الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 141 ] فصل

              ومنها : أن تكون التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمي تعقلها ، ليسعه الدخول تحت حكمها .

              أما الاعتقادية - بأن تكون من القرب للفهم ، والسهولة على العقل بحيث يشترك فيها الجمهور ، من كان منهم ثاقب الفهم أو بليدا ، فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص لم تكن الشريعة عامة ، ولم تكن أمية ، وقد ثبت كونها كذلك ، فلا بد أن تكون المعاني المطلوب علمها واعتقادها سهلة المأخذ .

              وأيضا; فلو لم تكن كذلك لزم بالنسبة إلى الجمهور تكليف ما لا يطاق ، وهو غير واقع كما هو مذكور في الأصول ، ولذلك تجد الشريعة لم تعرف من الأمور الإلهية إلا بما يسع فهمه ، وأرجت غير ذلك ، فعرفته بمقتضى الأسماء والصفات ، وحضت على النظر في المخلوقات إلى أشباه ذلك ، وأحالت فيما يقع فيه الاشتباه على قاعدة عامة ، وهو قوله تعالى : ليس كمثله شيء [ الشورى : 11 ] ، وسكتت عن أشياء لا تهتدي إليها العقول ، نعم ، لا ينكر [ ص: 142 ] تفاضل الإدراكات على الجملة ، وإنما النظر في القدر المكلف به .

              ومما يدل على ذلك أيضا أن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يبلغنا عنهم من الخوض في هذه الأمور ما يكون أصلا للباحثين والمتكلفين ، كما لم يأت ذلك عن صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام ، وكذلك التابعون المقتدى بهم لم يكونوا إلا على ما كان عليه الصحابة ، بل الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه النهي عن الخوض في الأمور الإلهية وغيرها; حتى قال : لن يبرح الناس يتساءلون ، حتى يقولوا : هذا الله خالق كل شيء ، فمن خلق الله ؟ .

              وثبت النهي عن كثرة السؤال ، وعن تكلف ما لا يعني عاما في الاعتقاديات والعمليات ، وأخبر مالك أن من تقدم كانوا يكرهون الكلام إلا فيما تحته عمل ، وإنما يريد ما كان من الأشياء التي لا تهتدي العقول لفهمها مما [ ص: 143 ] سكت عنه ، أو مما وقع نادرا من المتشابهات محالا به على آية التنزيه .

              وعلى هذا; فالتعمق في البحث فيها وتطلب ما لا يشترك الجمهور في فهمه خروج عن مقتضى وضع الشريعة الأمية; فإنه ربما جمحت النفس إلى طلب ما لا يطلب منها; فوقعت في ظلمة لا انفكاك لها منها ، ولله در القائل :


              وللعقول قوى تستن دون مدى إن تعدها ظهرت فيها اضطرابات

              .

              ومن طماح النفوس إلى ما لم تكلف به نشأت الفرق كلها أو أكثرها .

              وأما العمليات ; فمن مراعاة الأمية فيها أن وقع تكليفهم بالجلائل في الأعمال والتقريبات في الأمور ، بحيث يدركها الجمهور كما عرف أوقات الصلوات بالأمور المشاهدة لهم; كتعريفها بالظلال ، وطلوع الفجر والشمس ، وغروبها وغروب الشفق ، وكذلك في الصيام في قوله تعالى : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود [ البقرة : 187 ] ولما كان فيهم من حمل العبارة على حقيقتها; نزل : من الفجر .

              وفي الحديث : إذا أقبل الليل من هاهنا ، وأدبر النهار من هاهنا ، وغربت الشمس; فقد أفطر الصائم .

              [ ص: 144 ] وقال : نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب ، الشهر هكذا وهكذا .

              وقال : لا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم; فأكملوا العدة ثلاثين .

              ولم يطالبنا بحساب مسير الشمس مع القمر في المنازل; لأن ذلك لم يكن من معهود العرب ولا من علومها ، ولدقة الأمر فيه ، وصعوبة الطريق إليه ، وأجرى لنا غلبة الظن في الأحكام مجرى اليقين ، وعذر الجاهل فرفع [ ص: 145 ] عنه الإثم ، وعفا عن الخطأ ، إلى غير ذلك من الأمور المشتركة للجمهور ، فلا يصح الخروج عما حد في الشريعة ، ولا تطلب ما وراء هذه الغاية ، فإنها مظنة الضلال ، ومزلة الأقدام .

              فإن قيل : هذا مخالف لما نقل عنهم من تدقيق النظر في مواقع الأحكام ، ومظان الشبهات ، ومجاري الرياء ، والتصنع للناس ، ومبالغتهم في التحرز من الأمور المهلكات - التي هي عند الجمهور من الدقائق - التي لا يهتدي إلى فهمها والوقوف عليها إلا الخواص ، وقد كانت عندهم عظائم ، وهي مما لا يصل إليها الجمهور .

              وأيضا لو كانت كذلك لم يكن للعلماء مزية على سائر الناس ، وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم خاصة وعامة ، وكان للخاصة من الفهم في الشريعة ما لم يكن للعامة ، وإن كان الجميع عربا وأمة أمية ، وهكذا سائر القرون إلى اليوم ، فكيف هذا ؟

              وأيضا; فإن الشريعة قد اشتملت على ما تعرفه العرب عامة ، وما يعرفه العلماء خاصة ، وما لا يعلمه إلا الله تعالى ، وذلك المتشابهات فهي شاملة لما يوصل إلى فهمه على الإطلاق ، وما لا يوصل إليه على الإطلاق ، وما يصل إليه البعض دون البعض ، فأين الاختصاص بما يليق بالجمهور خاصة ؟

              فالجواب أن يقال : أما المتشابهات; فإنها من قبيل غير ما نحن فيه لأنها إما راجعة إلى أمور إلهية لم يفتح الشارع لفهمها بابا غير التسليم والدخول تحت [ ص: 146 ] آية التنزيه ، وإما راجعة إلى قواعد شرعية; فتتعارض أحكامها ، وهذا خاص مبني على عام هو ما نحن فيه ، وذلك أن هذه الأمور كلها يجاب عنها بأوجه :

              أحدها : أنها أمور إضافية لم يتعبد بها أول الأمر للأدلة المتقدمة ، وإنما هي أمور تعرض لمن تمرن في علم الشريعة وزاول أحكام التكليف ، وامتاز عن الجمهور بمزيد فهم فيها ، حتى زايل الأمية من وجه ، فصار تدقيقه في الأمور الجليلة بالنسبة إلى غيره ممن لم يبلغ درجته ، فنسبته إلى ما فهمه ، نسبة العامي إلى ما فهمه ، والنسبة إذا كانت محفوظة ، فلا يبقى تعارض بين ما تقدم ، وما ذكر في السؤال .

              والثاني : أن الله تعالى جعل أهل الشريعة على مراتب ليسوا فيها على وزان واحد ، ورفع بعضهم فوق بعض ، كما أنهم في الدنيا كذلك ، فليس من له مزيد في فهم الشريعة ، كمن لا مزيد له ، لكن الجميع جار على أمر مشترك .

              والاختصاصات فيها هبات من الله لا تخرج أهلها عن حكم الاشتراك ، بل يدخلون مع غيرهم فيها ، ويمتازون هم بزيادات في ذلك الأمر المشترك [ ص: 147 ] بعينه ، فإن امتازوا بمزيد الفهم لم يخرجهم ذلك عن حكم الاشتراك ، فإن ذلك المزيد أصله الأمر المشترك .

              كما نقول : إن الورع مطلوب من كل أحد على الجملة ، ومع ذلك فمنه ما هو من الجلائل ، كالورع عن الحرام البين والمكروه البين ، ومنه ما ليس من الجلائل عند قوم ، وهو منها عند قوم آخرين ، فصار الذين عدوه من الجلائل داخلين في القسم الأول على الجملة ، وإن كانوا قد امتازوا عنهم بالورع عن بعض ما لا يتورع عنه القسم الأول ، بناء على الشهادة بكون الموضع متأكدا لبيانه أو غير متأكد لدقته ، وهكذا سائر المسائل التي يمتاز بها الخواص عن العوام لا تخرج عن هذا القانون; فقد بان أن الجميع جارون على حكم أمر مشترك مفهوم للجمهور على الجملة .

              والثالث : أن ما فيه التفاوت إنما تجده في الغالب في الأمور المطلقة في الشريعة التي لم يوضع لها حد يوقف عنده ، بل وكلت إلى نظر المكلف ، فصار كل أحد فيها مطلوبا بإدراكه ، فمن مدرك فيها أمرا قريبا ، فهو المطلوب منه ، ومن مدرك فيها أمرا هو فوق الأول ، فهو المطلوب منه ، وربما تفاوت [ ص: 148 ] الأمر فيها بحسب قدرة المكلف على الدوام فيما دخل فيه وعدم قدرته ، فمن لا يقدر على الوفاء بمرتبة من مراتبه لم يؤمر بها ، بل بما هو دونها ، ومن كان قادرا على ذلك كان مطلوبا ، وعلى هذا السبيل يعتبر ما جاء مما يظن أنه مخالف لما تقدم ، والله أعلم .

              فلهذا المعنى بعينه وضعت العمليات على وجه لا تخرج المكلف إلى مشقة يمل بسببها ، أو إلى تعطيل عاداته التي يقوم بها صلاح دنياه ، ويتوسع بسببها في نيل حظوظه ، وذلك أن الأمي الذي لم يزاول شيئا من الأمور الشرعية ولا العقلية - وربما اشمأز قلبه عما يخرجه عن معتاده - بخلاف من كان له بذلك عهد ، ومن هنا كان نزول القرآن نجوما في عشرين سنة ، ووردت الأحكام التكليفية فيها شيئا فشيئا ، ولم تنزل دفعة واحدة ، وذلك لئلا تنفر عنها النفوس دفعة واحدة ، وفيما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أن ابنه عبد الملك ، قال له : " ما لك لا تنفذ الأمور ؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق " . قال له عمر : " لا تعجل يا بني فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين ، وحرمها في الثالثة ، وإنى أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة ، فيدفعوه جملة ، ويكون من ذا فتنة " .

              [ ص: 149 ] وهذا معنى صحيح معتبر في الاستقراء العادي; فكان ما كان أجرى بالمصلحة وأجرى على جهة التأنيس ، وكان أكثرها على أسباب واقعة; فكانت أوقع في النفوس حين صارت تنزل بحسب الوقائع ، وكانت أقرب فكانت أوقع في النفوس حين صارت تنزل بحسب الوقائع ، وكانت أقرب إلى التأنيس حين كانت تنزل حكما حكما وجزئية جزئية ، لأنها إذا نزلت كذلك لم ينزل حكم إلا والذي قبله قد صار عادة ، واستأنست به نفس المكلف الصائم عن التكليف ، وعن العلم به رأسا ، فإذا نزل الثاني كانت النفس أقرب للانقياد له ، ثم كذلك في الثالث والرابع .

              ولذلك أونسوا في الابتداء بأن هذه الملة ملة إبراهيم عليه السلام ، كما يؤنس الطفل في العمل بأنه من عمل أبيه ، يقول تعالى : ملة أبيكم إبراهيم [ الحج : 78 ] .

              ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين [ النحل : 123 ] .

              إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه [ آل عمران : 68 ] .

              إلى غير ذلك من الآيات ، فلو نزلت دفعة واحدة لتكاثرت التكاليف على المكلف; فلم يكن لينقاد إليها انقياده إلى الحكم الواحد أو الاثنين .

              [ ص: 150 ] وفي الحديث : الخير عادة وإذا اعتادت النفس فعلا ما من أفعال الخير حصل له به نور في قلبه ، وانشرح به صدره; فلا يأتي فعل ثان إلا وفي النفس له القبول ، هذا في عادة الله في أهل الطاعة ، وعادة أخرى جارية في الناس أن النفس أقرب انقيادا إلى فعل يكون عندها فعل آخر من نوعه ، ومن هنا كان عليه الصلاة والسلام يكره أضداد هذا ويحب ما يلائمه ، فكان يحب الرفق ويكره العنف ، وينهى عن التعمق والتكلف والدخول تحت ما لا يطاق حمله; لأن هذا كله أقرب إلى الانقياد ، وأسهل في التشريع للجمهور .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية