الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 136 ] بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة القمر

وهي مكية بإجماع إلا آية واحدة اختلف فيها، فقال جمهور الناس: هي مكية، وقال قوم: هي مما نزل يوم بدر، وقيل: بالمدينة وهي قوله تعالى سيهزم الجمع ويولون الدبر ، وسيأتي القول في ذلك.

قوله عز وجل:

اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغن النذر فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر

"اقتربت"معناه: قربت إلا أنه أبلغ، كما أن اقتدر أبلغ من قدر، و"الساعة" القيامة، وأمرها مجهول التحديد، لم يعلم إلا أنها قربت دون تحديد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة كهاتين" وأشار بالسبابة والوسطى، وقال أنس رضي الله عنه: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كادت الشمس تغيب، فقال: "ما بقي من الدنيا فيما مضى إلا كمثل ما بقي من هذا اليوم فيما مضى"، وقال عليه الصلاة والسلام: "إني لأرجو الله أن [ ص: 137 ] يؤخر أمتي نصف يوم" وهذا منه صلى الله عليه وسلم على جهة الرجاء والظن، لم يجزم به خبرا، فأناب الله تعالى على أمله وأخر أمته أكثر من رجائه، وكل ما يروى في عمر الدنيا من التحديد فضعيف واهن.

وقوله تعالى: انشق القمر إخبار عما وقع في ذلك، وذكر الثعلبي في ذلك أنه قيل: إن المعنى: ينشق القمر يومئذ، وهذا ضعيف والأمة على خلافه، وذلك أن قريشا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم آية، فقيل: مجملة، -وهذا قول الجمهور- وقيل: بل عينوا شق القمر، ذكره الثعلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما، فأراهم الله تعالى انشقاق القمر، فرآه رسول الله وجماعة من المسلمين والكفار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا"، وممن قال من الصحابة رأيته: عبد الله بن مسعود ، وجبير بن مطعم ، [ ص: 138 ] وأخبر به عبد الله بن عمر ، وأنس ، وابن عباس ، وحذيفة بن اليمان ، وقال المشركون عند ذلك: سحرنا محمد، وقال بعضهم: سحر القمر، وقالت قريش: استخبروا المسافرين القادمين عليكم، فما ورد أحد إلا أخبر بانشقاقه، وقال ابن مسعود : رأيته انشق فذهبت فرقة وراء جبل حراء، وقال ابن زيد : كان يرى نصفه على قعيقعان والآخر على أبي قبيس، وقرأ حذيفة : "اقتربت الساعة وقد انشق القمر"، وذكر الثعلبي عنه أن قراءته: "اقتربت الساعة انشق القمر" دون واو.

قوله تعالى: وإن يروا آية يعرضوا جاء اللفظ مستقبلا لينتظم ما مضى وما يأتي، فهو إخبار بأن حالهم هكذا، واختلفت الناس في معنى "مستمر" فقال الزجاج : قيل: معناه دائم متماد، وقال قتادة ، ومجاهد ، والكسائي ، والفراء : معناه: ذاهب مار عن قريب يزول، وقال الضحاك ، وأبو العالية : معناه: مشدود من مراير الحبل، كأنه سحر قد استمر ، أي: أحكم، ومنه قول الشاعر:


حتى استمرت على شذر مريرته صدق العزيمة لا رتا ولا ضرعا



ثم أخبر تعالى بأنهم كذبوا واتبعوا شهواتهم وما يهوون من الأمور، لا بدليل ولا بتثبت، ثم قال تعالى -على جهة الخبر الجزم-: وكل أمر مستقر ، كأنه تعالى يقول: وكل شيء إلى غاية، فالحق يستقر ثابتا ظاهرا، والباطل يستقر زاهقا [ ص: 139 ] ذاهبا، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: "وكل أمر مستقر" بالجر في "مستقر"، يعني بذلك أشراطها، والجمهور على كسر القاف من "مستقر" وقرأ نافع -بخلاف- وابن نصاح بفتحها، قال أبو حاتم : لا وجه لفتحها.

و"الأنباء" جمع نبأ، ويدخل في هذا جميع ما جاء به القرآن من المواعظ والقصص ومثلات الأمم الكافرة، "و مزدجر" معناه: موضع زجر وانتهاء، وأصله: "مزتجر" قلبت التاء دالا ليناسب مخرجها مخرج الزاي، وكذلك تبدل تاء "افتعل" من كل فعل أوله زاي كازدلف وازداد ونحوه.

وقوله تعالى: "حكمة" مرتفع إما على البدل من "ما" في قوله تعالى: "ما فيه"، وإما على خبر ابتداء مضمر تقديره: هذه حكمة، و"بالغة" معناه: يبلغ المقصد بها من وعظ النفوس والبيان لمن له عقل، وقوله تعالى: فما تغن النذر يحتمل أن تكون "ما" نافية، أي: ليس تغني مع عتو هذه الناس، ويحتمل أن تكون استفهاما بمعنى التقرير، أي: فما غناء النذر مع هؤلاء الكفرة؟.

ثم سلى تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله: "فتول عنهم"، أي: لا تذهب نفسك عليهم حسرات، وتم القول في قوله تعالى: "عنهم"، ثم ابتدأ وعيدهم، والعامل في قوله تعالى: "يوم" قوله تعالى: "يخرجون"، و"خشعا" حال من الضمير في "يخرجون"، وتصرف الفعل يقتضي تقدم الحال، قال المهدوي: ويجوز أن يكون حالا من الضمير في "عنهم"، قال الرماني : المعنى: فتول عنهم واذكر يوم، وقال الحسن: المعنى: فتول عنهم اليوم وانحذفت الواو من "يدع" لأن كتبة المصحف اتبعوا اللفظ لا ما يقتضيه الهجاء، وأما حذف الياء من "الداع" ونحوه فقال سيبويه : حذفوه تخفيفا، وقال أبو علي ، حذفت مع الألف واللام; إذ هي تحذف مع معاقبهما وهو التنوين، وقرأ جمهور القراء: "إلى شيء نكر " بضم الكاف، وقرأ ابن كثر، وشبل، والحسن : "نكر" بسكون الكاف، وقرأ مجاهد ، والجحدري، وأبو قلابة: "نكر" بكسر الكاف وفتح الراء على أنه مبني للمفعول، والمعنى في ذلك كله أنه منكور غير معروف ولا يرى مثله، قال الخليل: النكر نعت للأمر الشديد والرجل الداهية، وقال مالك بن عوف النضري: [ ص: 140 ]


أقدم محاج إنه يوم نكر     مثلي على مثلك يحمي ويكر



و"نكر" فعل، وهو صفة، وذلك قليل في الصفات، ومنه "مشية سجح" قال الشاعر:


دعوا التخاجؤ وامشوا مشية سجحا     إن الرجال ذوو عصب وتذكير



ومثله "رجل شلل" و"ناقة أجد".

وقرأ جمهور القراء: "خشعا"، وهي قراءة الأعرج ، وأبي جعفر ، وشيبة ، والحسن ، وقتادة . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : "خاشعا"، وهي قراءة ابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد ، والجحدري، وهى إفراد بمعنى الجمع، ونظيره قول الشاعر:


وشباب حسن أوجههم من     إياد بن نزار بن معد



[ ص: 141 ] ورجح أبو حاتم هذه القراءة، وذكر أن رجلا من المتطوعة قال قبل أن يستشهد: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فسألته عن "خشعا" و"خاشعا"، فقال: "خاشعا"، بالألف، وفي مصحف أبي بن كعب ، وعبد الله رضي الله عنهما "خاشعا، وخص تعالى الأبصار بالخشوع لأنه فيها أظهر منه في سائر الجوارح، وكذلك سائر ما في نفس الإنسان من حياء أو صلف أو خوف ونحوه إنما يظهر في البصر.

و"الأجداث" جمع جدث وهو القبر، وشبههم بالجراد المنتشر، وقد شبههم في أخرى ب الفراش المبثوث ، وفيهم من كل هذا شبه، وذهب بعض المفسرين إلى أنهم أولا كالفراش حين يموجون بعض في بعض، ثم في رتبة أخرى كالجراد إذا توجهوا نحو المحشر والداعي، وفي الحديث أن مريم بنت عمران عليها السلام دعت للجراد فقالت: "اللهم أعشها بغير رضاع، وتابع بنيها بغير شياع".

و"المهطع": المسرع في مشيه نحو الشيء مع هز ورهق ومد بصر نحو المقصد إما لخوف أو طمع أو نحوه، ويقول الكافرون: هذا يوم عسر لما يرون من مخايل هوله وعلامات مشقته.

التالي السابق


الخدمات العلمية