الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 155 ] ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين وثلاثمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيها خرج المتقي لله من بغداد إلى الموصل مغاضبا لتوزون أمير الأمراء ، وكان إذ ذاك بواسط ، وقد زوج ابنته من أبي عبد الله البريدي ، وصارا يدا واحدة على الخليفة ، وأرسل ابن شيرزاد في ثلاثمائة إلى بغداد فأفسد فيها وقطع ووصل ، واستقل بالأمور من غير مراجعة المتقي لله فغضب المتقي ، وخرج منها مغاضبا بأهله وأولاده ووزيره ومن اتبعه من الأمراء وأعيان أهل بغداد قاصدا بني حمدان ، فتلقاه سيف الدولة إلى تكريت ثم جاءه ناصر الدولة وهو بتكريت أيضا ، وحين خرج المتقي من بغداد أكثر ابن شيرزاد الفساد ، وظلم أهلها وصادرهم ، وأرسل يعلم توزون فأقبل مسرعا نحو تكريت فتواقع هو وسيف الدولة ، فهزم توزون سيف الدولة ، وأخذ معسكره ومعسكر أخيه ناصر الدولة ، ثم كر إليه سيف الدولة ، فهزمه توزون أيضا ، وانهزم الخليفة المتقي وناصر الدولة وسيف الدولة من الموصل إلى نصيبين وجاء توزون ، فدخل الموصل وأرسل إلى الخليفة يطلب رضاه ، فأرسل الخليفة ، يقول : لا سبيل إلى ذلك إلا أن تصالح بني حمدان . فاصطلحوا ، وضمن ناصر الدولة بلاد الموصل بثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف ، ورجع توزون إلى بغداد وأقام الخليفة عند بني حمدان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي غيبة توزون عن واسط أقبل إليها معز الدولة بن بويه في خلق من الديلم [ ص: 156 ] كثيرين ، فانحدر توزون مسرعا إلى واسط فاقتتل مع معز الدولة بضعة عشر يوما ، فكان آخر الأمر أن انهزم معز الدولة ، ونهبت حواصله ، وقتل من جيشه خلق كثير ، وأسر جماعة من أشراف أصحابه ، ثم عاود توزون ما كان يعتريه من مرض الصرع ، فشغل بنفسه ، فرجع إلى بغداد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها قتل أبو عبد الله البريدي أخاه أبا يوسف ، وكان سبب ذلك أن عبد الله قل ما في يده من الأموال ، فكان يستقرض من أخيه أبي يوسف ، فيقرضه القليل ثم يشنع عليه ويذم تصرفه ، فمال الجند إلى أبي يوسف ، وأعرضوا عن أبي عبد الله ، فخشي أبو عبد الله أن يبايعوه ويتركوه ، فأرسل إليه طائفة من غلمانه فقتلوه غيلة ، ثم انتقل إلى داره ، وأخذ جميع حواصله وأمواله فكان قيمة ما استحوذ عليه من الأموال يقارب ثلاثة آلاف ألف دينار ، ولم يمتع بعده إلا ثمانية أشهر ، مرض فيها مرضا شديدا بالحمى الحادة ، حتى كانت وفاته في شوال من هذه السنة ، فقام بالأمر بعده أخوه أبو الحسين ، قبحه الله ، فأساء السيرة في أصحابه ، فثاروا به فلجأ إلى القرامطة ، فاستجار بهم ، فقام بالأمر من بعده أبو القاسم بن أبي عبد الله البريدي في بلاد واسط والبصرة وتلك النواحي من الأهواز وغيرها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأما الخليفة المتقي لله فإنه لما أقام عند آل حمدان بالموصل ظهر له منهم تضجر ، وأنهم يرغبون في مفارقته ، فكتب إلى توزون في الصلح فاجتمع توزون مع القضاة والأعيان ببغداد ، وقرأوا كتاب الخليفة ، وقابله بالسمع والطاعة ، وحلف له ووضع خطه بالإقرار له ولمن معه بالإكرام والاحترام [ ص: 157 ] والخضوع ، فكان من الخليفة ودخوله إلى بغداد ما سيأتي في السنة الآتية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة أقبلت طائفة من الروس في البحر إلى نواحي أذربيجان فقصدوا بردعة فحاصروها ، فلما ظفروا بأهلها قتلوهم عن آخرهم ، وغنموا أموالهم ، وسبوا من استحسنوا من نسائهم ، ثم مالوا إلى مراغة فوجدوا بها ثمارا كثيرة ، فأكلوا منها ، فأصابهم وباء شديد ، فمات أكثرهم ، فكان إذا مات أحدهم دفنوا معه سلاحه وماله ، فيأخذه المسلمون ، وأقبل إليهم المرزبان بن محمد ، فقاتلهم ، فقتل منهم خلقا كثيرا أيضا ، مع ما أصابهم من الوباء الشديد ، وطهر الله تلك البلاد منهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي ربيع الأول من هذه السنة جاء الدمستق ملك الروم إلى رأس العين في ثمانين ألفا ، فدخلها ونهب ما فيها ، وقتل أهلها وسبى منهم نحوا من خمسة عشر ألفا ، وأقام بها ثلاثة أيام ، فقصدته الأعراب من كل وجه ، فقاتلوه قتالا عظيما حتى انجلى عنها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي جمادى الأولى منها غلت الأسعار ببغداد جدا ، وكثرت الأمطار جدا حتى تهدم البناء ، ومات كثير من الناس تحت الهدم ، وتعطلت كثير من الحمامات والمساجد من قلة الناس ، ونقصت قيمة العقار حتى كان يباع بالدرهم ما كان يساوي الدينار ، وخلت أكثر الدور ، فكان الملاك يعطون من يسكنها أجرة ليحفظها عليهم من الداخلين إليها لتخريبها . وكثرت الكبسات من اللصوص بالليل ، حتى كان الناس يتحارسون بالبوقات والطبول ، وكثرت الفتن من كل جهة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 158 ] وفي رمضان من هذه السنة كانت وفاة أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن الجنابي الهجري القرمطي رئيس القرامطة ، لعنه الله ، وهذا هو الذي قتل الحجيج حول الكعبة وفيها ، وسلبها ستورها وبابها وحليتها ، واقتلع الحجر الأسود من ركنها ، وحمله إلى بلده هجر وهو في هذه المدة كلها عنده من سنة سبع عشرة كما ذكرنا ، ولم يرده إلى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة كما سيأتي . ولما مات أبو طاهر هذا قام بالأمر من بعده في القرامطة إخوته الثلاثة ; وهم أبو العباس الفضل ، وأبو القاسم سعيد ، وأبو يعقوب يوسف ، بنو أبي سعيد الجنابي ، لعنهم الله ، وكان أبو العباس ضعيف البدن ، مقبلا على قراءة الكتب ، وكان أبو يعقوب مقبلا على اللهو واللعب ، ومع هذا كلمة الثلاثة واحدة لا يختلفون في شيء ، وكان لهم سبعة من الوزراء متفقون أيضا ، قبحهم الله أجمعين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي شوال منها توفي أبو عبد الله البريدي كما ذكرنا ، فاستراح المسلمون من هذا وهذا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية