الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 322 ]

                المسألة الثالثة

                إذا مات في أثناء الموسع ، قبل فعله وضيق وقته ، لم يمت عاصيا ، لأنه فعل مباحا ، وهو التأخير الجائز . لا يقال : إنما جاز بشرط سلامة العاقبة ، لأنا نقول : ذلك غيب ، فليس إلينا ، وإنما الشرط ، العزم والتأخير إلى وقت يغلب على ظنه البقاء إليه ، فلو أخره مع ظن الموت قبل الفعل ، عصى اتفاقا ، فلو لم يمت ، ثم فعله في وقته ، فالجمهور على أنه أداء لوقوعه في وقته . وقال القاضي أبو بكر : هو قضاء ؛ لأنه تضيق عليه بمقتضى ظنه الموت قبل فعله ، ففعله بعد ذلك خارج عن الوقت المضيق . وقد ألزم وجوب نية القضاء ، وهو بعيد ، إذ لا قضاء في وقت الأداء ، وأنه لو اعتقد قبل الوقت انقضاءه ، عصى بالتأخير وله التزامه ومنع وقت الأداء في الأول ، وتعصيته في الثاني ، لعدوله عما ظنه الحق . والظن مناط التعبد ، بدليل عدم جواز تقليد المجتهد مثله .

                "

                التالي السابق


                المسألة الثالثة "

                " إذا مات " يعني المكلف " في أثناء " وقت الواجب " الموسع قبل فعله ، وضيق وقته " مثل أن مات بعد زوال الشمس ، وقد بقي من وقت الظهر ما يتسع لفعلها ، ولم يصلها " لم يمت عاصيا ، لأنه فعل مباحا وهو التأخير الجائز " بحكم توسيع الوقت .

                أما لو أخره حتى ضاق الوقت عن فعله ، مثل أن مات ولم يبق من الوقت ما يتسع إلا لأقل من أربع ركعات ، فإنه يموت عاصيا .

                والتحقيق : أن يكون عصيانه مقدرا بقدر ما أخره حتى ضاق الوقت عنه . إن [ ص: 323 ] ضاق عن ركعة أو ركعتين أو ثلاث ، كان عاصيا بحسب ذلك ، ولا يجعل في معصيته كمن فوت الواجب كله .

                قوله : " لا يقال " إلى آخره ، هذا إيراد اعتراض على ما ذكر ، والجواب عنه .

                وتقريره : أن يقال : " إنما جاز " التأخير في الموسع " بشرط سلامة العاقبة " وهو أن يبقى إلى آخر الوقت ، فيفعل الواجب ، أما مع موته قبل ذلك ، فمن أين لنا جواز التأخير ؟

                وجوابه : " أنا نقول : ذلك " يعني سلامة العاقبة " غيب ، فليس " يعني الغيب " إلينا " أي : لم نكلف علمه ، ولا بناء الأحكام عليه ، إذ لا نعلم هل يبقى إلى آخر الوقت ، فيفعل الواجب أو لا ؟ ولا يجوز لنا لو سألنا أن نعلق الجواب ، فنقول : إن كان في علم الله تعالى أنك تعيش إلى آخر الوقت ، جاز لك التأخير ، وإلا فلا ، لأنه إحالة له على الجهالة ، ولا يحصل له البيان ، وإنما سأل ليبين له .

                قوله : " وإنما الشرط " إلى آخره ، أي : ليست سلامة العاقبة بشرط في جواز تأخير الموسع ، وإنما الشرط " العزم " فيه كما سبق " والتأخير إلى وقت يغلب على ظنه البقاء إليه " كأواخر أوقات الصلاة بالنسبة إلى فعلها ، وإلى شعبان بالنسبة إلى قضاء رمضان في حق شاب ، أو شيخ صحيح الجسم ، ليس به سبب علة ، والسنة [ ص: 324 ] والسنتين بالنسبة إلى الحج في حق الشاب ، ونحوه .

                وبالجملة : يختلف الظن باختلاف الأحوال ، وقوى الرجال ، فإذا غلب على ظنه البقاء إلى وقت ، جاز تأخير الموسع إليه بمقتضى الظن ، وهو دليل شرعي ، ومستند مرضي .

                قوله : " فلو أخره مع ظن الموت " إلى آخره ، أي : لو أخر الموسع عن أول وقته ، مع ظنه أنه يموت قبل أن يفعله ، مثل أن ظن أنه يموت بعد الزوال بقدر فعله أربع ركعات ، فأخره مع ذلك ، ولم يبادر بفعله من أول وقته ، عصى بمجرد هذا التأخير باتفاق الأصوليين ، لأنه أخر الواجب في وقته مع القدرة على فعله ، وظن موته في أول الوقت ، وعدم استدراكه بعد ذلك ، فصار كمن عنده وديعة ، فترك إزالتها من مكان ظن أن النار ستأتي عليها فيه فتحرقها ، ومناط الإثم والمعصية ترك إحراز الواجب الموسع ، مع ظن فواته .

                قوله : " فلو لم يمت " إلى آخره ، أي : فلو أخر الواجب الموسع مع ظن فواته بالموت ، ثم بان خطأ ظنه فلم يمت ، ثم فعل الواجب في الوقت ، فالجمهور على أنه أداء لوقوعه في وقته . [ ص: 325 ]

                " وقال القاضي أبو بكر : هو قضاء ، لأنه تضيق عليه بمقتضى ظنه الموت قبل فعله " ، أي : لما غلب على ظنه أنه يموت قبل فعله ، صار مضيقا في حقه بمقتضى ظنه ذلك ، وصار كأن آخر وقته هو أول الوقت الذي ظن أنه يموت فيه ، فصار فعله له بعد ذلك خارجا عن الوقت المضيق ، أشبه ما لو فعله بعد خروج الوقت الأصلي المقدر له شرعا ، وهو عند صيرورة ظل الشيء مثله في الظهر .

                ومأخذ الخلاف : أن الملاحظ هاهنا هو تصرف الشرع في تقدير الوقت في الأصل ، أو تصرفه في التعبد بالظن ، لأنا إن لاحظنا الأول ، فالوقت الأصلي باق ، وألغينا ظن الموت قبل الفعل لتبين بطلانه ، وإن لاحظنا الثاني ، فقد عصى بمقتضى ظنه المذكور ، واستقر الحكم عليه ، وانتقل الحكم من التقدير الشرعي إلى مقتضى التعبد الاجتهادي الظني .

                قوله : " وقد ألزم " إلى آخره ، أي : وقد ألزم القاضي أبو بكر على ما ذهب إليه " نية القضاء ، وهو بعيد " أي : ألزمه الأصوليون ، فقالوا له . إذا قلت : إن هذا الفعل قضاء ، لزمك أن توجب إيقاعه بنية القضاء ، وهو بعيد ، لأن وقت الأداء بأصل الشرع باق ، ولا قضاء في وقت الأداء ، لأن الأداء والقضاء متنافيان ، كما سيأتي في [ ص: 326 ] بيانهما إن شاء الله تعالى .

                قوله : " وأنه لو اعتقد قبل الوقت انقضاءه " إلى آخره ، أي : وألزم أبو بكر أيضا على ما ذهب إليه ، أن المكلف لو اعتقد قبل دخول الوقت انقضاء الوقت ، مثل أن ظن قبل زوال الشمس أن وقت الظهر قد انقضى ، أن يكون عاصيا بالتأخير الذي غلب على ظنه أنه فعله من أول الوقت إلى آخره ، مع أن ذلك لا حقيقة له ، إنما هو على شيء غلط فيه وهمه ، ووقت العبادة لم يدخل بعد ، ولم يخاطب بفعلها في نفس الأمر بعد . حتى لو صلى حينئذ ينوي فريضة الوقت انقلبت نفلا ، لعدم مصادفتها وقتها ، فالقول بتعصيته مع هذا بعيد جدا .

                قوله : " وله التزامه " إلى آخره ، أي : لأبي بكر التزام ما ألزمه من الأمرين المذكورين ، وهما وجوب نية القضاء فيما يفعله هذا الشخص ، وتعصيته فيما إذا اعتقد قبل الوقت انقضاءه .

                " ومنع " ، أي : وله منع الأداء في الأول ، وتعصيته في الثاني " .

                أي : له أن يقول في الإلزام الأول : لا أسلم أن وقت الأداء باق ، حتى يكون إيجابي نية القضاء فيه عليه بعيدا ، بل وقت الأداء خرج بمقتضى ظنه أن هذا [ ص: 327 ] الزمن الذي بقي هو آخر حياته ، فإذا كذب ظنه ، واستمرت حياته ، صار كما لو مات ، ثم عاش في الوقت ، فإنه يفعل الصلاة بتكليف ثان ، منقطع عن الأول ، فكذلك هاهنا ، ينقطع حكم الأداء بظن الموت ، ويتضيق الوقت عليه بذلك ، وتكون حياته فيما بعد ذلك ، كالمستجدة في زمن مستأنف ، ونشأة ثانية .

                وله أن يقول في الإلزام الثاني : يعصي بالتأخير الذي ظنه إلى آخر الوقت - ولم يكن الوقت قد دخل بعد - لعدوله عما ظنه الحق في الصورتين ، وهو أنه ظن في الصورة الأولى أن الواجب لم يبق من وقته إلا قدر فعله ، فلما عدل عنه بالتأخير ، صار مخالفا ، فتجري عليه أحكام من ظن الحق ظنا صحيحا مطابقا ، ثم عدل عنه ، وكذلك في الصورة الثانية ، ظن أنه قد أخر الواجب حتى خرج وقته ، فجرى عليه حكم من خالف الظن المطابق ، لأن الظن مناط التعبد ، أي : متعلق التعبد ، لأن الشرع علق التعبدات بوجود الظنون ، وإن لم تكن مطابقة في نفس الأمر ، فقال مثلا : إذا غلب على ظنكم أن هذه جهة القبلة فصلوا إليها ، وإن كانت غيرها ، ولو وطئ أجنبية يظنها زوجته لم يأثم ، ولو وطئ زوجته يظنها أجنبية أثم ، وإنما يسقط الحد لمصادفة المحل القابل ، كل هذا تعليقا للأحكام بالظن والاعتقاد .

                وبالجملة ، فقد أريقت الدماء ، واستبيحت الفروج ، وملكت الأموال شرعا ، بناء على ظواهر النصوص ، والعمومات والأقيسة وأخبار الآحاد ، والبينات المالية . وإنما يفيد ذلك جميعه الظن ، وليس الأمران اللازمان لي في هذه المسألة بأشد من ذلك كله ، فيثبتان بمقتضى ظن المكلف المذكور ، الذي جعل هو وحقيقته مناطا للأحكام شرعا . [ ص: 328 ] قوله : " بدليل عدم جواز تقليد المجتهد مثله " هذا تقرير لكون الظن مناط التعبد ، أي : يدل على أن الظن مناط التعبد أن المجتهد لا يجوز له تقليد مجتهد مثله ، كما ذكر في آخر " المختصر " ، ويأتي تقريره إن شاء الله سبحانه وتعالى . وما ذاك إلا لأن ظن المجتهد جعل مناطا لتعبده ، فأي شيء غلب على ظنه بدليل شرعي ، كان ذلك هو حكم الله في حقه . والذي يغلب على ظن غيره من المجتهدين ليس بحكم الله تعالى في حقه ، بل في حق من غلب على ظنه ، لجواز تفاوت الاجتهادين بأن يخطئ أحدهما ، ويصيب الآخر ، فألزم كل منهما مقتضى اجتهاده ، لأنه كسبه ، فهو أحق به . له غنمه ، وعليه غرمه . فكذلك نقول في حق هذا المكلف المذكور : يلزمه مقتضى ظنه ، لأنه مناط تكليفه ، بدليل شواهد الشريعة ، فهو حكم الله تعالى في حقه ، دون ما ثبت في حق غيره من المكلفين .

                وذكر الآمدي في الرد على القاضي أبي بكر طريقة أخرى ، وهي أن جميع الوقت كان وقتا للأداء قبل ظن المكلف تضييقه بالموت ، والأصل بقاء ما كان على ما كان ، ثم ظن المكلف المذكور إنما أثر في تأثيمه بالتأخير ، ولا يلزم من تأثيمه بالتأخير مخالفة الأصل المذكور ، وهو بقاء الوقت الأصلي وقتا للأداء في حقه ، كما لو أخر الواجب الموسع من غير عزم ، فإن وقت الأداء الأصلي باق في حقه ، وقد وافق القاضي على ذلك . [ ص: 329 ] قلت : وهذا قد لاح منه منزع صعب على القاضي . وهو أن الأداء والقضاء ونحوه ، من باب خطاب الوضع ، والإثم على التأخير من باب خطاب التكليف ، وظن المكلف إنما يناسب تأثيره في الأمور التكليفية ، فيقلب حقائقها ، لأنها أمور تقديرية أو إلزامية ، كالإثم والثواب ، فجاز أن تتبع الظنون والاعتقادات ، أما الأمور الوضعية كأوقات الصلاة والصيام والحج ونحوها ، فلا يقوى ظن المكلف على قلب حقائقها . ولا شك أن قول القاضي : إن بمقتضى ظن هذا المكلف صار وقت الأداء الأصلي وقت قضاء في حقه هو قلب لحقيقة أمر وضعي ، ولا دليل على ثبوته . أما الصورة التي قاس عليها الآمدي ، وهي تأخير الموسع بدون العزم ، فللقاضي أن يفرق بينهما ، بأن هذا المكلف لما أخر الواجب مع ظن الموت قبل فعله ، حصل هنا ظن ناسب أن يترتب عليه حكم شرعي ، والظن أمر وجودي . بخلاف ما إذا أخر الواجب تاركا للعزم على فعله ، فإنه قد عصى معصية عدمية ، وهو مع ذلك يعتقد تحريمها ، فلا يقوى على مناسبة تغيير أمر وضعي ، بخلاف الظن الوجودي ، الذي يعتقد أنه مناط تكليفه ، وأمارة أحكام الشرع في حقه ، والله أعلم .



                تنبيه : نحن إلى الآن في الكلام على الواجب الموسع وفروعه ، بحسب تقرير ما في " المختصر " فلنذكر هاهنا فيه أبحاثا من باب التحقيق والتكملة له : البحث الأول : الناس إما منكر للموسع ، أو مثبت له ، والمنكر إما مخصص للوجوب بأول الوقت ، أو بآخره ، أو متوسط بين القولين . [ ص: 330 ] أما القول الأول ، فهو منسوب إلى الشافعية ، منقول من كتب الأصول على ما حكاه القرافي .

                قلت : وهو موافق لقولهم في المغرب : ينقضي وقتها بمضي قدر وضوء ، وستر عورة ، وأذان ، وإقامة ، وخمس ركعات ، لكنهم اليوم قائلون بالموسع ، منكرون لخلافه ، ومدرك قولهم في المغرب سمعي ، مع أن القديم للشافعي أن لها وقتين كغيرها ، ورجحه النووي في " المنهاج " .

                ووجه هذا المذهب على تقدير القول به : أن الوقت سبب الوجوب ، وبدخول أول جزء منه يتحقق دخوله بتحقق السبب ، والأصل ترتب المسببات على أسبابها ، فيتعلق الوجوب بما تحققت به سببيته ، وهو أول الوقت ، وحينئذ يكون الواقع بعد ذلك قضاء ، سد مسد الأداء .

                وضعف هذا المذهب بأنه يلزم منه الإذن في تفويت الأداء لفعل القضاء ، لغير عذر ، لأن الأمة أجمعت على جواز تأخير الصلوات عن أول الوقت ، وهذا غير معهود في الشريعة ، بخلاف تفويت الأداء لفعل القضاء لعذر ، كما في حق المسافر والحائض في الصلاة والصيام ، فإن ذلك معهود .

                والقول الثاني : وهو تخصيص الوجوب بآخر الوقت ، وهو قول الحنفية ، كما سبق ذكره والكلام عليه ، قالوا : لأن الشيء يدور مع خاصته وجودا وعدما ، يثبت لثبوتها ، وينتفي لانتفائها . وخاصة الوجوب الإثم على الترك ، وهي منتفية في أول الوقت [ ص: 331 ] ووسطه ، ثابتة في آخره ، فدل على أنه وقت الوجوب لا غير .

                ويرد على هذا ، أن إيقاع الفعل قبل آخر الوقت لا يكون واجبا ، وإجزاء غير الواجب عن الواجب خلاف الأصل والقواعد ، والرخصة لم يقم دليلها في الصلاة ، بخلافها في الزكاة .

                والمتوسط بين القولين ، منه قولان للكرخي المتقدم حكايتهما في الكلام على عبارة " المختصر " :

                أحدهما : إن بقي الفاعل إلى آخر الوقت بصفة التكليف ، كان ما فعله أول الوقت واجبا ، فما أجزأ عن الواجب إلا واجب ، وإلا كان نفلا .

                ويرد عليه أن الفعل يكون موقوفا من أول الوقت إلى آخره ، لا يوصف بأنه نفل ولا فرض ، وهو خلاف القواعد .

                القول الثاني له : أن زمن الوجوب يتعين بالشروع والإيقاع ، بمعنى أن زمن الوجوب هو زمن الإيقاع ، أي وقت كان لا يتعداه ، حذرا من الإشكالات السابقة .

                ويرد عليه أن تحقق الوجوب لابد أن يتقدم الفعل ، وعلى هذا القول ، يكون الوجوب تابعا للفعل ، وهو غير معهود .

                ثم قول خامس لمنكري الموسع ، ذكره القرافي ولم أحققه أنا ، وكأنه مكرر أو متداخل مع ما سبق ، فلم أذكره . [ ص: 332 ]

                وأما المثبت للموسع ، وهم جمهور الأصوليين ، ومالك والشافعي وأحمد ، وصفته ما سبق في الكلام على " المختصر " .

                وتحقيق ذلك - وهو البحث الثاني هاهنا - أن الخطاب في الموسع والمخير وفرض الكفاية جميعا متعلق بالقدر المشترك ، فيجب تحصيله ، ويحرم تعطيله .

                فالمشترك في الموسع وهو مفهوم الزمان ومطلقه من الوقت المقرر المحدود شرعا ، بمعنى أن الواجب إيقاعه فيما يصدق عليه اسم زمن من أزمنة الوقت الشرعي . أعني ما بين زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله في الظهر مثلا ، فمتى أوقع الصلاة في هذا الزمن المطلق كان آتيا بالمشترك ، فيخرج عن عهدة الواجب أداء ، وإن أخره حتى خرج الوقت الشرعي ، كان معطلا للمشترك عن العبادة الواجبة فيه ، فيحرم عليه التأخير ، ويلزمه استدراكه قضاء .

                والمشترك في المخير هو مفهوم أحد الخصال ، فهو متعلق الوجوب وأما متعلق التخيير ، فهو خصوصيات الخصال ، من إطعام أو كسوة أو عتق ، فالواجب عليه أن يأتي بإحدى الخصال ولا بد ، وهو المشترك بين جميعها ، لأن كل واحدة منها يصدق عليها أنها إحدى الخصال ، ولا يجوز له ترك الجميع ، لئلا يتعطل المشترك ، لأن الجميع أعم من المشترك ، وتارك الأعم تارك للأخص ومعطل له ، وله [ ص: 333 ] الخيار بين خصوصيات الخصال ، إن شاء أطعم ، أو كسا ، أو عتق ، فالواجب - وهو المشترك - لا تخيير فيه ، إذ لا قائل بأنه إن شاء فعل إحدى الخصال ، وإن شاء ترك ، والمخير فيه - وهو خصوصيات الخصال - لا وجوب فيه ، إذ لا قائل بأن الواجب عليه جميع الخصال على الجمع .

                والمشترك في فرض الكفاية هو مفهوم أي طوائف المكلفين ، كإحدى الخصال في الواجب المخير ، غير أن الخطاب تعلق بالجميع في أول الأمر ، لتعذر خطاب بعض مجهول أو معين ، مع تساوي الجميع فيه ، فيكون ترجيحا من غير مرجح ، ولا جرم أنه سقط الوجوب عن الجميع بفعل إحدى الطوائف ، لحصول المشترك الوافي بالمقصود ، وأثم الجميع بترك جميع الطوائف له ، لتعطل المشترك ، فهذا هو التحقيق في الأبواب الثلاثة .

                البحث الثالث في الفرق بين الأبواب الثلاثة : وهو أن المشترك في فرض الكفاية هو الواجب عليه ، وهو المكلف ، وفي المخير هو الواجب نفسه ، وهو إحدى الخصال ، وفي الموسع هو الواجب فيه ، وهو الزمان .

                وبهذا يندفع عنا سؤال قد يستصعب ، وهو أن يقال : لم لم تقولوا : إن الواجب في المخير جميع الخصال ، ويسقط بفعل بعضها ، كما قلتم : إن الوجوب في فرض الكفاية على الجميع ، ويسقط بفعل البعض ؟ فيقال : لأن إيجاب أحد [ ص: 334 ] هذين ، أو هذه الأشياء على زيد معقول ، ويجعل الخيار في التعيين إليه ، فلا يلزم منه تعطيل الواجب . بخلاف إيجاب شيء ما على أحد هذين ، أو هؤلاء الأشخاص ، لأنه يفضي إلى أن يتواكلوا ، ويحيل بعضهم على بعض ، ولا مرجح فيه ، فيتعطل الواجب بالكلية ، إلا أن يعود الموجب ، فيعين للفعل أحدهم ، فيكون إيجابا مبتدأ معينا ، لكن فيه تطويل لطريق تحصيل مصلحة الواجب ، وتماد في إيقاعها ، فكان ما سلكناه في فرض الكفاية أقرب ، وهو أن يخاطب الجميع بالواجب ، فإذا علموا ذلك توفرت دواعيهم ، أو داعية طائفة منهم على الخروج عن العهدة ، فيخرج الجميع بذلك ، ولا يسعهم التواكل .




                الخدمات العلمية