الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
مثل المتكل على ماله

مثل المتكل على ماله مثل عبد أعطاه مولاه رأس مال ليتصرف ويتجر والريح للعبد فضرب العبد بهذا المال يمينا وشمالا وتصرف في أنواع التجارات والبضائع فباع واشترى فصار هذا المال كله نسيئة وإذا نظر في الديوان رأى أن على فلان كذا وعلى فلان كذا وعلى فلان كذا فتجمع ألوف أضعاف رأس المال كلها نسيئة فإذا كان أحمق طابت نفسه بالآلاف التي يحصيها واتكل عليها ولا ينظر إلى ما تحصل له في يده فكم من غريم بايعته على الوفاء وهو عندك ملي فإذا أتى [ ص: 270 ] على ذلك مدة ظهر إفلاسه ولوى ما عليه فلم يحصل له منه إلا كتابة اسمه في ديوانك وتقدير ما عليه حسابا وربما يحصل منه شيء وذهب بشيء فأنت على غير ثقة من غرمائك حتى تقبض منه وتنقد بعض القبض وتستيقن بأنها خيار تنفق في كل سوق إلا في سوق الوضح التي لا تباع ولا تشترى إلا بالدراهم الوضح

فالعبد المؤمن قد أعطاه الله تعالى رأس المال وهو الإيمان والتوحيد وأمره أن يتجر بأنواع من الطاعات وأعمال .البر والأرباح لك لتنفق على نفسك يوم فقرك فإذا اتجر وربح من الصوم والصلاة والزكاة والحج وسائر أعمال البر فهذه الأعمال كلها كأولئك الغرماء الذين يرجو أرباحهم التي ربح على رأس ماله أي أعمال الطاعات كلها ربح التوحيد والتوحيد رأس المال لا يقبل عمل إلا به ومنه يخرج ربح المؤمن لأنه لم يتبين القبول فهو على غرر منه فإذا اتكل على هذه [ ص: 271 ] وحوسب يوم الحساب وحصل ما في الصدور وطولب بالصدق والإخلاص منها فلم يوجد في كثير منها الصدق والإخلاص فرضي بذلك العمل فكان كهذا الغريم الذي ظهر هاهنا إفلاسه فلم ينل منه ربحا وخيف على رأس ماله أيضا لأنه عمل لغير الله تعالى واستهزأ بأمر الله تعالى وآثر دنياه وهوى نفسه على محبوب الله تعالى ومختاره فهذا كهؤلاء الغرماء الذي ظهر هاهنا إفلاسهم فلم يبق في أيديهم إلا ديوان الكتبة

فالعبد إن كان كيسا يبيع ويشتري نقدا بربح يسير لأن اليسير من الربح مع قيام رأس المال خير من الربح الكثير مع هلاك رأس المال أو إذا باع نسيئة يأخذ بالثقة وعامل الغرماء بالوثائق إما الرهن أو الكفالة على مليء واستقصى النظر ثم لم يقنعه ذلك فهو أبدا خائف من أن يضيع رأس المال وربما غرق في الربح للنسيئة ومع ذلك الخطر باق وذلك لأنه ربما يهلك الرهن فيهلك بما فيه من الدين أو يموت الكفيل أو يغيب غيبة منقطعة فيهلك ماله

[ ص: 272 ] فكذا من عامل في الطاعات ووقع في الأهواء مثل القدرية والجبرية والمعطلة والمشبهة فغرق رأس مالهم في أرباحهم فصارت كلها نسيئة من غير ثقة ولا ملاء

فالكيس لما رأى ذلك قال إني لا أبايع ولا أتاجر أحدا إلا برهينة وكفيل ووثائق فالقليل من الربح مع وفارة رأس المال خير من كثير الأرباح مع تضييع رأس المال فإذا المال والأرباح قد ذهبت كلها لأنها صارت في غير ملاءة ولا ثقة فإن هذه الأرباح كلها على خطر فينبغي أن يكون كفيله ثقة مجانب الأهواء

وكن على حذر وتقوى من الاستماع إلى كلامهم فإنه كله هلاك وتوى والزم السواد الأعظم الذي أشار إليه صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم واتبع سبيله فقد أمرنا الله تعالى في [ ص: 273 ] تنزيله بذلك فقال جل ذكره لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فالأسوة الحسنة اتباع كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسنن خلفائه الراشدين المهديين الذين قضوا بالحق وبه يعدلون

وقد قال صلى الله عليه وسلم في خطبته (إنكم سترون من بعدي اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي عضوا عليها بالنواجذ

فاتكال الكيس على رحمة الله تعالى الذي أعطى منها رأس المال فتلك رهينته ووثيقته وحسن ظنهم بالله تعالى كفيله فأوفرهم من حسن الظن به أقواهم كفيلا وأملؤهم أداء ومقتضيه من غرمائه دعواته وتضرعه إلى الله تعالى

[ ص: 274 ] فعليك بحفظ الرهن لئلا يهلك فتذهب بدينك واحبس الكفيل لئلا يغيب فيذهب بما عليه وعليك بالتقاضي كل يوم بالدعاء والتضرع والبكاء بالنيات الخالصة لتجاب

التالي السابق


الخدمات العلمية