الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3132 ] [ ص: 3133 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      سورة الشورى والزخرف والدخان والجاثية

                                                                                                                                                                                                                                      الجزء الخامس والعشرون

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3134 ] [ ص: 3135 ] (42) سورة الشورى مكية وآياتها ثلاث وخمسون

                                                                                                                                                                                                                                      بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      حم (1) عسق (2) كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم (3) له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم (4) تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم (5) والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل (6) وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير (7) ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير (8) أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير (9) وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب (10) فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11) له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم (12) شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم .إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من [ ص: 3136 ] ينيب (13) وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب (14) فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير (15) والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد (16) الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب (17) يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد (18) الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز (19) من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب (20) أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم (21) ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير (22) ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور (23) أم .يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور (24)

                                                                                                                                                                                                                                      هذه السورة تعالج قضية العقيدة كسائر السور المكية; ولكنها تركز بصفة خاصة على حقيقة الوحي والرسالة، حتى ليصح أن يقال: إنها هي المحور الرئيسي الذي ترتبط به السورة كلها; وتأتي سائر الموضوعات فيها تبعا لتلك الحقيقة الرئيسية فيها.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3137 ] هذا مع أن السورة تتوسع في الحديث عن حقيقة الوحدانية، وتعرضها من جوانب متعددة; كما أنها تتحدث عن حقيقة القيامة والإيمان بها; ويأتي ذكر الآخرة ومشاهدها في مواضع متعددة منها. وكذلك تتناول عرض صفات المؤمنين وأخلاقهم التي يمتازون بها. كما تلم بقضية الرزق: بسطه وقبضه; وصفة الإنسان في السراء والضراء.

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن حقيقة الوحي والرسالة، وما يتصل بها، تظل - مع ذلك - هي الحقيقة البارزة في محيط السورة، والتي تطبعها وتظللها. وكأن سائر الموضوعات الأخرى مسوقة لتقوية تلك الحقيقة الأولى وتوكيدها.

                                                                                                                                                                                                                                      ويسير سياق السورة في عرض تلك الحقيقة، وما يصاحبها من موضوعات أخرى بطريقة تدعو إلى مزيد من التدبر والملاحظة. فهي تعرض من جوانب متعددة. يفترق بعضها عن بعض ببضع آيات تتحدث عن وحدانية الخالق. أو وحدانية الرازق. أو وحدانية المتصرف في القلوب. أو وحدانية المتصرف في المصير.. ذلك بينما يتجه الحديث عن حقيقة الوحي والرسالة إلى تقرير وحدانية الموحي - سبحانه - ووحدة الوحي. ووحدة العقيدة. ووحدة المنهج والطريق. وأخيرا وحدة القيادة البشرية في ظل العقيدة.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم يرتسم في النفس خط الوحدانية بارزا واضحا، بشتى معانيه وشتى ظلاله وشتى إيحاءاته، من وراء موضوعات السورة جميعا.. ونضرب بعض الأمثلة من السورة إجمالا، قبل أن نأخذ في التفصيل:

                                                                                                                                                                                                                                      نبدأ بالأحرف المقطعة: " حا. ميم. عين. سين. قاف " .. يليها: كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم .. مقررا وحدة مصدر الوحي في الأولين والآخرين: إليك وإلى الذين من قبلك ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يستطرد السياق في صفة الله العزيز الحكيم: له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم .. مقررا وحدانية المالك لما في السماوات والأرض واستعلاءه وعظمته على وجه الانفراد.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يستطرد استطرادا آخر في وصف حال الكون تجاه قضية الإيمان بالمالك الواحد، وتجاه الشرك الذي يشذ به بعض الناس: تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن، والملائكة يسبحون بحمد ربهم، ويستغفرون لمن في الأرض، ألا إن الله هو الغفور الرحيم، والذين اتخذوا من دونه أولياء، الله حفيظ عليهم، وما أنت عليهم بوكيل .. فإذا الكون كله مشغول بقضية الإيمان والشرك حتى إن السماوات ليكدن يتفطرن من شذوذ بعض أهل الأرض، بينما الملائكة يستغفرون لمن في الأرض جميعا من هذه الفعلة الشنعاء التي جاء بها بعض المنحرفين!

                                                                                                                                                                                                                                      وبعد هذه الجولة يعود السياق إلى الحقيقة الأولى: وكذلك أوحينا إليك، قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها، وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه، فريق في الجنة وفريق في السعير ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يستطرد مع فريق في الجنة وفريق في السعير .. فيقرر أن لو شاء الله لجعلهم أمة واحدة. ولكن مشيئته اقتضت - بما له من علم وحكمة - أن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير .. ويقرر أن الله وحده هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير ..

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم يعود إلى الحقيقة الأولى، حقيقة الوحي والرسالة، فيقرر أن الحكم فيما يختلف فيه البشر من شيء هو الله الذي أنزل هذا القرآن ليرجع إليه الناس في كل اختلاف: وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله. ذلكم الله ربي عليه توكلت، وإليه أنيب ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويستطرد مع الربوبية إلى وحدانية الخالق وتفرد ذاته. ووحدانية المتصرف في مقادير السماوات والأرض، وفي بسط الرزق وقبضه. وفي علمه بكل شيء: فاطر السماوات والأرض، جعل لكم من أنفسكم أزواجا، [ ص: 3138 ] ومن الأنعام أزواجا، يذرؤكم فيه، ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير. له مقاليد السماوات والأرض، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، إنه بكل شيء عليم ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يعود إلى الحقيقة الأولى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا، والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه. كبر على المشركين ما تدعوهم إليه. الله يجتبي إليه من يشاء، ويهدي إليه من ينيب. وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم، وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب. فلذلك فادع واستقم كما أمرت، ولا تتبع أهواءهم وقل: آمنت بما أنزل الله من كتاب ... إلخ ..

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى مثل هذا النسق تمضي السورة في عرض هذه الحقيقة; محوطة بمثل هذا الجو، وهذه الاستطرادات المتعلقة بقضايا العقيدة الأخرى، المثبتة في الوقت ذاته للحقيقة الأولى التي تبدو كأنها موضوع السورة الرئيسي.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا النسق واضح وضوحا كاملا في هذا الدرس الأول من السورة. فالقارئ يلتقي بعد كل بضع آيات بحقيقة الوحي والرسالة في جانب من جوانبها.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما الدرس الثاني ويؤلف بقية السورة، فيبدأ باستعراض بعض آيات الله في بسط الرزق وقبضه; وفي تنزيل الغيث برحمته; وفي خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة; وفي الفلك الجواري في البحر كالأعلام. ويستطرد من هذه الآيات إلى صفة المؤمنين التي تفردهم وتميز جماعتهم. فإلى مشهد من مشاهد القيامة يعرض صورة الظالمين لما رأوا العذاب: يقولون هل إلى مرد من سبيل، وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي .. واستعلاء المؤمنين يومئذ ووقوفهم موقف المقرر لحال الظالمين:

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الذين آمنوا: إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة. ألا إن الظالمين في عذاب مقيم .. وفي ظل هذا المشهد يدعو الناس إلى إنقاذ أنفسهم من مثل هذا الموقف قبل فوات الأوان: استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله، ما لكم من ملجإ يومئذ، وما لكم من نكير ..

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم يعود إلى الحقيقة الأولى في السورة. حقيقة الوحي والرسالة. في جانب من جوانبها: فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ ... .

                                                                                                                                                                                                                                      ويمضي سياق السورة حتى ختامها يدور حول هذا المحور مباشرة أو غير مباشرة، مع طابع الاستطراد بين كل إشارة وإشارة إلى تلك الحقيقة، حتى يكون ختام السورة هذا البيان في شأن الوحي والرسالة: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء، إنه علي حكيم. وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا، ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور ..

                                                                                                                                                                                                                                      وبعد فمن وراء التركيز على حقيقة الوحي والرسالة في سياق السورة كله يبرز هدف خاص لعرضها على هذا النحو وفي هذا التتابع.

                                                                                                                                                                                                                                      هذا الهدف هو تعيين القيادة الجديدة للمبشرين ممثلة في الرسالة الأخيرة، ورسولها، والأمة المسلمة التي تتبع نهجه الإلهي الثابت القويم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية