الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء

( ( أفعالنا مخلوقة لله لكنها كسب لنا يا لاهي ) )      ( ( وكل ما يفعله العباد
من طاعة أو ضدها مراد ) )      ( ( لربنا من غيرما اضطرار
منه لنا فافهم ولا تمار ) )

( ( أفعالنا ) ) - معشر الخلق - جميعها خيرها وشرها ، كبيرها وصغيرها ( ( مخلوقة ) ) ومصنوعة ( ( لله ) ) تعالى خلقها وأوجدها كما قال الله - تعالى - : ذلكم الله ربكم خالق كل شيء - وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم - والله خلقكم وما تعملون وكقوله تعالى : لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه و هل من خالق غير الله .

قال العلماء : اتفق أئمة السلف قبل ظهور البدع ، والأهواء على أن الخالق هو الله لا سواه ، وأن الحوادث كلها حادثة بقدرة الله - تعالى - من غير فرق بين ما يتعلق بقدرة العبد ، وبين ما لا يتعلق بها ، فهي مقدورة بقدرة الله اختراعا وبقدرة العبد على وجه آخر ، وإليه الإشارة بقوله : ( ( لكنها ) ) أي أفعالنا التي تصدر عنا في بادي الرأي ( ( كسب لنا ) ) - معشر الخلق . والكسب في اصطلاح المتكلمين : ما وقع من الفاعل مقارنا لقدرة محدثة واختيار ، وقيل : هو ما وجد بقدرة محدثة في المكتسب ، وقال العلامة ابن حمدان ، من علمائنا : الكسب هو ما خلقه الله في محل قدرة المكتسب على وفق إرادته في كسبه ، [ ص: 292 ] وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " شرح الأصفهانية " : فسروا الكسب بما قارن القدرة المحدثة في محلها ، ومجرد المقارنة لا يميز القدرة عن غيرها ، فإن الفعل يقارن العلم والإرادة ، وغير ذلك .

قالوا : والقدرة هي التمكن من التصرف . وقيل : سلامة البنية . وقال القاضي الإمام ، من علمائنا : خلق الشيء بقوله " كن " وهو قائم بالله غير بائن منه ومراده . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - روح الله روحه - فيما كتبه على حسن إرادة الله - تعالى - : الكسب عند القائل به عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة ، والخلق هو المقدور بالقدرة القديمة ، وقالوا أيضا : الكسب هو الفعل القائم بمحل القدرة عليه ، والخلق هو الفعل الخارج عن محل القدرة عليه . وقوله : ( ( يا لاهي ) ) تكملة للبيت بالإتيان بالقافية ، وإشارة إلى الحث على المبادرة إلى الدأب في الطاعة ، وعدم الخلود إلى الراحة ، وقلب القلب عن اللهو واللعب ، يقال : لها لهوا ؛ لعب كالتهى ، وألهاه ذلك ، والملاهي آلاته ، قال النسفي في عقائده كغيره من علماء السنة : وللعباد أفعال اختيارية يثابون بها إن كانت طاعة ، ويعاقبون عليها إن كانت معصية ، لا كما زعمت الجبرية أنه لا فعل للعبد أصلا ، وأن حركاته بمنزلة حركات الجمادات لا قدرة عليها ، ولا قصد ولا اختيار ، وهذا باطل لأنا نفرق بالضرورة بين حركة البطش ، وحركة الارتعاش ، ونعلم أن الأول باختياره دون الثاني ; ولأنه لو لم يكن للعبد فعل أصلا لما صح تكليف ، ولا يترتب استحقاق الثواب والعقاب على أفعاله ، ولا إسناد الأفعال التي تقتضي سابقة القصد والاختيار إليه على سبيل الحقيقة ، مثل : صلى وصام وكتب - بخلاف مثل طال واسود لونه ، والنصوص القطعية تنفي ذلك كقوله تعالى : جزاء بما كانوا يعملون فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إلى غير ذلك .

قال المحقق السعد التفتازاني : فإن قيل بعد تعميم علم الله - تعالى - وإرادته : الجبر لازم قطعا لأنهما إما أن يتعلقا بوجود الفعل فيجب ، أو بعدمه فيمتنع . قلنا : يعلم ويريد أن العبد يفعله أو يتركه باختياره فلا إشكال . فإن قيل : فيكون فعله الاختياري واجبا أو ممتنعا ، وهذا ينافي الاختيار . قلنا : ممنوع فإن الوجوب بالاختيار محقق للاختيار لا مناف ، وأيضا منقوض بأفعال الباري تعالى ، فإن قيل : لا معنى لكون العبد فاعلا بالاختيار إلا كونه موجدا [ ص: 293 ] لأفعاله بالقصد ، والإرادة ، وقد سبق أن الله - تعالى - مستقل بخلق الأفعال وإيجادها ، ومعلوم أن المقدور الواحد لا يدخل تحت قدرتين مستقلتين .

قال التفتازاني : قلنا لا كلام في قوة هذا الكلام ومتانته ، إلا أنه لما ثبت بالبرهان أن الخالق هو الله - تعالى - ، وبالضرورة أن لقدرة العبد وإرادته مدخلا في بعض الأفعال ، كحركة البطش دون البعض كحركة الارتعاش ؛ احتجنا في التفصي عن هذا المضيق إلى القول بأن الله - تعالى - خالق والعبد كاسب ، وإيجاد الله - تعالى - الفعل عقيب ذلك خلق ، والمقدور الواحد داخل تحت قدرتين ، لكن بجهتين مختلفين . فإن الفعل مقدور الله بجهة الإيجاد ، ومقدور العبد بجهة الكسب ، وهذا القدر من المعنى الضروري ، وإن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة عن تحقيق كون العبد كاسبا بخلق الله - تعالى - وإيجاده مع ما للعبد من القدرة والاختيار .

ومن جملة ما لهم في الفرق بين الكسب ، والخلق أن الكسب وقع بآلة ، والخلق لا بآلة ، والكسب لا يصح انفراد القادر به ، والخلق يصح .

فإن قيل : قد أثبتم ما نسبتم إلى المعتزلة من إثبات الشركة ، قلنا : الشركة أن يجتمع اثنان على شيء وينفرد كل منهما بما هو له دون الآخر كشركاء القرية والمحلة ، كما إذا جعل العبد خالقا لأفعاله ، والصانع خالقا لسائر الأعراض والأجسام ، بخلاف ما إذا أضيف أمر إلى شيئين بجهتين مختلفتين ، كالأرض تكون ملكا لله - تعالى - بجهة التخليق ، وللعباد بجهة ثبوت التصرف ، وكفعل العبد ينسب إلى الله - تعالى - بجهة الخلق ، وإلى العبد بجهة الكسب .

فإن قيل : فكيف كان كسب القبيح قبيحا سفها موجبا لاستحقاق الذم بخلاف خلقه ؟ قلنا : لأنه قد ثبت أن الخالق حكيم لا يخلق شيئا إلا وله عاقبة حميدة ، وإن لم نطلع عليها ، فجزمنا بأن ما نستقبحه من الأفعال قد يكون له فيها حكم ومصالح كما في خلق الأجسام الخبيثة الضارة المؤلمة ، بخلاف الكاسب فإنه قد يفعل الحسن وقد [ ص: 294 ] يفعل القبيح ، فجعلنا كسبه للقبيح مع ورود النهي عنه قبيحا سفها موجبا لاستحقاق الذم والعقاب ( ( وكل ما ) ) أي فعل أو الذي ( ( يفعله العباد من طاعة ) ) وهي ما تكون متعلق المدح في العاجل ، والثواب في الأجل ( ( أو ) ) أي : وكل ما يفعلونه من ( ( ضدها ) ) أي ضد الطاعة ، وهي المعصية ، يعني : ما فيه ذم في العاجل أو اللوم في الآجل ( ( مراد لربنا ) ) - تعالى - أي داخل تحت إرادته ومشيئته ، فالله - تعالى - خالق كل شيء وربه ومليكه [ ص: 295 ] ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وهو على كل شيء قدير ، وهو - تعالى - يحب المحسنين ، والمتقين ، ويرضى عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان ، ولا يحب الفساد ، ولا يرضى لعباده الكفر ، ومع كونه - تعالى - خالق كل شيء وربه ومليكه فرق بين المخلوقات ، وميز بين أعيانها وأفعالها ، كما قال : أفنجعل المسلمين كالمجرمين أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار وقال تعالى : وما يستوي الأحياء ولا الأموات إلى غير ذلك من الآيات مما يبين الفرق بين المخلوقات وانقسام الخلق إلى شقي وسعيد كما قال تعالى : هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن [ ص: 296 ] وقال تعالى : فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ونظائر هذا في القرآن كثير ( ( من غيرما ) ) زائدة لتأكيد النفي ( ( اضطرار ) ) افتعال من الضر ، وأصله مضترر ، فأدغمت الراء ، وقلبت التاء طاء لأجل الضاد ، أي من غير إلجاء وجبر وإكراه ، فالحق - سبحانه وتعالى - خلق الإنسان من صلصال كالفخار ، وصرفه في ما شاء من توبة وإصرار وحوبة واستغفار ، وثنى عنانه إلى مراداته بقوة واقتدار ، من غير إكراه ولا إجبار ولا اضطهاد ولا اضطرار ، بل خلق له قدرة ونوع اختيار فيفعل الفعل ويوقعه بإذن القادر الجبار ، وقوله : ( ( منه ) ) أي من غير اضطرار من الله - تعالى - ( ( لنا ) ) - معشر العباد ، بل خلق فينا قدرة ، وأقدرنا على إيقاع أفعالنا بالإذن منه ، والتمكين لنا من التوصل إلى امتثال الأوامر ، والانكفاف عن مواقع الزواجر ، فلقدرة العبد تأثير في إيجاد فعله لا بالاستقلال ، والاستبداد ، بل بالإعانة ، والإذن ، والتمكين من الفاعل المختار الجواد ( ( فافهم ) ) فهم إذعان وتحقيق وتحرير وتدقيق ، يقال : فهم الشيء إذا علمه وعرفه بقلبه ( ( ولا تمار ) ) في علمك ولا تجار في فهمك ، بل كن مع الحق حيث كان ، ولا تغتر بنحاتة الأفهام وزبالة الأذهان ، فما ثم إلا النص الصريح والنقل الصحيح دون المحال ، وما بعد الحق إلا الضلال ، فلا تكون إمعة في هذا الباب ، وتخلد إلى الدعة ؛ فيحيق بك العذاب ، والمراء الجدال ، والمماراة المجادلة على مذهب الشك ، والريبة ، ويقال للمناظرة مماراة ; لأن كل واحد يستخرج ما عند صاحبه ويمتريه ، كما يمتري الحالب اللبن من الضرع ، وروى أبو داود وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " المراء في القرآن كفر " ورواه الطبراني وغيره من حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - . قال في النهاية : قيل أراد المراء والجدال في الآيات التي ذكر فيها القدر ونحوه من المعاني على مذهب أهل الكلام وأصحاب الأهواء والآراء ، دون ما تضمنته من الأحكام وأبواب الحلال والحرام ، فإن ذلك قد جرى بين الصحابة فمن بعدهم [ ص: 297 ] من العلماء ، وذلك فيما يكون الغرض منه والباعث عليه ظهور الحق ليتبع دون الغلبة ، وروى أبو داود والترمذي - واللفظ له - وابن ماجه والبيهقي وحسنه الترمذي من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة ، ومن تركه وهو محق بني له في وسطها ، ومن حسن خلقه بني له في أعلاها " ، ورواه الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - ولفظه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وهو محق ، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وهو مازح ، وبيت في أعلى الجنة لمن حسنت سريرته " وربض الجنة بفتح الراء ، والباء الموحدة وبالضاد المعجمة : ما حولها .

وهذا المقام زلت فيه أقدام وضلت فيه طوائف من أهل الكلام والتصوف ، وصاروا إلى ما هو شر من قول المعتزلة ونحوهم . وحاصل ذلك أن الناس انقسموا إلى طرفي تفريط وإفراط ووسط ، أما المفرطون فالقدرية يعظمون الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، وطاعة الله ورسوله ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، لكن ضلوا في القدر واعتقدوا أنهم إذا أثبتوا مشيئة عامة وقدرة تامة ، وخلقا متناولا لكل شيء لزم من ذلك القدح في عدل الرب تعالى وحكمته ، وغلطوا في ذلك ، والقدرية متفقون على أن العبد هو المحدث للمعصية ، كما هو المحدث للطاعة ، وعندهم أن الله - تعالى - ما أحدث هذا ولا هذا ، بل أمر بالطاعة ونهى عن المعصية ، وليس عندهم لله نعمة على عباده المؤمنين في الدين إلا وقد أنعم بمثلها على الكفار ، فعندهم أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأبا لهب مستويان في نعمة الله الدينية ، إذ كل منهما أرسل إليه الرسول ، وأقدر على الفعل ، لكن هذا فعل الإيمان بنفسه من غير أن يخصه بنعمة آمن بها ، وهذا فعل الكفر بنفسه من غير أن يفضل الله عليه ذلك المؤمن ، ولا خصه بنعمة آمن لأجلها ، وعندهم أن الله - تعالى - حبب الإيمان إلى الكفار كأبي لهب وأمثاله ، كما حببه للمؤمنين كعلي - رضي الله عنه - وأمثاله ، [ ص: 298 ] وزينه في قلوب الطائفتين وكره الكفر والفسوق والعصيان إليهما بالسواء ، لكن هؤلاء كرهوا ما كرهه الله إليهم بغير نعمة خصهم بها ، وهؤلاء لم يكرهوا ما كرهه الله إليهم .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - روح الله روحه - : من توهم منهم ، أو من نقل عنهم أن الطاعة من الله ، والمعصية من العبد ، فهو جاهل بمذهبهم ، فإن هذا لم يقله أحد من علماء القدرية ولا يمكن أن يقولوه ، فإن أصل قولهم أن فعل العبد للطاعة كفعله للمعصية كلتاهما فعله بقدرة تحصل له من غير أن يخصه الله - تعالى - بإرادة خلقها فيه تختص بأحدهما ، ولا قوة جعلها فيه تختص بأحدهما ، فمن احتج منهم بقوله تعالى : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك على مذهبهم كان جاهلا بمذهبه ، وكانت الآية الكريمة حجة عليهم لا لهم ؛ لأنه - تعالى - قال : كل من عند الله وعندهم ليست الحسنات المفعولة ولا السيئات المفعولة من عند الله ، بل كلاهما من العبد ، والله - سبحانه وتعالى - ذكر هذه الآية الكريمة ردا على من يقول : الحسنة من الله ، والسيئة من العبد ، قال : ولم يقل أحد من الناس أن الحسنة المفعولة من الله ، والسيئة المفعولة من العبد . قال شيخ الإسلام في شرح الأصفهانية : وأثبتت القدرية من المعتزلة ونحوهم ما في الحيوان من القدرة والاختيار والأفعال دون سائر القوى ، والطبائع ، والأفعال التي فيه ، أو في غيره من الأجسام وغلوا في أفعال الحيوان حتى جعلوها تحدث بلا سبب محدث لها كما زعمه الفلاسفة في الحركة الفلكية ، وجعل أكثرهم ما يحدث بسبب منه ومن غيره فعلا يسمونها الأفعال المتولدة ، كالشبع عن الأكل ، والري عن الشرب ، وخروج السهم عن النزع ، وحصول الموت عن الضرب ونحو ذلك ، وهؤلاء القدرية تارة يثبتون حادثا بلا محدث ، وممكنا يرجح وجوده على عدمه ، بلا مرجح كحدوث فعل الحيوان ، وتارة يضيفون الحدث إلى بعض أسبابه دون سائر أسبابه ، كإضافة المتولدات إلى فعل الإنسان دون غيره ، وتارة ينكرون الأسباب كإنكارهم ما في الأجسام من القوة الطبيعية غير الإرادية . والأسباب ثابتة ، وهي حادثة بإحداث الله - تعالى - ، وهي مفتقرة إلى أسباب أخر ، ولها موانع ، وهؤلاء ينفون بعضها ويجعلون بعضها حادثا بغير إحداث الله - تعالى ، ويجعلون ذلك المحدث مستقلا لا يفتقر إلى مشارك ، قال شيخ الإسلام [ ص: 299 ] - قدس الله روحه - : وقول هؤلاء القدرية شر من قول الجبرية من بعض الوجوه ، فإن قول الجبرية كما يأتي يتضمن ترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح ، وحدوث الحوادث بلا سبب أصلا ، وقول القدرية يتضمن ذلك ، ويزيد عليه بأنه يتضمن حدوث جميع الحوادث بلا محدث أصلا ، ويتضمن إضافتهم الحوادث إلى ما لا يعلم ثبوته بل يعلم انتفاؤه من الأسباب ، ويتضمن أنهم يجعلون السبب مستقلا بالإحداث مع افتقاره إلى شريك يعاونه ومانع يعارضه . وافتقاره إلى محدث يحدثه فلا يثبتون لا محدثه ولا شريكه ولا مانعه . بل يضيفون إلى السبب المحدث ، الذي له شركاء وموانع ، وحصول الأثر به موقوف على فعل الله - تعالى ، فيضيفون إليه مع هذا - ما هو مخلوق للرب الذي لا شريك له ولا ضد له ، ولا رب سواه . ولهذا كان إلحاد هؤلاء ظاهرا عند أهل الملة ، بخلاف الأولين فإنهم معدودون من أهل البدع .

قال : وهذا المقام من أعظم المقامات التي اضطرب فيها مبتدعة المتكلمين وملاحدة الفلاسفة ، حتى إن الرجل الواحد يصنف الكتب المتعددة ، فينصر قول هؤلاء في كتاب ، كما يقع في كتب الرازي ، والآمدي وأبي حامد وغيرهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية