الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              [ ص: 575 ]

                                                                                                                                                                                              سورة الرعد

                                                                                                                                                                                              قوله تعالى: له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله

                                                                                                                                                                                              قول الله تعالى: له معقبات من بين يديه ومن خلفه الآية . قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: هم الملائكة يحفظونه بأمر الله فإذا جاء القدر خلوا عنه .

                                                                                                                                                                                              وقال علي رضي الله عنه : إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر . فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه، وإن الأجل جنة حصينة .

                                                                                                                                                                                              وقال مجاهد : ما من عبد إلا له ملك يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما من شيء يأتيه إلا قال: وراءك، إلا شيئا قد أذن الله فيه فيصيبه .

                                                                                                                                                                                              ومن حفظ الله للعبد: أن يحفظه في صحة بدنه وقوته وعقله وماله . قال بعض السلف: العالم لا يحزن . وقال بعضهم: من حفظ القرآن متع بعقله . وتأول ذلك بعضهم على قوله تعالى: ثم رددناه أسفل سافلين

                                                                                                                                                                                              وكان أبو الطيب الطبري قد جاوز المائة سنة وهو ممتع بعقله وقوته، فوثب يوما من سفينة كان فيها إلى الأرض وثبة شديدة، فعوتب على ذلك، فقال: [ ص: 576 ] هذه جوارح حفظناها في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر .

                                                                                                                                                                                              وعكس هذا أن الجنيد رأى شيخا يسأل الناس فقال: إن هذا ضيع الله في صغره، فضيعه الله في كبره .

                                                                                                                                                                                              وقد يحفظ الله العبد بصلاحه في ولده وولد ولده، كما قيل في قوله تعالى: وكان أبوهما صالحا إنهما حفظا بصلاح أبيهما .

                                                                                                                                                                                              وقال محمد بن المنكدر : إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وقريته التي هو فيها، والدويرات التي حولها فما يزالون في حفظ الله وستره .

                                                                                                                                                                                              وقال ابن المسيب لابنه: يا بني، إني لأزيد في صلاتي من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك، وتلا هذه الآية: وكان أبوهما صالحا

                                                                                                                                                                                              وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ما من مؤمن يموت إلا حفظه الله تعالى في عقبه وعقب عقبه .

                                                                                                                                                                                              وقال يحيى بن إسماعيل بن سلمة بن كهيل : كان لي أخت أسن مني . فاختلطت وذهب عقلها وتوحشت، وكانت في غرفة في أقصى سطوحنا فمكثت بذلك بضع عشرة سنة، فبينما أنا نائم ذات ليلة إذا باب يدق نصف الليل، فقلت: من هذا; قالت: كجه، فقلت: أختي; قالت أختك، ففتحت الباب فدخلت ولا عهد لها بالبيت أكثر من عشر سنين . فقالت: أتيت الليلة في منامي فقيل لي: إن الله حفظ أباك إسماعيل لسلمة جدك، وحفظك لأبيك إسماعيل، فإن شئت دعوت الله فذهب ما بك، وإن شئت صبرت ولك الجنة، فإن أبا بكر وعمر قد شفعا لك إلى الله عز وجل بحب [ ص: 577 ] أبيك وجدك إياهما، فقلت: فإذا كان بد من اختيار أحدهما فالصبر على ما أنا فيه والجنة، وإن الله عز وجل لواسع بخلقه لا يتعاظمه شيء، إن شاء أن يجمعهما لي فعل . قالت: فقيل: فإن الله قد جمعهما لك ورضي عن أبيك وجدك بحبهما أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما -، قومي فانزلي، فأذهب الله تعالى ما كان بها .

                                                                                                                                                                                              ومتى كان العبد مشتغلا بطاعة الله فإن الله تعالى يحفظه في تلك الحال كما في "مسند الإمام أحمد " عن حميد بن هلال عن رجل قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو يريني بيتا، فقال: "إن امرأة كانت فيه فخرجت في سرية من المسلمين وتركت ثنتي عشرة عنزا وصيصيتها كانت تسبح بها، قال: ففقدت عنزا من غنمها وصيصيتها، فقالت: يا رب إنك قد ضمنت لمن خرج في سبيلك أن تحفظ عليه . وإني قد فقدت عنزا من غنمي وصيصيتي، وإني أنشدك عنزي وصيصيتي " قال: فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر شدة مناشدتها ربها تبارك وتعالى . قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "فأصبحت عنزها ومثلها وصيصيتها ومثلها . وهاتيك، فأتها" قال: فقلت: بل أصدقك " .

                                                                                                                                                                                              وكان شيبان الراعي يرعى غنما، فإذا جاءت الجمعة خط عليها خطا وذهب إلى الجمعة ثم يرجع وهي كما تركها .

                                                                                                                                                                                              وكان بعض السلف بيده الميزان يزن بها دراهم فسمع الأذان فنهض ونفضها على الأرض وذهب إلى الصلاة، فلما عاد جمعها فلم يذهب منها شيء .

                                                                                                                                                                                              ومن أنواع حفظ الله لمن حفظه في دنياه: أن يحفظه من شر كل من يريده [ ص: 578 ] بأذى من الجن والإنس، كما قال تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا قالت عائشة - رضي الله عنها -: يكفيه غم الدنيا وهمها .

                                                                                                                                                                                              وقال الربيع بن خثيم : يجعل له مخرجا من كل ما ضاق على الناس . وكتبت عائشة - رضي الله عنها - إلى معاوية : إن اتقيت الله كفاك الناس، وإن اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئا .

                                                                                                                                                                                              وكتب بعض الخلفاء إلى الحكم بن عمرو الغفاري كتابا يأمره فيه بأمر يخالف كتاب الله، فكتب إليه الحكم: إني نظرت في كتاب الله فوجدته قبل كتاب أمير المؤمنين ، وإن السماوات والأرض لو كانتا رتقا على امرئ فاتقى الله عز وجل، جعل له منهما مخرجا . والسلام .

                                                                                                                                                                                              وأنشد بعضهم:


                                                                                                                                                                                              بتقوى الإله نجا من نجا . وفاز وصار إلى ما رجا     ومن يتق الله يجعل له .
                                                                                                                                                                                              كما قال من أمره مخرجا



                                                                                                                                                                                              كتب بعض السلف إلى أخيه: أما بعد، فإنه من اتقى الله حفظ نفسه . ومن ضيع تقواه فقد ضيع نفسه، والله الغني عنه .

                                                                                                                                                                                              ومن عجيب حفظ الله تعالى لمن حفظه: أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى وساعية في مصالحه، كما جرى لسفينة مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كسر به المركب وخرج إلى جزيرة فرأى السبع، فقال: يا أبا الحارث أنا سفينة مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعل يمشي حوله ويدله على الطريق حتى أوقفه عليها، ثم جعل يهمهم كأنه يودعه وانصرف عنه . [ ص: 579 ] وكان أبو إبراهيم السايح قد مرض في برية بقرب دير، فقال: لو كنت عند باب الدير لنزل الرهبان فعالجوني، فجاء السبع فاحتمله على ظهره حتى وضعه على باب الدير فرآه الرهبان فأسلموا وكانوا أربعمائة .

                                                                                                                                                                                              وكان إبراهيم بن أدهم ، نائما في بستان وعنده حية في فمها طاقة نرجس . فما زالت تذب عنه حتى استيقظ .

                                                                                                                                                                                              فمن حفظ الله حفظه من الحيوانات المؤذية بالطبع، وجعل تلك الحيوانات حافظة له . ومن ضيع الله ضيعه الله بين خلقه، حتى يدخل عليه الضرر ممن كان يرجو أن ينفعه، ويصير أخص أهله به وأرفقهم به يؤذيه .

                                                                                                                                                                                              كما قال بعضهم: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق خادمي وحماري، يعني: أن خادمه يسوء خلقه عليه ولا يطيعه، وحماره يستعصي عليه فلا يواتيه لركوبه . فالخير كله مجموع في طاعة الله والإقبال عليه . والشر كله مجموع في معصية الله والإعراض عنه .

                                                                                                                                                                                              قال بعض العارفين: من فارق سدة سيده لم يجد لقدميه قرارا أبدا .


                                                                                                                                                                                              والله ما جئتكم زائرا .     إلا وجدت الأرض تطوى لي
                                                                                                                                                                                              ولا ثنيت العزم عن بابكم .     إلا تعثرت بأذيالي



                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية