الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 302 ] ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائتين

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      في هذه السنة أمر الواثق بالله بضرب الدواوين ، واستخلاص الأموال منهم ، فمنهم من ضرب ألف سوط ، ومنهم من أخذ منه ألف ألف دينار ، ودون ذلك ، وجاهر الوزير محمد بن عبد الملك لسائر ولاة الشرط بالعداوة فكشفوا ، وحبسوا ، ولقوا جهدا عظيما وجلس إسحاق بن إبراهيم للنظر في أمرهم ، وأقيموا للناس ، وافتضحوا فضيحة بليغة ، وكان سبب ذلك أن الواثق جلس ليلة في دار الخلافة فسمر عنده ، فقال : هل منكم أحد يعرف سبب عقوبة جدي الرشيد للبرامكة ؟ فقال بعض الحاضرين : نعم يا أمير المؤمنين ، كان سبب ذلك أن الرشيد عرضت عليه جارية ، فأعجبه جمالها ، فساوم سيدها فيها ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إني أقسمت بكل يمين أن لا [ ص: 303 ] أبيعها بأقل من مائة ألف دينار ، فاشتراها منه بها ، وبعث إلى يحيى بن خالد الوزير ليبعث بها إليه من بيت المال ، فاعتل بأنها ليست عنده فأرسل الرشيد يؤنبه ، ويقول : أليس في بيت مالي مائة ألف دينار ؟ ! وألح في طلبها ، فقال يحيى بن خالد : أرسلوها إليه دراهم ليستكثر ذلك ، ولعله يرد الجارية . فبعثوا بمائة ألف دينار دراهم ، ووضعوها في طريق الرشيد ، وهو خارج إلى الصلاة ، فلما اجتاز بها رأى كوما من دراهم . فقال : ما هذا ؟ قالوا : ثمن الجارية . فاستكثر ذلك ، وأمر بخزنها عند بعض خدمه في دار الخلافة ، وأعجبه جمع المال في حواصله ، ثم شرع في تتبع أموال بيت المال فإذا البرامكة قد استهلكوه ، فجعل يهم بأخذهم تارة ويحجم أخرى ، حتى كان في بعض الليالي سمر عنده رجل يقال له : أبو العود . فأطلق له ثلاثين ألف درهم فذهب إلى الوزير يحيى بن خالد بن برمك ، فماطله بها مدة طويلة ، فلما كان في بعض الليالي في السمر عرض أبو العود في ذلك للرشيد بقول عمر بن أبي ربيعة :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وعدت هند وما كادت تعد ليت هندا أنجزتنا ما تعد     واستبدت مرة واحدة
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إنما العاجز من لا يستبد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فجعل الرشيد يكرر قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إنما العاجز من لا يستبد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 304 ] ويعجبه ذلك ، فلما كان الصباح دخل عليه يحيى بن خالد ، فأنشده الرشيد هذين البيتين ، وهو يستحسنهما ففهم ذلك يحيى بن خالد ، وخاف ، وسأل عن من أنشد ذلك للرشيد ؟ فقيل له : أبو العود . فبعث إليه فأنجز له الثلاثين ألفا ، وأعطاه من عنده عشرين ألفا ، وكذلك ولداه الفضل ، وجعفر ، فما كان عن قريب حتى أخذ الرشيد البرامكة ، وكان من أمره وأمرهم ما كان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلما سمع ذلك الواثق أعجبه ذلك ، وجعل يكرر قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إنما العاجز من لا يستبد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم بطش بالكتاب على إثر ذلك ، وأخذ منهم أموالا عظيمة جدا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود ، وهو أمير الحجيج في السنين الماضية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية