الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3962 ] (102) سورة التكاثر مكية

                                                                                                                                                                                                                                      وآياتها ثمان

                                                                                                                                                                                                                                      بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      ألهاكم التكاثر (1) حتى زرتم المقابر (2) كلا سوف تعلمون (3) ثم كلا سوف تعلمون (4) كلا لو تعلمون علم اليقين (5) لترون الجحيم (6) ثم لترونها عين اليقين (7) ثم لتسألن يومئذ عن النعيم (8)

                                                                                                                                                                                                                                      هذه السورة ذات إيقاع جليل رهيب عميق وكأنما هي صوت نذير، قائم على شرف عال. يمد بصوته ويدوي بنبرته. يصيح بنوم غافلين مخمورين سادرين، أشرفوا على الهاوية وعيونهم مغمضة، وحسهم مسحور.

                                                                                                                                                                                                                                      فهو يمد بصوته إلى أعلى وأبعد ما يبلغ:

                                                                                                                                                                                                                                      ألهاكم التكاثر. حتى زرتم المقابر ..

                                                                                                                                                                                                                                      أيها السادرون المخمورون. أيها اللاهون المتكاثرون بالأموال والأولاد وأعراض الحياة وأنتم مفارقون. أيها المخدوعون بما أنتم فيه عما يليه. أيها التاركون ما تتكاثرون فيه وتتفاخرون إلى حفرة ضيقة لا تكاثر فيها ولا تفاخر.. استيقظوا وانظروا.. فقد ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يقرع قلوبهم بهول ما ينتظرهم هناك بعد زيارة المقابر في إيقاع عميق رزين:

                                                                                                                                                                                                                                      كلا سوف تعلمون .

                                                                                                                                                                                                                                      ويكرر هذا الإيقاع بألفاظه وجرسه الرهيب الرصين:

                                                                                                                                                                                                                                      ثم كلا سوف تعلمون .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يزيد التوكيد عمقا ورهبة، وتلويحا بما وراءه من أمر ثقيل، لا يتبينون حقيقته الهائلة في غمرة الخمار والاستكثار:

                                                                                                                                                                                                                                      كلا لو تعلمون علم اليقين ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يكشف عن هذه الحقيقة المطوية الرهيبة:

                                                                                                                                                                                                                                      لترون الجحيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يؤكد هذه الحقيقة ويعمق وقعها الرهيب في القلوب: [ ص: 3963 ] ثم لترونها عين اليقين ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يلقي بالإيقاع الأخير، الذي يدع المخمور يفيق، والغافل يتنبه، والسادر يتلفت، والناعم يرتعش ويرتجف مما في يديه من نعيم:

                                                                                                                                                                                                                                      ثم لتسألن يومئذ عن النعيم !

                                                                                                                                                                                                                                      لتسألن عنه من أين نلتموه؟ وفيم أنفقتموه؟ أمن طاعة وفي طاعة؟ أم من معصية وفي معصية؟ أمن حلال وفي حلال؟ أم من حرام وفي حرام؟ هل شكرتم؟ هل أديتم؟ هل شاركتم؟ هل استأثرتم؟

                                                                                                                                                                                                                                      لتسألن عما تتكاثرون به وتتفاخرون.. فهو عبء تستخفونه في غمرتكم ولهوكم ولكن وراءه ما وراءه من هم ثقيل!

                                                                                                                                                                                                                                      إنها سورة تعبر بذاتها عن ذاتها. وتلقي في الحس ما تلقي بمعناها وإيقاعها. وتدع القلب مثقلا مشغولا بهم الآخرة عن سفساف الحياة الدنيا وصغائر اهتماماتها التي يهش لها الفارغون!

                                                                                                                                                                                                                                      إنها تصور الحياة الدنيا كالومضة الخاطفة في الشريط الطويل.. ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر .. وتنتهي ومضة الحياة الدنيا وتنطوي صفحتها الصغيرة.. ثم يمتد الزمن بعد ذلك وتمتد الأثقال; ويقوم الأداء التعبيري ذاته بهذا الإيحاء. فتتسق الحقيقة مع النسق التعبيري الفريد..

                                                                                                                                                                                                                                      وما يقرأ الإنسان هذه السورة الجليلة الرهيبة العميقة، بإيقاعاتها الصاعدة الذاهبة في الفضاء إلى بعيد في مطلعها، الرصينة الذاهبة إلى القرار العميق في نهايتها.. حتى يشعر بثقل ما على عاتقه من أعقاب هذه الحياة الوامضة التي يحياها على الأرض، ثم يحمل ما يحمل منها ويمضي به مثقلا في الطريق!

                                                                                                                                                                                                                                      ثم ينشئ يحاسب نفسه على الصغير والزهيد!!!

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية