الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 2013 ) مسألة : قال : ( ومن نوى من الليل ، فأغمي عليه قبل طلوع الفجر ، فلم يفق حتى غربت الشمس ، لم يجزه صيام ذلك اليوم ) وجملة ذلك أنه متى أغمي عليه جميع النهار ، فلم يفق في شيء منه ، لم يصح صومه ، في قول إمامنا والشافعي .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : يصح ; لأن النية قد صحت ، وزوال الاستشعار بعد ذلك لا يمنع صحة الصوم ، كالنوم . ولنا أن الصوم هو الإمساك مع النية . قال النبي صلى الله عليه وسلم { : يقول الله تعالى : كل عمل ابن آدم له إلا الصيام ، فإنه لي ، وأنا أجزي به ، يدع طعامه وشرابه من أجلي } متفق عليه . فأضاف ترك الطعام والشراب إليه ، وإذا كان مغمى عليه ، فلا يضاف الإمساك إليه ، فلم يجزئه . ولأن النية أحد ركني الصوم ، فلا تجزئ وحدها ، كالإمساك وحده ، أما النوم فإنه عادة ، ولا يزيل الإحساس بالكلية ، ومتى نبه انتبه ، والإغماء عارض يزيل العقل ، فأشبه الجنون .

                                                                                                                                            إذا ثبت هذا ، فزوال العقل يحصل بثلاثة أشياء ; أحدها ، الإغماء وقد ذكرناه ، ومتى فسد الصوم به فعلى المغمى عليه القضاء ، بغير خلاف علمناه ; لأن مدته لا تتطاول غالبا ، ولا تثبت الولاية على [ ص: 12 ] صاحبه ، فلم يزل به التكليف وقضاء العبادات ، كالنوم ، ومتى أفاق المغمى عليه في جزء من النهار ، صح صومه ، سواء كان في أوله أو آخره . وقال الشافعي ، في أحد قوليه : تعتبر الإفاقة في أول النهار ، ليحصل حكم النية في أوله . ولنا أن الإفاقة حصلت في جزء من النهار ، فأجزأ ، كما لو وجدت في أوله ، وما ذكروه لا يصح ; فإن النية قد حصلت من الليل ، فيستغني عن ذكرها في النهار ، كما لو نام أو غفل عن الصوم ، ولو كانت النية إنما تحصل بالإفاقة في النهار ، لما صح منه صوم الفرض بالإفاقة ، لأنه لا يجزئ بنية من النهار .

                                                                                                                                            الثاني ، النوم ، فلا يؤثر في الصوم ، سواء وجد في جميع النهار أو بعضه . الثالث ، الجنون ، فحكمه حكم الإغماء ، إلا أنه إذا وجد في جميع النهار ، لم يجب قضاؤه . وقال أبو حنيفة : متى أفاق المجنون في جزء من رمضان ، لزمه قضاء ما مضى منه ; لأنه أدرك جزءا من رمضان وهو عاقل ، فلزمه صيامه ، كما لو أفاق في جزء من اليوم . وقال الشافعي : إذا وجد الجنون في جزء من النهار أفسد الصوم ; لأنه معنى يمنع وجوب الصوم ، فأفسده وجوده في بعضه ، كالحيض .

                                                                                                                                            ولنا أنه معنى يمنع الوجوب إذا وجد في جميع الشهر ، فمنعه إذا وجد في جميع النهار ، كالصبا والكفر ، وأما إن أفاق في بعض اليوم فلنا منع في وجوبه ، وإن سلمناه فإنه قد أدرك بعض وقت العبادة ، فلزمه ، كالصبي إذا بلغ ، والكافر إذا أسلم في بعض النهار ، وكما لو أدرك بعض وقت الصلاة . ولنا على الشافعي أنه زوال عقل في بعض النهار ، فلم يمنع صحة الصوم ، كالإغماء والنوم ، ويفارق الحيض ; فإن الحيض لا يمنع الوجوب ، وإنما يجوز تأخير الصوم ، ويحرم فعله ، ويوجب الغسل ، ويحرم الصلاة والقراءة واللبث في المسجد والوطء ، فلا يصح قياس الجنون عليه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية