الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 358 ] ( سورة المزمل مكية وهي عشرون آية )

( بسم الله الرحمن الرحيم )

( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به كان وعده مفعولا إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ) .

تزمل في ثوبه : التف ، وزمل : لف . قال امرؤ القيس :

كبير أناس في بجاد مزمل

وقال ذو الرمة :


وكائن تخطت ناقتي من مفازة ومن نائم عن ليلها متزمل



تبتل إلى كذا : انقطع إليه ، ومنه هبة بتلة ، وطلقة بتلة ، والبتول وبتل الحبل . قال الليث : البتل تمييز الشيء من الشيء ، والبتول المرأة المنقطعة عن الرجال لا شهوة لها ولا حاجة لها فيهم ، والتبتل : ترك النكاح والزهد فيه ، ومنه قول امرئ القيس :


تضيء الظلام بالعشاء كأنها     منارة ممسى راهب متبتل



ومنه النهي عن التبتل ، أي : عن الانقطاع عن التزويج . ومنه قيل للراهب متبتل ، لانقطاعه عن الناس وانفراده للعبادة . والغصة : الشجى ، وهو ما ينشب بالحلق من عظم أو غيره ، وجمعها غصص ، والفعل غصصت ، فأنت غاص وغصان ، قال :


كنت كالغصان بالماء اعتصاري

الكثيب : الرمل المجتمع ، وجمعه كثب وكثبان في الكثرة ، وأكثبة في القلة . قال ذو الرمة :


فقلت لها لا إن أهلي جيرة     لأكثبة الدهنا جميعا وماليا



المهيل : الذي يمر تحت الرجل ، وهلت عليه التراب : صببته . وقال الكلبي : المهيل : الذي إذا وطئته القدم زل من تحتها ، وإذا أخذت أسفله انهال ، وأهلت لغة في هلت . الشيب : جمع أشيب .

[ ص: 359 ] ( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به كان وعده مفعولا ) .

[ ص: 360 ] هذه السورة مكية كلها ، في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر . وقال ابن عباس وقتادة : إلا آيتين منها : ( واصبر على ما يقولون ) والتي تليها ، ذكره الماوردي . وقال الجمهور : هي مكية إلا قوله تعالى : ( إن ربك يعلم ) إلخ ، فإنه نزل بالمدينة . وسبب نزولها فيما ذكر الجمهور : أنه - عليه الصلاة والسلام - لما جاءه الملك في غار حراء وحاوره بما حاوره ، رجع إلى خديجة فقال : " زملوني زملوني " ، فنزلت : ( ياأيها المدثر ) وعلى هذا نزلت : ( ياأيها المزمل ) . قالت عائشة والنخعي وجماعة : ونودي بذلك لأنه كان في وقت نزول الآية متزملا بكساء . وقال قتادة : كان تزمل في ثيابه للصلاة واستعد . فنودي على معنى : يا أيها المستعد للعبادة . وقال عكرمة : معناه المزمل للنبوة وأعبائها ، أي : المشمر المجد ، فعلى هذا يكون التزمل مجازا ، وعلى ما سبق يكون حقيقة . وما رووا أن عائشة - رضي الله عنها - سئلت : ما كان تزميله ؟ قالت : كان مرطا طوله أربع عشرة ذراعا ، نصفه علي وأنا نائمة ، ونصفه عليه ، إلى آخر الرواية . كذب صراح ; لأن نزول ( ياأيها المزمل ) بـ مكة في أوائل مبعثه ، وتزويجه عائشة كان بـ المدينة . ومناسبة هذه السورة لما قبلها : أن في آخر ما قبلها ( عالم الغيب ) الآيات ، فأتبعه بقوله : ( ياأيها المزمل ) إعلاما بأنه ممن ارتضاه من الرسل وخصه بخصائص وكفاه شر أعدائه .

وقرأ الجمهور : ( المزمل ) بشد الزاي وكسر الميم ، أصله المتزمل فأدغمت التاء في الزاي . وقرأ أبي : ( المتزمل ) على الأصل . و عكرمة : بتخفيف الزاي . أي : المزمل جسمه أو نفسه . وقرأ بعض السلف : بتخفيف الزاي وفتح الميم ، أي : الذي لف . و للزمخشري في كيفية نداء الله له بهذا الوصف كلام ضربت عن ذكره صفحا ، فلم أذكره في كتابي . وقال السهيلي : ليس المزمل باسم من أسمائه - عليه الصلاة والسلام - يعرف به ، وإنما هو مشتق من حالته التي كان التبس بها حالة الخطاب ، والعرب إذا قصدت الملاطفة بالمخاطب تترك المعاتبة نادوه باسم مشتق من حالته التي هو عليها ، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ل علي - كرم الله وجهه - وقد نام ولصق بجنبه التراب : " قم أبا تراب " ، إشعارا بأنه ملاطف له ، فقوله : ( ياأيها المزمل ) فيه تأنيس وملاطفة . وقرأ الجمهور : ( قم الليل ) بكسر الميم على أصل التقاء الساكنين . وأبو السمال : بضمها اتباعا للحركة من القاف . وقرئ : بفتحها طلبا للتخفيف . قال ابن جني : الغرض بالحركة الهروب من التقاء الساكنين ، فبأي حركة تحرك الحرف حصل الغرض ، وقم طلب . فقال الجمهور : هو على جهة الندب ، وقيل : كان فرضا على الرسول خاصة ، وقيل : عليه وعلى الجميع . قال قتادة : ودام عاما أو عامين . وقالت عائشة : ثمانية أشهر ، ثم رحمهم الله فنزلت : ( إن ربك يعلم ) الآيات ، فخفف عنهم ( قم الليل إلا قليلا ) . بين الاستثناء أن القيام المأمور به يستغرق جميع الليل ، ولذلك صح الاستثناء منه ، إذ لو كان غير مستغرق ، لم يصح الاستثناء منه ، واستغراق جميعه بالقيام على الدوام غير ممكن ، لذلك استثنى منه لراحة الجسد . وهذا عند البصريين منصوب على الظرف ، وإن استغرقه الفعل . وهو عند الكوفيين مفعول به . وفي قوله : ( إلا قليلا ) دليل على أن المستثنى قد يكون مبهم المقدار ، كقوله : ( ما فعلوه إلا قليلا منهم ) في قراءة من نصب ( ثم توليتم إلا قليلا منكم ) . قال وهب بن منبه : القليل ما دون المعشار والسدس . وقال الكلبي ومقاتل : [ ص: 361 ] الثلث . وقيل : ما دون النصف ، وجوزوا في نصفه أن يكون بدلا من الليل ومن ( قليلا ) . فإذا كان بدلا من الليل ، كان الاستثناء منه ، وكان المأمور بقيامه نصف الليل إلا قليلا منه . والضمير في منه وعليه عائد على النصف ، فيصير المعنى : قم نصف الليل إلا قليلا ، أو انقص من نصف الليل قليلا ، أو زد على نصف الليل ، فيكون قوله : أو انقص من نصف الليل قليلا ، تكرارا لقوله : إلا قليلا من نصف الليل ، وذلك تركيب غير فصيح ينزه القرآن عنه . قال الزمخشري : " نصفه " بدل من " الليل " ، و " ( إلا قليلا ) " استثناء من النصف ، كأنه قال : قم أقل من نصف الليل . والضمير في " منه وعليه " للنصف ، والمعنى : التخيير بين أمرين ، بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت ، وبين أن يختار أحد الأمرين ، وهما النقصان من النصف والزيادة عليه . انتهى . فلم يتنبه للتكرار الذي يلزمه في هذا القول ; لأنه على تقديره : قم أقل من نصف الليل كان قوله ، أو انقص من نصف الليل تكرارا . وإذا كان ( نصفه ) بدلا من قوله : ( إلا قليلا ) فالضمير في نصفه إما أن يعود على المبدل منه ، أو على المستثنى منه وهو الليل ، لا جائز أن يعود على المبدل منه ; لأنه يصير استثناء مجهول من مجهول ، إذ التقدير إلا قليلا نصف القليل ، وهذا لا يصح له معنى البتة . وإن عاد الضمير على الليل ، فلا فائدة في الاستثناء من الليل ، إذ كان يكون أخصر وأوضح وأبعد عن الإلباس أن يكون التركيب قم الليل نصفه . وقد أبطلنا قول من قال : إلا قليلا استثناء من البدل وهو نصفه ، وأن التقدير : قم الليل نصفه إلا قليلا منه ، أي : من النصف . وأيضا ففي دعوى أن " نصفه " بدل من ( إلا قليلا ) ، والضمير في ( نصفه ) عائد على " الليل " ، إطلاق القليل على النصف ، ويلزم أيضا أن يصير التقدير : إلا نصفه فلا تقمه ، أو انقص من النصف الذي لا تقومه ، وأزد عليه النصف الذي لا تقومه ، وهذا معنى لا يصح ، وليس المراد من الآية قطعا . وقال الزمخشري : وإن شئت جعلت نصفه بدلا من " قليلا " ، [ ص: 362 ] وكان تخييرا بين ثلاث : بين قيام النصف بتمامه ، وبين قيام الناقص منه ، وبين قيام الزائد عليه . وإنما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل . وإن شئت قلت : لما كان معنى ( قم الليل إلا قليلا نصفه ) : إذا أبدلت النصف من الليل ، قم أقل من نصف الليل ، رجع الضمير في " منه وعليه " إلى الأقل من النصف ، فكأنه قيل : قم أقل من نصف الليل ، وقم أنقص من ذلك إلا أقل أو أزيد منه قليلا ، فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه وبين الثلث ، ويجوز إذا أبدلت نصفه من ( قليلا ) وفسرته به أن تجعل قليلا الثاني بمعنى نصف النصف وهو الربع ، كأنه قيل : أو انقص منه قليلا نصفه ، وتجعل المزيد على هذا القليل ، أعني الربع نصف الربع ، كأنه قيل : أو زد عليه قليلا نصفه . ويجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة الثلث ، فيكون تخييرا بين النصف والثلث والربع . انتهى . وما أوسع خيال هذا الرجل ، فإنه يجوز ما يقرب وما يبعد ، والقرآن لا ينبغي ، بل لا يجوز أن يحمل إلا على أحسن الوجوه التي تأتي في كلام العرب ، كما ذكرناه في خطبة هذا الكتاب . وممن نص على جواز أن يكون ( نصفه ) بدلا من ( الليل ) ، أو من ( قليلا ) الزمخشري ، كما ذكرنا عنه . وابن عطية أورده مورد الاحتمال ، وأبو البقاء ، وقال : أشبه بظاهر الآية أن يكون بدلا من " قليلا " ، ( أو زد عليه ) ، والهاء فيهما للنصف . فلو كان الاستثناء من النصف لصار التقدير : قم نصف الليل إلا قليلا ، أو انقص منه قليلا . والقليل المستثنى غير مقدر ، فالنقصان منه لا يتحصل . انتهى . وأما الحوفي فأجاز أن يكون بدلا من " الليل " ، ولم يذكر غيره .

قال ابن عطية : وقد يحتمل عندي قوله : ( إلا قليلا ) أنه استثناء من القيام ، فيجعل " الليل " اسم جنس . ثم قال : ( إلا قليلا ) أي : الليالي التي تخل بقيامها عند العذر البين ونحوه ، وهذا النظر يحسن مع القول بالندب . انتهى ، وهذا خلاف الظاهر . وقيل : المعنى أو نصفه ، كما تقول : أعطه درهما درهمين ثلاثة ، تريد : أو درهمين ، أو ثلاثة . انتهى ، وفيه حذف حرف العطف من غير دليل عليه . وقال التبريزي : الأمر بالقيام والتخيير في الزيادة والنقصان وقع على الثلثين من آخر الليل ; لأن الثلث الأول وقت العتمة ، والاستثناء وارد على المأمور به ، فكأنه قال : قم ثلثي الليل إلا قليلا ، ثم جعل نصفه بدلا من " قليلا " ، فصار القليل مفسرا بالنصف من الثلثين ، وهو قليل من الكل . فقوله : ( أو انقص منه ) أي : من المأمور به ، وهو قيام الثلث ( قليلا ) أي : ما دون نصفه ( أو زد عليه ) أي : على الثلثين ، فكان التخيير في الزيادة والنقصان واقعا على الثلثين . وقال أبو عبد الله الرازي : قد أكثر الناس في تفسير هذه الآية ، وعندي فيه وجهان ملخصان ، وذكر كلاما طويلا ملفقا يوقف عليه من كتابه . وتقدم تفسير الترتيل في آخر الإسراء .

( قولا ثقيلا ) : هو القرآن ، وثقله بما اشتمل عليه من التكاليف الشاقة ، كالجهاد ومداومة الأعمال الصالحة . قال الحسن : إن الهذ خفيف ، ولكن العمل ثقيل . وقال أبو العالية : و القرطبي : ثقله على الكفار والمنافقين بإعجازه ووعيده . وقيل : ثقله ما كان يحل بجسمه - صلى الله عليه وسلم - حالة تلقيه الوحي ، حتى كانت ناقته تبرك به ذلك الوقت ، وحتى كادت رأسه الكريمة أن ترض فخذ زيد بن ثابت . وقيل : كلام له وزن ورجحان ليس بالسفساني . قال ابن عباس : كلاما عظيما . وقيل : ثقيل في الميزان يوم القيامة ، وهو إشارة إلى العمل به . وقيل : كناية عن بقائه على وجه الدهر ; لأن الثقيل من شأنه أن يبقى في مكانه .

التالي السابق


الخدمات العلمية