الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 519 ] ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيها حصر المقنع الزنديق الذي كان قد نبغ بخراسان وقال بالتناسخ ، واتبعه على جهالته وضلالته خلق من الطغام وسفهاء الأنام ، والسفلة من العوام ، ومنعوه من الجنود في ذلك العام ، فلما كان في هذه السنة لجأ إلى قلعة كش ، فحاصره سعيد الحرشي فألح عليه في الحصار ، فلما أحس بالغلبة تحسى سما وسم نساءه ، فماتوا جميعا ، عليهم لعائن الله . ودخل الجيش الإسلامي قلعته ، فاحتزوا رأسه ، وبعثوا به إلى المهدي ، وكان المهدي حين جاءه رأس المقنع بحلب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن خلكان : المقنع الخراساني قيل : اسمه عطاء . وقيل : حكيم . والأول أشهر ، وكان أولا قصارا ، ثم ادعى الربوبية ، مع أنه كان أعور قبيح المنظر ، وكان يتخذ له وجها من ذهب ، واتبعه على جهالته خلق كثير من [ ص: 520 ] الجهلة ، وكان يري الناس قمرا يرى من مسيرة شهرين ، ثم يغيب ، فعظم اعتقادهم فيه ، ومنعوه بالسلاح ، وكان يزعم - لعنه الله ، وتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا - أن الله ظهر في صورة آدم ، ولهذا سجدت له الملائكة ، ثم في نوح ، ثم في الأنبياء واحدا واحدا ، ثم تحول إلى أبي مسلم الخراساني ، ثم تحول إليه ، ولما حاصره المسلمون في قلعته التي كان جددها بناحية كش مما وراء النهر ، ويقال لها : سنام . سقى نساءه وأهله سما ، وتحسى هو أيضا منه ، فماتوا كلهم - لعنهم الله أجمعين - واستحوذ المسلمون على حواصله وأمواله كلها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها جهز المهدي البعوث من خراسان وغيرها من البلاد لغزو الروم ، وأمر على الجميع ولده هارون الرشيد ، وخرج من بغداد مشيعا له ، فسار معه مراحل ، واستخلف على بغداد ولده موسى الهادي ، وكان في هذا الجيش الحسن بن قحطبة ، والربيع الحاجب ، وخالد بن برمك ، وهو مثل الوزير للرشيد ولي العهد ، ويحيى بن خالد ، وهو كاتبه وإليه النفقات . وما زال المهدي مع ولده مشيعا له حتى بلغ درب الروم عند جيحان ، وارتاد هناك المدينة المسماة بالمهدية في بلاد الروم ، ثم رجع إلى الشام ، وزار بيت المقدس ، فسار الرشيد إلى بلاد الروم في جحافل عظيمة ، ففتح الله عليهم فتوحات كثيرة ، وغنموا أموالا جزيلة جدا ، وكان لخالد بن برمك في ذلك أثر جميل لم يكن لغيره ، وبعثوا [ ص: 521 ] بالبشارة مع سليمان بن برمك إلى المهدي ، فأكرمه المهدي وأجزل عطاءه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها عزل المهدي عمه عبد الصمد بن علي عن الجزيرة ، وولى عليها زفر بن عاصم الهلالي ، ثم عزله وولى عبد الله بن صالح بن علي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها ولى المهدي ولده هارون الرشيد بلاد المغرب وأذربيجان وأرمينية ، وجعل على رسائله يحيى بن خالد بن برمك ، وولى وعزل جماعة من النواب ، وحج بالناس فيها علي ابن المهدي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها توفي إبراهيم بن طهمان ، وحريز بن عثمان الرحبي الحمصي ، وموسى بن علي اللخمي المصري ، وشعيب بن أبي حمزة ، وعيسى بن علي بن عبد الله بن عباس عم السفاح والمنصور ، وإليه ينسب قصر عيسى ، ونهر عيسى ببغداد ، قال يحيى بن معين : كان له مذهب جميل ، وكان معتزلا للسلطان . توفي في هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة . وهمام بن يحيى ، [ ص: 522 ] ويحيى بن أيوب المصري . وعبيدة بنت أبي كلاب العابدة ، بكت من خشية الله أربعين سنة حتى عميت . وكانت تقول : أشتهي الموت ، فإني أخشى أن أجني على نفسي جناية تكون سبب هلاكي يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية