الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 341 ] ثم دخلت سنة ثنتين وأربعين ومائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيها خلع عيينة بن موسى بن كعب نائب السند الخليفة ، فجهز إليه الخليفة العساكر صحبة عمر بن حفص بن أبي صفرة ، وولاه السند والهند ، فحاربه عمر بن حفص ، وقهره على الأرض ، وتسلمها منه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها نكث أصبهبذ طبرستان العهد الذي كان بينه وبين المسلمين ، وقتل طائفة ممن كان بطبرستان ، فجهز إليه الخليفة الجيوش صحبة خازم بن خزيمة ، وروح بن حاتم ، ومعهم مرزوق أبو الخصيب ، مولى المنصور ، فحاصروه مدة طويلة ، فلما أعياهم فتح الحصن الذي هو فيه احتالوا عليه ، وذلك أن أبا الخصيب قال لهم : اضربوني واحلقوا رأسي ولحيتي . ففعلوا ذلك ، فذهب إليه كأنه مغاضب للمسلمين ، فدخل الحصن ، ففرح به الأصبهبذ ، وأكرمه وقربه ، وجعل أبو الخصيب يظهر له من النصح والخدمة حتى خدعه ، وحظي عنده جدا ، وجعله من جملة من يتولى فتح الحصن وغلقه ، فلما تمكن عنده كاتب المسلمين وأعلمهم أن الليلة الفلانية في حرسه ، فاقتربوا من الباب حتى أفتحه لكم . فلما كانت تلك الليلة فتح للمسلمين الباب ، ودخلوا فقتلوا من فيه من المقاتلة وسبوا الذرية ، وامتص الأصبهبذ خاتما مسموما فمات . فكان ممن أسر يومئذ أم المنصور ابن المهدي ، وأم إبراهيم ابن المهدي ، وكانتا من بنات الملوك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 342 ] وفيها بنى المنصور لأهل البصرة قبلتهم التي يصلون عندها بالحمان ، وولي بناءه سلمة بن سعيد بن جابر نائب الفرات والأبلة . وصام المنصور شهر رمضان بالبصرة ، وصلى بالناس العيد في ذلك المصلى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها عزل المنصور نوفل بن الفرات عن إمرة مصر ، وولى عليها حميد بن قحطبة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحج بالناس في هذه السنة إسماعيل بن علي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها توفي سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس ، عم الخليفة ونائب البصرة ، كان ذلك يوم السبت لسبع بقين من جمادى الآخرة ، وهو ابن تسع وخمسين سنة ، وصلى عليه أخوه عبد الصمد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      روى عن أبيه وعكرمة وأبي بردة ابن أبي موسى . وعنه جماعة منهم; بنوه جعفر ومحمد وزينب ، والأصمعي . وكان قد شاب وهو ابن عشرين سنة ، وخضب لحيته من الشيب في ذلك السن ، وكان كريما جوادا ممدحا ، كان يعتق عشية عرفة في كل سنة مائة نسمة ، وبلغت صلاته لبني هاشم وسائر قريش والأنصار خمسة آلاف ألف .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      واطلع يوما من قصره ، فرأى نسوة يغزلن في دار من دور البصرة ، فاتفق أن [ ص: 343 ] قالت إحداهن : ليت الأمير اطلع علينا; فأغنانا عن الغزل . فنهض فجعل يدور في قصره ، ويجمع من حلي نسائه من الذهب والجواهر وغير ذلك ما ملأ به منديلا ، ثم دلاه إليهن ، ونثره عليهن ، فماتت إحداهن من شدة الفرح .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ولي الحج أيام السفاح ، وولي البصرة للمنصور ، وكان من خيار بني العباس ، وهو أخو إسماعيل ، وداود ، وصالح ، وعبد الصمد ، وعبد الله وعيسى ، ومحمد ، وهو عم السفاح والمنصور .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وممن توفي فيها خالد الحذاء ، وعاصم الأحول ، وعمرو بن عبيد القدري ، في قول ، وهو عمرو بن عبيد بن باب - ويقال : ابن كيسان - التميمي مولاهم ، أبو عثمان البصري ، من أبناء فارس ، شيخ القدرية والمعتزلة . روى الحديث عن الحسن البصري ، وعبيد الله بن أنس ، وأبي العالية ، وأبي قلابة ، وعنه الحمادان ، وسفيان بن عيينة ، والأعمش - وكان من أقرانه - وعبد الوارث بن سعيد ، وهارون بن موسى ، ويحيى القطان ، ويزيد بن زريع .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 344 ] قال الإمام أحمد بن حنبل : ليس بأهل أن يحدث عنه . وقال علي ابن المديني ويحيى بن معين : ليس بشيء . وزاد ابن معين : وكان رجل سوء ، كان من الدهرية الذين يقولون : إنما الناس مثل الزرع . وقال الفلاس : متروك ، صاحب بدعة ، كان يحيى القطان يحدثنا عنه ثم تركه ، وكان ابن مهدي لا يحدث عنه . وقال أبو حاتم : متروك . وقال النسائي : ليس بثقة . وقال شعبة ، عن يونس بن عبيد : كان عمرو بن عبيد يكذب في الحديث . وقال حماد بن سلمة : قال لي حميد : لا تأخذ عنه ، فإنه كان يكذب على الحسن البصري . وكذا قال أيوب وعوف وابن عون . وقال أيوب : ما كنت أعد له عقلا . وقال مطر الوراق : والله لا أصدقه في شيء . وقال ابن المبارك : إنما تركوا حديثه لأنه كان يدعو إلى القدر . وقد ضعفه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل ، وأثنى عليه آخرون في عبادته ، وزهده وتقشفه; قال الحسن البصري : هذا سيد شباب القرى ما لم يحدث . قالوا : [ ص: 345 ] فأحدث والله أشد الحدث . وقال ابن حبان : كان من أهل الورع والعبادة إلى أن أحدث ما أحدث ، واعتزل مجلس الحسن هو وجماعة معه فسموا المعتزلة ، وكان يشتم الصحابة ، ويكذب في الحديث وهما لا تعمدا . وقد روي عنه أنه قال : إن كانت : تبت يدا أبي لهب . في اللوح المحفوظ فما لله على ابن آدم حجة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروي له حديث ابن مسعود : حدثنا الصادق المصدوق : " إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما " . حتى قال : " فيؤمر بأربع كلمات; رزقه وأجله وعمله ، وشقي أم سعيد " . إلى آخره ، فقال : لو سمعت الأعمش يرويه لكذبته ، ولو سمعته من زيد بن وهب لما أحببته ، ولو سمعته من ابن مسعود لما قبلته ، ولو سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته ، ولو سمعت الله يقول هذا لقلت : ما على هذا أخذت علينا الميثاق . وهذا من أقبح الكفر ، لعنه الله ، إن كان قال هذا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال عبد الله بن المبارك ، رحمه الله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أيها الطالب علما ايت حماد بن زيد [ ص: 346 ]     فخذ العلم بحلم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم قيده بقيد     وذر البدعة من آ
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثار عمرو بن عبيد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عدي : كان يغر الناس بتقشفه ، وهو مذموم ضعيف الحديث جدا ، معلن بالبدع . وقال الدارقطني : ضعيف الحديث . وقال الخطيب البغدادي : جالس الحسن واشتهر بصحبته ، ثم أزاله واصل بن عطاء عن مذهب أهل السنة ، وقال بالقدر ودعا إليه ، واعتزل أصحاب الحسن ، وكان له سمت وإظهار زهد . وقد قيل : إنه وواصل بن عطاء ولدا سنة ثمانين . وحكى البخاري أنه مات سنة ثنتين أو ثلاث وأربعين ومائة ، بطريق مكة . وكان حظيا عند أبي جعفر المنصور; لأنه كان يفد مع القراء ، فيعطيهم المنصور فيأخذون ، ولا يقبل عمرو منه شيئا ، فكان ذلك يعجب المنصور; لأن المنصور كان بخيلا ، وكان يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كلكم يمشي رويد     كلكم يطلب صيد


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      غير عمرو بن عبيد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولو تبصر المنصور لعلم أن كل واحد من أولئك القراء خير من ملء الأرض [ ص: 347 ] مثل عمرو بن عبيد ، والزهد لا يدل على صلاح ، فإن بعض الرهابين قد يكون عنده من الزهد ما لا يطيقه كثير من المسلمين في زمانه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد روينا عن إسماعيل بن مسلمة القعنبي قال : رأيت الحسن ابن أبي جعفر في المنام بعد ما مات بعبادان ، فقال لي : أيوب ويونس وابن عون في الجنة . قلت : فعمرو بن عبيد؟ قال : في النار . ثم رآه مرة ثانية ، ويروى ثالثة ، ويقول له مثل هذا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد رئيت له منامات قبيحة ، وقد طول شيخنا في " تهذيبه " ترجمته ، ولخصنا حاصلها في كتاب " التكميل " ، وإنما أشرنا هاهنا إلى نبذ من حاله; ليعرف فلا يغتر به . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية