الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
مثل الإيمان مثل الضيف بعث الملك إليك ضيفا وقال أحسن إليه فإنه ضيف كريم وهو من خاصتي وصنه صيانة مثله فلو تركك على ذلك وقعت في جهد عظيم واستدانة ومؤونة عظيمة لتنفق عليه وتحسن إليه في العاقبة ومع ذلك تعجز عن الصيانة والإحسان إليه لفقرك وخفة ذات يدك فإن أعطاك بدرة من الدراهم لتنفق عليه فقد أقدرك على الإحسان إليه وكنت واصلا إلى إحسانه على السعة والبسطة لسعة المال الذي نلته

[ ص: 199 ] والأول ناله التعب لضيق النفقة ولكن أنت بعد في تعب من ذلك لأنك تحتاج إلى التقدير في كل شيء والتقدير تعب لأنك تحتاج إلى محافظة المقادير فإذا جاءت المحافظة على التقدير ضاع بعض الإحسان لقلة العدة فإذا بعث إليك بدرة أخرى مكان الدراهم من الدنانير وقال أنفق عليه اتسع في النفقة وخرج عن تعب التقدير ومحافظته فوصل إلى الإحسان كله ومع ذلك بقي شيء من الإحسان لم يصل إليه

قال له قائل وما تلك البقية قال بهاء الإحسان وزينته

قال وبماذا يصل إلى ذلك

قال بأن بعث إليه بدرة أخرى مكان الدنانير من الجواهر قيمة كل جوهر منها بيوت من الدنانير قد اتسع الآن في النفقة اتساعا فحينئذ يصل إلى بهاء الإحسان وزينته

قال له قائل ضربت المثل فقابل الشيء بالشيء حتى نفهمه

.قال نعم الملك ربك الأعلى والضيف الكريم وخاصته المعرفة الذي آمنت به فأوصاك بالإحسان إليه وصيانته بقوله [ ص: 200 ] تعالى واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين وقال أيضا جل ذكره وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين

قال له قائل هذه الآية نزلت في الجهاد وفي النفقة فيه

فقال هذا الذي تحكيه تفسير العجم من الكتب الموضوعة لهم على الشايذبوذ أفترى ما أنزل الله في شأن قوم لم يعم الخلق ذلك فقد نزلت آية الخمر وآية الربا في شأن قوم فعمت الخلق كلهم ولم يقل أحد من المؤمنين إنما نزلت هذه في شأن [ ص: 201 ] كذا وفي قوم كذا فهذا لهم دوننا فإذا قال الله تعالى اتقوا الله فقد عم الخلق كلهم أن يتقوه وعم المواضع كلها فإذا قال واعلموا أن الله مع المتقين فقد اقتضاهم كلهم أن يعلموا ذلك

وقوله وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة الآية فسبيل القلوب إلى العرش إلى مظهره الذي ظهر للعباد وهناك سبيل الأركان والجوارح إلى أمره ونهيه فالإنفاق في سبيل القلوب من هذه البدرة التي كنزها في الصدور والإنفاق في قلوب المؤمنين فالكنز في القلب وموضع الإنفاق على الضيف في الصدر والإنفاق في سبيل الأركان والجوارح من الأمر والنهي الذي رسمه في التنزيل فيأتمر بأمره وينتهي عن نهيه فكلاهما في سبيل الله تعالى إلا أن أحد السبيلين للقلب إلى العرش وسبيل آخر للنفس إلى طاعة الله تعالى ثم إلى الجنة

وإنما يستكمل في سبيل الطاعة بالسبيل إلى العرش ثم قال ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فيدعو مجاهدة النفس ورد الهوى من حيث جاء وبما جاء من باب النار ثم قال وأحسنوا إن الله يحب المحسنين أي أحسنوا مجاورة معرفتي في قلوبكم فإن معرفتي وعلمي وتكلمي أنوار لا تحتمل الأدناس ومجاورة [ ص: 202 ] الأنتان والمزابل وقد علمتم أن الغل والغش والمكر والحسد وحب الدنيا واتباع الهوى كلها أنتان ومزابل وظلمة وأدناس وأنجاس وأرجاس

فإذا وجدتم في صدوركم سلطان هذه الأشياء عاملا فيها فكيف يكون حال هذا الضيف عندكم وأين إكرامكم إياي ووصيتي إياكم بالإحسان إليه

ثم قال فيما روي عنه في بعض الكتب إني أكرم من أكرمني وأهين من هان عليه أمري

فإكرام الله تعالى أن تكرم معرفته التي وضعها فيك وتصونها من الأدناس والأنتان والمزابل التي ذكرناها

وقد قال صلى الله عليه وسلم (الإيمان حلو نزه فنزهوه فحلاوة الإيمان الحب الذي وضع فيه ونزاهته أن تنزهه عن هذه الأشياء

ثم قال الله تعالى وأحسنوا إن الله يحب المحسنين أي أحسنوا إلى هذا الضيف وأحسنوا مجاورته فإذا قال أحسنوا فإنما يقع الإحسان على كل شيء كما قال صلى الله عليه وسلم (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته

[ ص: 203 ] وقال جل ذكره وبالوالدين إحسانا وقال جل ذكره وأحسن كما أحسن الله إليك وقال الله عز وجل إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون

فأحسن إلى من أحسن إليه وأعظم شأنه وأكرم مجاورته وطهر مكانه 74 وهو نور الله تعالى في قلب المؤمن

وجه تشبيه القلب بالكعبة

وقد عظم الله تعالى شأن الكعبة وطهرها وسماها بيته ولم يملكها أحدا من خلقه وجعل حولها حرما آمنا يلوذ به الخائفون ويمتنعون به من الآفات ويتطهرون بالطواف بهذا البيت من أدناس الذنوب ويرجعون في وقت الصدور عنه مغفورين فنور الله أعظم شأنا وحرمة من الكعبة

وقلب المؤمن خزانة الله تعالى فيه كنوز المعرفة وكنوز العلم بآلائه ولم يملكه أحدا ولم يطلع عليه أحدا ولم يكله إلى أحد فهو في قبضته وبين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء

كذا روي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمي بهذا الاسم (يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على طاعتك

[ ص: 204 ] وكان هذا الاسم هجيري رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عامة دعائه بهذا الاسم وعامة حاجته في الثبات قالت عائشة رضي الله عنها قلت يا رسول الله إنك لتكثر هذا الدعاء (يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على طاعتك فقال لي (يا عائشة إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ثم قرأ قول الله سبحانه ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

الروايات لهذا الحديث من غير وجه واحد ولا اثنين ولا أربعة ولا خمسة كلهم يروون هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل الله قلب المؤمن خزانته وفيها كنوزه وهو ممسكه وجعل صدره حرما

فإذا كان الحرم له من الحرمة أنه لا يصاد صيده ولا يقطع شجره ولا تلتقط لقطته ولا يخاف من دخله وصيره مأمنا ومهبط رحمته وموضع نظره من بين جميع الأرض فقلب [ ص: 205 ] المؤمن أعظم شأنا من الحرم وما فيه أعظم من الكعبة فإن كانت الكعبة بيته فهذا نوره في خزانته وإن كانت الكعبة لا يملكها غيره فهذا القلب أيضا في قبضته لا يملكه غيره وإن كان ما حوله حرما فالصدر حول القلب حرم لهذه الخزانة ولما فيها فكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أحدث في الحرم حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل

فهذا المحدث هو خارجي يخرج بالجور والباطل على إمام عدل محق فهو المحدث ومن أعانه أو آواه فقد استوجب اللعنة فكذلك من أحدث في هذا الصدر حدثا من هوى أو بدعة استوجب اللعنة ولم يقبل منه صرف ولا عدل ولا توبة لأنه خرب الدين ورام أن يأخذ ولاية القلب بالتوحيد فإن القلب أمير على النفس والإمرة بالكنوز والجنود حتى يمضي سلطانه على الجوارح في الأمر والنهي وقوة كنوز المعرفة وعلم التوحيد فهؤلاء [ ص: 206 ] الجبرية والقدرية والمرجئة والمجسمة والمعطلة عليهم .لعائن الله تترى قد أحدثوا في الحرم على خزانة الله أكثر وأعظم ممن أحدث في الحرم على بيت المال

وكما لا يصاد صيد الحرم فكذلك ما تطاير في الصدر من الخواطر من صفات الله تعالى فليس تصاد تلك الخواطر فيدخل قلبه مداخل الفكر لكيفيته فإنه ليس لتلك الصفات كيفية ولا منتهى ولا ملاحظة فاستغفر الله كما تكفر أول صيد تأخذه ثم قال الله تعالى ومن عاد فينتقم الله منه أي يعاقبه

وحذرك الكفر فإنه ينتقم منك إذا اتبعت الخواطر ففكرت

[ ص: 207 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تفكروا في خلقه ولا تفكروا فيه

وكما لا تقطع أشجار الحرم فتذهب نزهته وخضرته لا تسقط حرمة أشجاره أيضا لأنها في المأمن

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ما صيد من مصيد ولا قطعت شجرة إلا لغفلة عن التسبيح

وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أتى بغراب وافر الجناحين فمسحه بيده وقال الحمد لله رب العالمين سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (ما صيد من مصيد ولا قطعت شجرة إلا لغفلة عن الصلاة والتسبيح

فإذا كانت الأشجار إنما يسلط الآدمي عليها في وقت غفلتها عن التسبيح لأنها على قطعها صارت معاقبة بترك التسبيح وجعلت شجرة للآدميين فيكون تسبيحها مكان تسبيح الممتنعين عن التسبيح بشركهم وكفرهم لتتماسك الأرض بتسبيح المسبحين الموحدين ومن لحق تسبيحهم من الجبال والأشجار والخلق والخليقة فإنما يسلط على قطعها بتركها التسبيح وغفلتها فإذا كانت الشجرة في الحرم فهي في المأمن مأمن بيت الله تعالى

[ ص: 208 ] وقال الله تعالى وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا

وإن غفلت عن التسبيح لم تصل إليها عقوبة القطع فمنع الخلق عن قطعها فإن قطعها قاطع فتلك جناية فإن غرم في الدنيا كان قد افتدى نفسه بتلك الغرامة والصدقة على المساكين بقيمتها وأدى إلى الحرم حقه وخرج من جنايته على شجر الحرم وإن لم يغرم في الدنيا موحد كان أو مشرك فلا فوت على الله من أخذ حقه لحقه وحق حرمه فإذا كان هذا شأن أشجار الحرم فما ظنك بمن قطع أشجار حرم القلب التي في الصدر

قال تدبير الله تعالى في إبراز أسمائه وعلم أسمائه وما خرج من أسمائه إلى الخلق فخرج باسم العرش وباسم الكرسي وباسم الجنة وباسم النار وباسم الملائكة وباسم آدم عليه السلام والآدميين وباسم المسخرين وباسم الليل والنهار وباسم الذي ختم الأسماء محمد صلى الله عليه وسلم فهذه الأسماء كلها تدبيره وهذا الخلق الذي منه خرج تدبيره فهذه أشجار فمن اعترض تدبيره فعارض اسما باستخفاف أو جهالة [ ص: 209 ] فقد قطع شجرة ومن اعترض تدبيره فعارض حقا من حقوقه في خلقه فقد قطع أغصان الشجرة وأصل الشجرة باق فإن تاب وأرضى الخلق عادت الأغصان اليابسة رطبة

فإذا كانت أشجار الحرم حرم الكعبة هذا محل صاحبها وهذا شأنها فكيف بأشجار حرم الصدر ما ظنك بمن عارض تدبير الله تعالى أليس هو مناصب لله عز وجل من حيث لا يعلم استبدادا وتورعا عن أشياء 75 على المراءاة وتماوتا عند الخلق وتخشعا بخشوع النفاق وجوفه ممتلئ من الحسد والحقد والرغبة والشح والبخل والأمل وسوء الظن والغل والغش والمكر وأنواع الخيانات والاستخفاف بأهل ملته وقلة الرحمة والعطف وقطيعة الرحم والتعزز والتكبر والتجبر والمراءاة والتزين والتصنع والمداهنة وتعظيم الدنيا والعون في غير ذات الله تعالى على الضر والنفع والبطر بأنعم الله تعالى والكبرياء على عباد الله تعالى والفخر في عطية الله تعالى وخوف الفقر والفرح بالدنيا وبأحوال [ ص: 210 ] النفس والحزن على فوتها والتملك في أمر الله والاقتدار والسخط للمقدور وقلة الأمن للرزق والاستبداد في أمر الله تعالى والتهاون بالمؤمن فقد حشا جوفه وزوايا بيته من هذه الأشياء وملأ صدره من دخانها وظلمتها وأنتانها وأدناسها لأن هذا كله من أغصان الكفر والشرك والخروج على الله والمضاهاة بطلب عزه وكبره في أرضه بدنيا دنية وشهوة ردية ويتجبر في حقوقه ويتزين لعبيده كمن لا يؤمن بالله ويداهن في أمره كمن لا يعرف ربه ويعظم دنياه التي حقرها كمن يناصب ربه ويعين في غير ذاته كمن يريد خراب ما عمره الله تعالى ويبطر بأنعمه كمن لا يبالي بها ولا يستحي من المنعم ويسخط في مقدوره ويتجبر في أموره كأنه هو المدبر للأمور فأية حرمة بقيت لهذا الحرم وأية معرفة بقيت لصاحب هذا وقد أغار العدو على كنوزه فبددها وطمسها بما جاء به من هذه الأشياء وهزم العقل حتى انكمن في رأسه وحتى ذهب علمه وإشراقه في الصدر قال له قائل قد ذكرت أنه لا تلتقط لقطته فايش لقطته

[ ص: 211 ] قال سر القدر والعلوم التي حجب الخلق عن إدراكها فذاك لقطته لا يعرف بيتها ولا وليها ولا يملكها أحد سواه وهي موضوعة في طريق التوحيد ومدرجة العقول إلى التوحيد بلوى للعباد فأهل الزيغ طالبون لها وباحثون عنها ويفتشون لها ولن يزدادوا بذلك التفتيش إلا غما وحيرة لأنه علم لا يدرك منتهاه بمنزلة بحر عميق مظلم لا يدرك حده ولا نهايته فالسابح فيه كمن سبح في البحر فلا بد له من الغرق والهلك

فهذه اللقطة في الصدر حرم القلب فلا تلتقط لحرمة التوحيد لأن من شرط التوحيد ألا تطمع للعباد فيما توحيد الله تعالى به وتفرد

ويحق على العاقل أن يعقل فيقول إذا قلت الله واحد أحد فرد فأي علم في الأحدية والفردية إنما العلم في الصفات صفات القدرة فإذا انتهيت إلى أحديته وفرديته فأي علم هناك تطمع في معرفته وقد انقطعت الصفات وكيف تصف علما ولا صفة له

[ ص: 212 ] وقوله لا يخاف آمنها فالحق إذا وجد في القلب والنفس مأمنا فقد اعتزل الخيانة وظهر مكانه الأمن فصار صاحبه محقا فعندها يكون الحق مستعمله وإذا لم يجد في الصدر مأمنا فقد نفر فلم يأمن خيانة النفس وميل القلب فصاحبه في طلبه وهو ماض عنه

وقولنا مهبط رحمته وموضع نظره فهي معروفة فإذا كانت الكعبة مهبط الرحمة فكذلك قلب المؤمن مهبط حب الله تعالى ورأفته ومهبط جوده وكرمه وعين الله ترعاه وموضع نظره أيضا

الخبر (إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم فمن كان له قلب صالح تحنن الله تعالى عليه فإذا تحنن عليه رعاه وصيره في قبضته

الخبر الذي قال (كنت سمعه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا إن التقوى ها هنا ثلاثا وأشار إلى الصدر في كل مرة

[ ص: 213 ] وأعظم التقوى ما اتقى في الحرم فإذا اتقى فإنما يتقي على الصيد والشجر واللقطة فإذا كان ذلك كذلك فالتقوى الذي أشار إليها صاحب الشرع فهي على كنوز المعرفة وعلى أشجارها في الصدر وعلى لقطتها وعلى من التجأ إليه مأمنا فأوفر الناس حظا في الكعبة من عظم شأنها واتقى على حرمها وأكثر الطواف بها وإنما يفعل ذلك من شم رائحة الكعبة ونظر إليها بعين الصحة لا بعين السقم من قلب لا سقم فيه من شهوات النفس وإرادات الهوى فنظر بعين ذلك القلب إلى بهاء الكعبة وإلى ذلك الشيء الذي به صارت الكعبة كعبة لا إلى تلك الأحجار لأنها قد كانت كعبة ولا أحجار وكانت الملائكة والأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين تحجها فيما بين نوح وإبراهيم عليهما السلام ولا أحجار ثمة

فأوفر الناس حظا من خزانة الله التي في قلب المؤمن من عظم شأنها واتقى على صدره وأكثر الطواف حول الخزانة حتى يدر عليه ولي الخزانة من الكنوز كما يدر الضرع على حالبه من اللبن فإن البقرة والشاة تدر من ضرعها على ولدهما لترضعهما بالرأفة والرحمة التي وضعت فيها ولولا تلك الرحمة لولدها ما در لبنها

[ ص: 214 ] ألا ترى أن الحالب يقدم عند الحلب ولدها إليها أولا حتى ترسل اللبن ثم يفطم ولدها عنها ويحلبها ولو مات ولدها مثل لها مثال ولدها بأن يحشي جلد ولدها تبنا ويوضع بين يديها لتنخدع بذلك فتدر لبنها

فأراك هذا رب البقرة من خلقه وعرفك أن الذي تصيب من عندي فتدر عليك رحمتي قال له قائل وما يدر عليه من .الخزانة من تلك الكنوز

قال يدر بالرحمة كما وصفت من شأن الضرع والدر من الكنوز وعلم المعرفة

علم المعرفة

قال له القائل وما علم المعرفة

قال عرفت الرب قال نعم قال بأي شيء عرفته فانقطع قال عرفني نفسه من الصفات قال فما احتظيت من هذه الصفات قال الإيمان به فكان ذلك حظك منها أم علم مشرق مستنير أم مطالعة ببصائر الهدى فإن علم المعرفة للعامة الإيمان به وهو الظالم لنفسه ما زال يظلم نفسه باتباع الهوى والشهوات حتى احتجبت المعرفة عنه فصاحبه عالم جاهل مؤمن به يعثر مرة في طريقه ويقوم أخرى ويزل مرة [ ص: 215 ] وينعش أخرى فهو بين طاعة ومعصية حتى يقدم على ربه بهذه الحالة

وعلم المعرفة للصادقين مشرق نير واضح وهو المقتصد يشير إلى الله تعالى على مدرجة الصدق في الفعل جهدا وحذرا وحراسة 76 باكيا على نفسه يقتضي منها الصدق في الفعل جهدا في كل حركة وفعل وقول

وعلم المعرفة للصديقين مطالعة البراذين ومشاهدة المعادن وذلك باليقين وهو علم السابقين المقربين قال الله جل ذكره كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم

فبعلم اليقين وبقوة نوره يرى عين اليقين بالبراذين [ ص: 216 ] والمعادن التي تظهر منها الصفات وربوبية الرب

فذلك العلم النافذ ببصر قلبه إلى نور روحه المتوقد في عينه الظاهرة التي في رأسه فإذا نظر إلى الأشياء أبصر آية القدرة في الأشياء كلها وآثار الربوبية فلا تقدر زينة الأشياء وبهجتها وحلاوتها أن تغره عن الله حتى يتعلق قلبه بشيء دون الله تعالى فيحجبه عن الله تعالى فيصير فتنة عليه فيعمى بصر قلبه ويبقى في ظلمات النفس وحب الشهوات ويتكدر روحه ويسلب قلبه الإمرة ويغلب الخارجي

فإذا لم يكن له هذا العلم في صدره على صفة السابق المقرب وإنما كان علمه على صفة المقتصد فهو مشغول يقينه بوهج الحروب ومحاربة الأبطال حيث التقيا فمرة منصور ومرة مخذول فمتى يقدر أن يلاحظ آثار القدرة والربوبية وليس لبصره نور أن ينفذ إلى رؤية ذلك وهو بعيد منه

ومن كان علمه علم الظالم لنفسه فذلك علم اللسان قد تلقنه من أفواه الرجال سمعا ومن الكتب نظرا فأودعه حفظه حتى يبرزه الحفظ من صدره في وقت الحاجة وليس له قوة ما يجاهد به نفسه فيحاربها ويهزمها

[ ص: 217 ] وتلك حجة الله تعالى عليه يقول ويهدي الناس إليه فإذا صار إلى إقامته بنفسه صار أضل من الأنعام يغلبه الهوى في الشهوات قال الله جل ذكره قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم أي في وقت محمد صلى الله عليه وسلم

التالي السابق


الخدمات العلمية