وعليهما يستحب بقاؤه ، فيعايا بها ذكره ابن عقيل . وقيل : طاهر ما دام عليه ، صححه ابن تميم . [ ص: 248 ] ومنها : الدم الذي يبقى في اللحم وعروقه طاهر ، ولو غلبت حمرته في القدر ، لأنه لا يمكن التحرز ، فهو وارد على إطلاقه ، ويدفع بالعناية .

                                                                                                                          ومنها : العلقة التي يخلق منها الآدمي والحيوان الطاهر طاهر في رواية صححها ابن تميم ، لأنها بدء خلق آدمي ، وعنه : نجسة صححها في " المغني " كسائر الدماء .

                                                                                                                          ( وما تولد منه من القيح والصديد ) بل العفو عنهما أولى لاختلاف العلماء في نجاستهما ، لذلك قال أحمد : وأسهل من الدم . قال في " الشرح " : فعلى هذا يعفى منه عن أكثر مما يعفى عن مثله في الدم ، لأن هذا لا نص فيه ، وإنما ثبتت نجاسته لاستحالته من الدم ، وعنه : طهارة قيح ومدة وصديد .

                                                                                                                          مسألتان : الأولى : ماء القروح نجس في ظاهر نقل الإمام ، وقال في " شرح العمدة " : إن كان متغيرا فهو كالقيح ، وإلا فهو طاهر كالعرق .

                                                                                                                          الثانية : إذا تفرق دم مسفوح في غير الصحراء ، فإذا اجتمع لم يكن قدر ما يعفى عنه فكثير حكما في الأشهر ، وإن نفذ من جانبي جبة أو ثوب صفيق ، فكدم واحد في الأصح ، كما لو نفذ من أحدهما ، وإن لم ينفذ ، ولم يتصل بالآخر فهما نجاستان إذا بلغا أو جمعا قدرا لا يعفى عنه ، لم يعف عنها كجانبي الثوب ( وأثر الاستنجاء ) أي : الاستجمار ، فإنه يعفى عنه بعد الإنقاء ، واستيفاء العدد بغير خلاف نعلمه ، قاله في " الشرح " واقتضى ذلك نجاسته ، وهو قول أكثر [ ص: 249 ] الأصحاب ، لأن الباقي عين النجاسة ، فعلى هذا عرقه نجس ، فينجس الماء اليسير بقعوده فيه ، واختار ابن حامد طهارته .

                                                                                                                          ( وعنه : في المذي والقيء وريق البغل والحمار وسباع البهائم والطير وعرقها وبول الخفاش ، والنبيذ والمني أنه كالدم ، وعنه : في المذي أنه يجزئ فيه النضح ) نقول : المذي مختلف فيه لتردده بين البول ، لكونه لا يخلق منه الحيوان ، والمني لكونه ناشئا عن الشهوة ، والمذهب : نجاسته ، ويعفى عن يسيره في ردائه ، جزم بها في " الوجيز " وهو قول جماعة من التابعين وغيرهم ، لأنه يخرج من الشباب كثيرا فيشق التحرز منه ، وعنه : يكتفى فيه بالنضح لحديث سهل بن حنيف قال : قلت يا رسول الله ، كيف بما يصيب ثوبي ؛ قال : يكفيك أن تأخذ كفا من ماء فتنضح به ثوبك حيث ترى أنه قد أصاب منه رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وصححه ، والمذهب : أنه لا يطهر بنضحه ، ولا يعفى عن يسيره ، لأنه عليه السلام أمر بغسل الذكر منه ، ولأنه نجاسة خارج من الذكر كالبول ، وهل يغسل ما أصابه أو جميع ذكره أو أنثييه ؛ فيه روايات ، وعنه : طاهر كالمني اختاره ، أبو الخطاب في خلافه ، لأنه خارج بسبب الشهوة ، وقيل : إن قلنا : مخرجه مخرج المني فله حكمه ، واقتضى ذلك أن الودي ، وهو ماء أبيض يخرج عقيب البول نجس ، وأنه لا يعفى عنه مطلقا ، وصرح به الأصحاب ، وعنه : هو كالمذي .

                                                                                                                          وأما القيء ، وهو طعام استحال في الجوف إلى نتن وفساد ، فقال أحمد : هو عندي بمنزلة الدم ، وذكره القاضي ، وجزم به في " الوجيز " لأنه خارج نجس من [ ص: 250 ] غير السبيل أشبه الدم ، والثانية عدم العفو عنه مطلقا ، قدمها في " الفروع " وهي أشهر ، لأن الأصل عدم العفو عن النجاسة إلا فيما خص ، وقيده في " الوجيز " بالنجس احترازا عن قيئ المأكول .

                                                                                                                          وأما ريق البغل ، والحمار ، وعرقهما فيعفى عن يسيره إذا قيل بالنجاسة ، لأنه يشق التحرز منه ، قال في " الشرح " : هو الظاهر عن أحمد ، قال الخلال : وعليه مذهبه ، قال أحمد : من يسلم من هذا ممن يركب الحمير إلا أني أرجو أن يكون ما جف منه أسهل ، والثانية : لا يعفى عنه لما تقدم ، وريق سباع البهائم كالأسد ، ونحوه ما عدا الكلب والخنزير ، وريق سباع الطير كالبازي ، ونحوه ، وعرقها ، فيعفى عن يسيره للاختلاف في نجاستها ، وبول الخفاش ، وهو واحد الخفافيش ، وهو الذي يطير ليلا يعفى عن يسيره في رواية ، جزم بها في " الوجيز " لأنه يشق التحرز منه ، لكونه في المساجد كثيرا ، فلو لم يعف عنه لم يقر في المساجد ، ولما أمكن الصلاة في بعضها ، وقدم في " الفروع " وغيره خلافها ، ونبيذ نجس ، وهو المختلف فيه ، ويعفى عن يسيره في رواية جزم بها في " الوجيز " لوقوع الخلاف في نجاسته ، والثانية : لا يعفى عنه مطلقا ، قدمها في " الفروع " وصححها في " شرح العمدة " ودل أن المجمع عليه لا يعفى عن شيء منه ، قال في " شرح العمدة " : رواية واحدة ، والمني سيأتي الكلام عليه .

                                                                                                                          مسائل ملحقة به ، منها : بول ما يؤكل لحمه إذا قيل بنجاسته ، فإنه يعفى عن يسيره في قول ، لأنه يشق التحرز منه .

                                                                                                                          [ ص: 251 ] ومنها : سؤر الجلالة إذا حبست ، وأكلت الطاهرات المدة المعتبرة فهو طاهر ، وقيل ذلك في العفو عن يسيره روايتان ، وكذا عرقها .

                                                                                                                          ومنها طين الشارع : فهو طاهر ما لم تعلم نجاسته ، وعنه : نجس فيعفى عن يسيره ، ويسير دخان نجاسة في وجه ، وأطلق أبو المعالي العفو عنه ، ولم يقيده باليسير ، لأن التحرز منه لا سبيل إليه ، قال في " الفروع " : هذا متوجه .




                                                                                                                          الخدمات العلمية