الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 179 ] باب ذكر بني إسماعيل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وما كان من أمور الجاهلية إلى زمان البعثة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      تقدم ذكر إسماعيل نفسه عليه السلام مع ذكر الأنبياء ، وكيف كان من أمره حين احتمله أبوه ابراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مع أمه هاجر فأسكنها بوادي مكة بين جبال فاران حيث لا أنيس به ولا حسيس وكان إسماعيل رضيعا ، ثم ذهب وتركهما هنالك عن أمر الله له بذلك ، ليس عند أمه سوى جراب فيه تمر ، ووكاء فيه ماء فلما نفد ذلك أنبع الله لهاجر زمزم التي هي طعام طعم ، وشفاء سقم كما تقدم بيانه في حديث ابن عباس الطويل الذي رواه البخاري رحمه الله ، ثم نزلت جرهم ، وهي طائفة من العرب العاربة من أمم العرب الأقدمين عند هاجر بمكة على أن ليس لهم في الماء شيء إلا ما يشربون منه ، وينتفعون به فاستأنست هاجر بهم ، وجعل الخليل عليه السلام يطالع أمرهم في كل حين يقال : إنه كان يركب البراق من بلاد بيت المقدس في ذهابه وإيابه ، ثم لما ترعرع الغلام وشب ، وبلغ مع أبيه السعي كانت قصة الذبح كما تقدم بيان أن الذبيح هو [ ص: 180 ] إسماعيل على الصحيح .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم لما كبر تزوج من جرهم امرأة ثم فارقها وتزوج غيرها ، وتزوج بالسيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي ، وجاءته بالبنين الاثني عشر كما تقدم ذكرهم ، وهم نابت وقيذر وميشا ومسمع وماشى ودما وأدر ويطور ونبش وطيما وقيذما ، هكذا ذكره محمد ابن إسحاق وغيره عن كتب أهل الكتاب ، وله ابنة واحدة اسمها نسمة ، وهي التي زوجها من ابن أخيه العيص بن إسحاق بن ابراهيم فولد له منها الروم واليونان والأشبان أيضا في أحد القولين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم جميع عرب الحجاز على اختلاف قبائلهم يرجعون في أنسابهم إلى ولديه نابت وقيذر وكان الرئيس بعده والقائم بالأمور الحاكم في مكة والناظر في أمر البيت وزمزم : نابت بن إسماعيل وهو ابن أخت الجرهميين ، ثم تغلبت جرهم على البيت طمعا في بني أختهم فحكموا بمكة وما والاها عوضا عن بني إسماعيل مدة طويلة فكان أول من صار إليه أمر البيت بعد نابت مضاص بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هين بن نبت بن جرهم ، وجرهم بن قحطان ، ويقال : جرهم بن يقطن بن عيبر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح الجرهمي وكان نازلا بأعلى مكة بقعيقعان وكان السميدع سيد قطوراء نازلا بقومه في أسفل [ ص: 181 ] مكة ، وكل منهما يعشر من مر به مجتازا إلى مكة ثم وقع بين جرهم ، وقطوراء فاقتتلوا فقتل السميدع ، واستوثق الأمر لمضاض وهو الحاكم بمكة والبيت لا ينازعه في ذلك ولد إسماعيل مع كثرتهم وشرفهم ، وانتثارهم بمكة وبغيرها ، وذلك لخئولتهم له ، ولعظمة البيت الحرام ، ثم صار الملك بعده إلى ابنه الحارث ، ثم إلى عمرو بن الحارث ، ثم بغت جرهم بمكة ، وأكثرت فيها الفساد ، وألحدوا بالمسجد الحرام حتى ذكر أن رجلا منهم يقال : له إساف بن بغي ، وامرأة يقال لها : نائلة بنت وائل اجتمعا في الكعبة فكان منه إليها الفاحشة فمسخهما الله حجرين فنصبهما الناس قريبا من البيت ليعتبروا بهما فلما طال المطال بعد ذلك بمدد ، عبدا من دون الله في زمن خزاعة كما سيأتي بيانه في موضعه فكانا صنمين منصوبين يقال لهما : إساف ونائلة فلما أكثرت جرهم البغي بالبلد الحرام تمالأت عليهم خزاعة الذين كانوا نزلوا حول الحرم كانوا من ذرية عمرو بن عامر الذي خرج من اليمن لأجل ما توقع من سيل العرم كما تقدم ، وقيل : إن خزاعة من بني إسماعيل فالله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والمقصود أنهم اجتمعوا لحربهم وآذنوهم بالحرب واقتتلوا ، واعتزل بنو إسماعيل كلا الفريقين فغلبت خزاعة ، وهم بنو بكر بن عبد مناة وغبشان [ ص: 182 ] وأجلوهم عن البيت فعمد عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي - وهو سيدهم - إلى غزالي الكعبة - وهما من ذهب - وحجر الركن - وهو الحجر الأسود - وإلى سيوف محلاة ، وأشياء أخر فدفنها في زمزم وعلم زمزم ، وارتحل بقومه فرجعوا إلى اليمن ، وفي ذلك يقول عمرو بن الحارث بن مضاض


