الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              [ ص: 602 ] سورة الحجر

                                                                                                                                                                                              قوله تعالى: إنا نحن نـزلنا الذكر وإنا له لحافظون

                                                                                                                                                                                              بلغني إنكار بعض الناس على إنكاري على بعض من ينتسب إلى مذهب الإمام أحمد وغيره من مذاهب الأئمة المشهورين في هذا الزمان، الخروج عن مذاهبهم، في مسائل، وزعم أن ذلك لا ينكر على من فعله، وأن من فعله قد يكون مجتهدا متبعا للحق الذي ظهر له، أو مقلدا لمجتهد آخر، فلا ينكر عليه . فأقول وبالله التوفيق، وهو المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله:

                                                                                                                                                                                              لا ريب أن الله تعالى حفظ لهذه الأمة دينها حفظا لم يحفظ مثله دينا غير دين هذه الأمة، وذلك أن هذه الأمة ليس بعدها نبي يجدد ما دثر من دينه كما كان دين من قبلنا من الأنبياء، كلما دثر دين نبي جدده نبي آخر يأتي بعده . فتكفل الله سبحانه بحفظ هذا الدين، وأقام له في كل عصر حملة ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين . وقال تعالى: إنا نحن نـزلنا الذكر وإنا له لحافظون فتكفل الله سبحانه بحفظ كتابه، فلم يتمكن أحد من الزيادة في ألفاظه ولا من [ ص: 603 ] النقص منها .

                                                                                                                                                                                              وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرئ أمته القرآن في زمانه على أحرف متعددة، تيسيرا على الأمة لحفظه، وتعلمه، حيث كان فيهم العجوز والشيخ الكبير، والغلام والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط . فطلب لهم الرخصة في حفظهم له أن يقرئهم على سبعة أحرف، كما ورد ذلك في حديث أبي بن كعب وغيره . ثم لما انتشرت كلمة الإسلام في الأقطار، وتفرق المسلمون في البلدان المتباعدة صار كل فريق منهم يقرأ القرآن على الحرف الذي وصل إليه . فاختلفوا حينئذ في حروف القرآن، فكانوا إذا اجتمعوا في الموسم أو غيره اختلفوا في القرآن اختلافا كثيرا . فأجمع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في عهد عثمان على جمع الأمة على حرف واحد، خشية أن تختلف هذه الأمة في كتابها كما اختلفت الأمم قبلهم في كتبهم، ورأوا أن المصلحة تقتضي ذلك . وحرقوا ما عدا هذا الحرف الواحد من المصاحف وكان هذا من محاسن أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - التي حمده عليها علي وحذيفة وأعيان الصحابة .

                                                                                                                                                                                              وإذا كان عمر قد أنكر على هشام بن حكيم بن حزام على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في آية أشد الإنكار وأبي بن كعب حصل له بسبب اختلاف القرآن ما أخبر به عن نفسه من الشك، وبعض من كان يكتب الوحي للنبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 604 ] ممن لم يرسخ الإيمان في قلبه ارتد بسبب ذلك حتى مات مرتدا .

                                                                                                                                                                                              هذا كله في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف الظن بالأمة بعده أن لو بقي الاختلاف في ألفاظ القرآن بينهم .

                                                                                                                                                                                              فلهذا ترك جمهور علماء الأمة القراءة بما عدا هذا الحرف الذي جمع عثمان عليه المسلمين، ونهوا عن ذلك . ورخص فيه نفر منهم، وحكي رواية عن أحمد ومالك مع اختلاف عنهما على ذلك به في الصلاة وغيرها أم خارج الصلاة فقط .

                                                                                                                                                                                              وبكل حال: فلا تختلف الأمة أنه لو قرأ أحد بقراءة ابن مسعود ، ونحوها مما يخالف هذا المصحف المجتمع عليه، وادعى أن ذلك الحرف الذي قرأ به هو حرف زيد بن ثابت الذي جمع عليه عثمان الأمة، أو أنه أولى بالقراءة من حرف زيد: لكان ظالما متعديا مستحقا للعقوبة . وهذا لا يختلف فيه اثنان من المسلمين .

                                                                                                                                                                                              إنما محل الخلاف: إذا قرأ بحرف ابن مسعود ونحوه مع اعترافه أنه حرف ابن مسعود المخالف لمصحف عثمان - رضي الله عنه - .

                                                                                                                                                                                              وأما سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -: فإنها كانت في الأمة تحفظ في الصدور كما يحفظ القرآن، وكان من العلماء من يكتبها كالمصحف، ومنهم من ينهى عن كتابتها . ولا ريب أن الناس يتفاوتون في الحفظ والضبط تفاوتا كثيرا .

                                                                                                                                                                                              ثم حدث بعد عصر الصحابة قوم من أهل البدع والضلال، أدخلوا في الدين ما ليس منه وتعمدوا الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - . [ ص: 605 ] فأقام الله تعالى لحفظ السنة أقواما ميزوا ما دخل فيها من الكذب والوهم والغلط، وضبطوا ذلك غاية الضبط وحفظوه أشد الحفظ . ثم صنف العلماء التصانيف في ذلك، وانتشرت الكتب المؤلفة في الحديث وعلومه، وصار اعتماد الناس في الحديث الصحيح على كتابي الإمامين أبي عبد الله البخاري ، وأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري - رضي الله عنهما . واعتمادهم بعد كتابيهما على بقية الكتب الستة خصوصا "سنن أبي داود" . و"جامع أبي عيسى" و"كتاب النسائي " ثم كتاب ابن ماجه . وقد صنف في الصحيح مصنفات أخر بعد صحيحي الشيخين، لكن لا تبلغ كتابي الشيخين .

                                                                                                                                                                                              ولهذا أنكر العلماء على من استدرك عليهما الكتاب الذي سماه: " المستدرك " . وبالغ بعض الحفاظ فزعم أنه ليس فيه حديث واحد على شرطهما . وخالفه غيره، وقال: يصفو منه حديث كثير صحيح . والتحقيق: أنه يصفو منه صحيح كثير على غير شرطهما، بل على شرط أبي عيسى ونحوه، وأما على شرطهما فلا .

                                                                                                                                                                                              فقل حديث تركاه إلا وله علة خفية، لكن لعزة من يعرف العلل كمعرفتهما وينقده، وكونه لا يتهيأ الواحد منهم إلا في الأعصار المتباعدة . صار الأمر في ذلك إلى الاعتماد على كتابيهما، والوثوق بهما والرجوع إليهما، ثم بعدهما إلى بقية الكتب المشار إليها . [ ص: 606 ] ولم يقبل من أحد بعد ذلك الصحيح والضعيف إلى عمن اشتهر حذقه ومعرفته بهذا الفن واطلاعه عليه، وهم قليل . وأما سائر الناس، فإنهم يعولون على هذه الكتب المشار إليها، ويكتفون بالعزو إليها .

                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية