الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 307 ] بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة المنافقون

وهي مدنية بإجماع، وذلك أنها نزلت في غزوة بني المصطلق بسبب أن عبد الله بن أبي ابن سلول كان منه في تلك الغزوة أقوال، وكان له أتباع يقولون قوله، فنزلت السورة كلها بسبب ذلك، ذكر الله تعالى فيها ما تقدم من المنافقين من حلفهم وشهادتهم في الظاهر بالإيمان، وأنهم كذبة، وذكر تعالى فيها ما تأخر منهم ووقع في تلك الغزوة، وسيأتي بيان ذلك فصلا فصلا عند تفسير الآيات إن شاء الله تعالى.

قوله عز وجل:

إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون

فضح الله تعالى بهذه الآية سريرة المنافقين، وذلك أنهم كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: نشهد إنك لرسول الله، وهم في إخبارهم هذا كاذبون; لأن حقيقة الكذب أن يخبر الإنسان بضد ما في قلبه، وكسرت الألف من "إن" في الثلاثة لدخول اللام المؤكدة في الخبر وذلك لا يكون مع المفتوحة، وقوله تعالى: "يشهد" وما جرى مجراها من أفعال اليقين والعلم تجاب بما يجاب به القسم، وهي بمنزلة القسم.

وقرأ الناس: "أيمانهم" جمع يمين، وقرأ الحسن بن أبي الحسن -بخلاف عنه-: [ ص: 308 ] "إيمانهم" بكسر الألف، أي: هذا الذي تظهرون، وهذا على حذف مضاف تقديره: إظهار، و"الجنة": ما يتستر به في الأجرام والمعاني، وقوله تعالى: "فصدوا" يحتمل أن يكون غير متعد، تقول: "صد زيد"، ويحتمل أن يكون متعديا كما قال:


صددت الكأس عنا أم عمرو . . . . . . . . . . . . . . .



فالمعنى: صدوا غيرهم ممن كان يريد الإيمان، أو من المؤمنين في أن يقاتلوهم أو ينكروا عليهم، وتلك سبيل الله تعالى فيهم، وقد تقدم تفسير نظير هذه الآية.

وقوله تعالى: "ذلك" إشارة إلى فعل الله تعالى في فضيحتهم وتوبيخهم، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى سوء ما عملوا، فالمعنى: ساء عملهم أن كفروا بعد إيمانهم.

وقوله تعالى: "آمنوا ثم كفروا" إما أن يريد به: منهم من كان آمن ثم نافق بعد صحة من إيمانه، وقد كان هذا موجودا، وإما أن يريدهم كلهم، فالمعنى: ذلك بأنهم أظهروا الإيمان ثم كفروا في باطن أمرهم، فسمى ذلك الإظهار إيمانا، وقرأ بعض القراء: "فطبع" بضم الطاء على بنائه للمفعول بغير إدغام، وأدغم أبو عمرو ، وقرأ الأعمش : "فطبع الله"، وعبر الله تعالى بالطبع عما خلق في قلوبهم من الريب والشك وختم عليهم به من الكفر والمصير إلى النار.

وقوله تعالى: وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم، وإن يقولوا تسمع لقولهم توبيخ لهم: لأنهم كانوا رجالا أجمل شيء وأفصحه، فكان منظرهم يروق وقولهم يخلب، لكن الله تعالى جعلهم كالخشب المسندة إذ لا أفهام لهم نافعة، ولا نظر يصيب، فذلك المنظر لا مخبر له كالخشب المسندة، إنما هي أجرام لا عقول لها، معتمدة على غيرها، [ ص: 309 ] لا تثبت بنفسها، ومنه قولهم: "تساند القوم" إذا اصطفوا وتقابلوا للقتال، وقد يحتمل أن يشبه اصطفافهم في الأندية باصطفاف الخشب المسندة، وخلوهم من الأفهام النافعة بخلو الخشب من ذلك، وقال رجل لابن سيرين: رأيتني في النوم محتضنا خشبة، فقال ابن سيرين : أظنك من أهل هذه الآية، وتلا: كأنهم خشب مسندة .

وقرأ عكرمة ، وعطية: "يسمع" بالياء مضمومة، وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، وعاصم : "خشب" بضم الخاء والشين، وقرأ قنبل ، وأبو عمرو ، والكسائي : "خشب" بضم الخاء وسكون الشين، وهي قراءة البراء بن عازب رضي الله عنه، واختيار ابن عبيد، وقرأ سعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيب : "خشب" بفتح الخاء والشين، وذلك كله جمع "خشبة" بفتح الخاء والشين، فالقراءتان أولا كما تقول: بدنة وبدن وبدن، قاله سيبويه ، والأخيرة على الباب في ثمرة وثمر.

وكان عبد الله بن أبي من أبهى المنافقين وأطولهم، ويدل على ذلك أنه لم يوجد قميص يكسو العباس رضي الله عنه غير قميصه، وقد تقدم في سورة [البقرة] تحرير أمر المنافقين وكيف سترهم الإسلام.

وقوله تعالى: يحسبون كل صيحة عليهم فضح أيضا لما كانوا يسرونه من الخوف، وذلك أنهم كانوا يتوقعون أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم -عن الله- بقتلهم، وقال مقاتل : فكانوا متى سمعوا نشدان ضالة، أو صياحا بأي وجه كان، أو أخبروا بنزول وحي طارت قلوبهم وطاشت عقولهم حتى يسكن ذلك ويكون في غير شأنهم، وجرى هذا اللفظ مثلا في الخائف، ونحو قول الشاعر :


يروعه السرار بكل أرض     مخافة أن يكون به السرار



وقول جرير :


ما زلت تحسب كل شيء بعدهم     خيلا تكر عليهم ورجالا



[ ص: 310 ] ثم أخبر تعالى بأنهم هم العدو، وحذر منهم، و"العدو" يقع للواحد وللجمع. وقوله تعالى: "قاتلهم الله" دعاء يتضمن الإقصاء والمنابذة، وتمني الشر لهم.

وقوله تعالى: "أنى يؤفكون" معناه: يصرفون، فيحتمل أن تكون "أنى" استفهاما، كأنه تعالى: قال كيف يصرفون؟ أو: لأي سبب لا يرون رشد أنفسهم؟ ويحتمل أن تكون "أنى" ظرفا لـ "قاتلهم" كأنه تعالى قال: قاتلهم الله كيف انصرفوا و صرفوا، فلا يكون في القول استفهام على هذا.

التالي السابق


الخدمات العلمية