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقائلة والدمع سكب مبادر وقد شرقت بالدمع منها المحاجر     كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أنيس ولم يسمر بمكة سامر     فقلت لها والقلب مني كأنما
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يلجلجه بين الجناحين طائر     بلى نحن كنا أهلها فأزالنا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صروف الليالي والجدود العواثر     وكنا ولاة البيت من بعد نابت
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      نطوف بذاك البيت والخير ظاهر     ونحن ولينا البيت من بعد نابت
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بعز فما يحظى لدينا المكاثر     ملكنا فعززنا فأعظم بملكنا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فليس لحي غيرنا ثم فاخر     ألم تنكحوا من خير شخص علمته
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فأبناؤه منا ونحن الأصاهر     فإن تنثن الدنيا علينا بحالها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فإن لها حالا وفيها التشاجر     فأخرجنا منها المليك بقدرة
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كذلك يا للناس تجري المقادر [ ص: 183 ]     أقول إذا نام الخلي ولم أنم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أذا العرش لا يبعد سهيل وعامر     وبدلت منها أوجها لا أحبها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قبائل منها حمير ويحابر     وصرنا أحاديثا وكنا بغبطة
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بذلك عضتنا السنون الغوابر     فسحت دموع العين تبكي لبلدة
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بها حرم أمن وفيها المشاعر     وتبكي لبيت ليس يؤذى حمامه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يظل به أمنا وفيه العصافر .     وفيه وحوش لا ترام أنيسة
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا خرجت منه فليست تغادر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق وقال عمرو بن الحارث بن مضاض - أيضا - يذكر بني بكر وغبشان الذين خلفوا بعدهم بمكة


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الناس سيروا إن قصركم     أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      حثوا المطي وأرخوا من أزمتها     قبل الممات وقضوا ما تقضونا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كنا أناسا كما كنتم فغيرنا     دهر فأنتم كما صرنا تصيرونا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن هشام هذا ما صح له منها ، وحدثني بعض أهل العلم بالشعر أن هذه الأبيات أول شعر قيل في العرب ، وأنها وجدت مكتوبة في حجر باليمن ، ولم يسم قائلها ، وذكر السهيلي لهذه الأبيات إخوة وحكى [ ص: 184 ] عندها حكاية معجبة ، وإنشادات معربة قال : وزاد أبو الوليد الأزرقي في كتابه " فضائل مكة " على هذه الأبيات المذكورة المنسوبة إلى عمرو بن الحارث بن مضاض


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قد مال دهر علينا ثم أهلكنا     بالبغي فينا وبز الناس ناسونا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إن التفكر لا يجدي بصاحبه     عند البديهة في علم له دونا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قضوا أموركم بالحزم إن لها     أمور رشد رشدتم ثم مسنونا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      واستخبروا في صنيع الناس قبلكم     كما استبان طريق عنده الهونا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كنا زمانا ملوك الناس قبلكم     بمسكن في حرام الله مسكونا



                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية