الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الثامن والخمسون بين قاعدة الحسد وقاعد الغبطة ) اشتركت القاعدتان في أنهما طلب من القلب غير أن الحسد تمني زوال النعمة عن الغير ، والغبطة تمني حصول مثلها من غير تعرض لطلب زوالها عن صاحبها ثم الحسد حسدان تمني زوال النعمة وحصولها للحاسد وتمني زوالها من غير أن يطلب حصولها للحاسد ، وهو شر الحاسدين ؛ لأنه طلب المفسدة الصرفة من غير معارض عادي أو طبيعي ثم حكم الحسد في الشريعة التحريم ، وحكم الغبطة الإباحة لعدم تعلقه بمفسدة ألبتة ، ودليل تحريم الحسد الكتاب والسنة والإجماع [ ص: 225 ] فالكتاب قوله تعالى { ومن شر حاسد إذا حسد } أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله وقوله تعالى { ، ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } أي لا تتمنوا زواله ؛ لأن قرينة النهي دالة على هذا الحذف ، وأما السنة فقوله : صلى الله عليه وسلم { ولا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار ، ورجل آتاه الله - تعالى - مالا فهو ينفقه آناء الليل وأطراف النهار } أي لا غبطة إلا في هاتين على وجه المبالغة ، وقال عليه السلام { لا تحاسدوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا } وأجمعت الأمة على تحريمه وقد يعبر عن الغبطة بلفظ الحسد كالحديث المتقدم ، ويقال : إن الحسد أول معصية عصي الله بها في الأرض حسد إبليس آدم فلم يسجد له

[ ص: 225 - 226 ]

التالي السابق


[ ص: 225 - 226 ] حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الستون والمائتين بين قاعدة الحسد وقاعدة الغبطة )

وهو أن القاعدتين وإن اشتركتا في أنهما طلب من القلب إلا أن الحسد تمني زوال النعمة عن الغير قال ابن حجر في الزواجر ويكون حراما وفسوقا إن كان من حيث كونها نعمة أما إن كان من حيث كونها آلة الفساد والإيذاء كما في نعمة الفاجر فلا حرمة ا هـ قال الأصل كان المتمني زوالها عنه تمنى حصولها لنفسه أو لا فالحسد نوعان ، والثاني أشرهما ؛ لأنه طلب المفسدة الصرفة من غير معارض عادي أو طبيعي قال : ودليل تحريم الحسد الكتاب والسنة والإجماع ( فأما الكتاب ) فقوله - تعالى - : { ومن شر حاسد إذا حسد } وقوله تعالى : { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } ، وقوله تعالى - : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } أي لا تتمنوا زواله بقرينة النهي ( وأما السنة ) فقوله : عليه الصلاة والسلام لا تحاسدوا ، ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا وفي الزواجر قال صلى الله عليه وسلم في النهي عن الحسد وأسبابه وثمراته لا تباغضوا ، ولا تحاسدوا ولا تدابروا ، ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا ، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة رواه الشيخان ا هـ قال الأصل : وأما الإجماع على تحريمه فقد انعقد من الأمة المعصومة قال : ويقال : إن الحسد أول معصية عصي الله بها في الأرض حسد إبليس آدم فلم يسجد له . ا هـ .

وفي الزواجر ومن آفات الحسد أن فيه سخطا لقضاء الله - تعالى - إذا أنعم على الغير بما لا مضرة عليك فيه وشماتة بأخيك المسلم قال الله - تعالى - { إن تمسسكم حسنة تسؤهم [ ص: 244 ] وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها } { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم } { ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء } { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } ا هـ والغبطة تمني حصول مثل نعمة الغير لنفسك من غير تعرض لطلب زوالها عن صاحبها بل تشتهي مثلها لنفسك مع بقائها لذويها ، وقد تخص باسم المنافسة .

وقد يعبر عنها بلفظ الحسد كما في قوله صلى الله عليه وسلم { لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار ورجل آتاه الله - تعالى - مالا فهو ينفقه آناء الليل وأطراف النهار } أي لا غبطة إلا في هاتين على وجه المبالغة ، وفي الزواجر : وليست الغبطة والمنافسة بحرام أي لعدم تعلقها بمفسدة ألبتة بل هي إما واجبة ، وإما مندوبة ، وإما مباحة قال - تعالى - { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } { سابقوا إلى مغفرة من ربكم } والمسابقة تقتضي خوف الفوت فالواجبة تكون في النعم الدينية الواجبة كنعمة الإيمان والصلاة المكتوبة والزكاة فيجب أن تحب أن تكون مثل القائم بذلك ، وإلا كنت راضيا بالمعصية ، والرضا بها حرام ( والمندوبة ) تكون في الفضائل والعلوم وإنفاق الأموال في الميراث .

والمباحة تكون في النعم المباحة كالنكاح ، والمنافسة في المباحات لا يترتب عليها إثم لكنها تنقص من الفضائل ، وتناقض الزهد والرضا بالمقضي والتوكل ، وتحجب عن المقامات الرفيعة نعم هنا دقيقة ينبغي التنبيه لها ، وإلا وقع الإنسان في الحسد الحرام من غير أن يشعر ، وهي أن من أيس أن ينال مثل نعمة الغير فبالضرورة أن نفسه تعتقد أنه ناقص عن صاحب تلك النعمة وأنها تحب زوال نقصها ، وزواله لا يحصل إلا بمساواة ذي النعمة أو بزوالها عنه ، وقد فرض يأسه عن مساواته فيها فلم يبق إلا محبته لزوالها عن الغير المتميز بها عنه ؛ إذ بزوالها يزول تخلفه .

وتقدم غيره بها ، فإن كان بحيث لو قدر على زوالها عن الغير أزالها فهو حسود حسدا مذموما ، وإن كان عنده من التقوى ما يمنعه عن إزالتها مع قدرته عليها ، وعن محبة زوالها عن الغير فلا إثم عليه ؛ لأن هذا أمر جبلي لا تنفك النفس عنه ، ولعله المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم { كل ابن آدم حسود } وفي رواية { ثلاثة لا ينفك المسلم عنهن الحسد والظن والطيرة ، وله منهن مخرج إذا حسدت فلا تبغ } أي إن وجدت في قلبك شيئا فلا تعمل به ، ويبعد ممن يريد مساواة غيره في النعمة فيعجز عنها سيما إن كان من أقرانه أن ينفك عن الميل إلى زوالها فهذا الحد من المنافسة يشبه الحسد الحرام فينبغي الاحتياط التام فإنه متى صفى إلى محبة نفسه ومال لاختياره إلى مساواته لذي النعمة بمحبة زوالها عنه فهو مرتبك في الحسد [ ص: 245 ] الحرام .

ولا يتخلص منه إلا إن قوي إيمانه ورسخ قدمه في التقوى ، ومهما حركه خوف نقصه عن غيره جره إلى الحسد المحظور ، وإلى ميل الطبع إلى زوال نعمة الغير حتى ينزل لمساواته ، وهذا لا رخصة فيه بوجه سواء أكان في مقاصد الدين أم الدنيا قال الغزالي : ولكن ذلك يعفى عنه ما لم يعمل به إن شاء الله - تعالى ، وتكون كراهته لذلك من نفسه كفارة له ا هـ والله - سبحانه وتعالى - أعلم .




الخدمات العلمية