الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 535 ] بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة عبس

وهي مكية بإجماع من المفسرين.

وقصص هذه السورة التي لا تفهم الآية إلا به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحرص على إسلام قريش وأشرافهم، وكان يتحفى بدعائهم إلى الله تعالى، فبينما هو يوما مع رجل من عظمائهم، قيل الوليد بن المغيرة المخزومي، وقيل: عتيبة بن ربيعة، وقيل: شيبة، وقيل: العباس ، وقيل: أمية بن خلف، وقيل أبي بن خلف: وقال ابن عباس : كان في جمع منهم، فيهم عتبة والعباس وأبو جهل، إذ أقبل عبد الله بن أم مكتوم القرشي الفهري من بني عامر بن لؤي، وهو رجل أعمى، يقوده رجل آخر، فأومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قائده أن يؤخره عنه، ففعل، فدفعه عبد الله وأقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: استدنني يا محمد، علمني مما علمك الله، فكان في ذلك كله قطع لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الرجل المذكور من قريش، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأ عليه القرآن وقال له: أترى بما أقول بأسا؟ فكان ذلك الرجل يقول: لا والدمى -يعني الأصنام- ويروى: لا والدما- يعني الذبائح للأصنام-، فلما شغب عليه أمر عبد الله بن أم مكتوم عبس وأعرض عنه، وذهب ذلك الرجل، فيروي أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف إلى بيته فلوى رأسه وشخص بصره وأنزلت عليه هذه السورة. قال سفيان الثوري : فكان بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم قال: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي عز [ ص: 536 ] وجل، وبسط له رداءه، وقال له أنس بن مالك : رأيته يوم القادسية وعليه درع ومعه راية سوداء، واستخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة مرتين.

قوله عز وجل:

عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة قتل الإنسان ما أكفره

"العبوس": تقطيب الوجه واربداده عند كراهية أمر ، وفي مخاطبته صلى الله عليه وسلم بلفظ ذكر الغائب مبالغة في العتب، لأن في ذلك بعض الإعراض، وقال كثير من العلماء، وابن زيد ، وعائشة وغيرهما من الصحابة: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآيات وآيات قصة زيد وزينب بنت جحش . و"التولي" هنا الإعراض، و"أن" مفعول من أجله. وقرأ الحسن: "آن جاءه" بمدة تقرير وتوقيف، والوقف -على هذه القراءة- على "تولى" وهي قراءة عيسى. وذكر الله تعالى ابن أم مكتوم بصفة العمى الذي شأن البشر احتقاره، وبين أمره بذكر ضده من غنى ذلك الكافر، وفي ذلك دليل على أن ذكر هذه العاهات، متى كانت لمنفعة أو لأن شهرتها تعرف السامع صاحبها دون لبس، جائز، ومنه قول المحدثين سليمان الأعمش ، وعبد الرحمن الأعرج ، وسالم الأفطس، ونحو هذا. ومتى ذكرت هذه الأشياء على جهة التنقص فتلك الغيبة، وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها تذكر امرأة، فقالت: إنها لقصيرة، فقال عليه الصلاة والسلام: "لقد قلت كلمة لو مزجت بالبحر لمزجته".

ثم خاطب تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالعتب فقال: وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه [ ص: 537 ] الذكرى أي: وما يطلعك على أمره وعقبى حاله؟ ثم ابتدأ القول: "لعله يزكى"، أي: تنمو بركته ويتطهره لله تعالى وينفع إيمانه. وأصل "يزكى": يتزكى، فأدغم التاء في الزاي، وكذلك "يذكر". وقرأ الأعرج : "يذكر" بسكون الذال وضم الكاف، ورويت عن عاصم ، وقرأ جمهور السبعة: "فتنفعه" بضم العين على العطف، وقرأ عاصم وحده، والأعرج : "فتنفعه" بالنصب في جواب التمني; لأن قوله تعالى: "أو يذكر" في حكم قوله سبحانه: "لعله يزكى".

ثم أكد تعالى عتب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: أما من استغنى أي بماله، و"تصدى" معناه: تتعرض بنفسك، وقرأ ابن كثير ، ونافع : "تصدى" بشد الصاد، على إدغام التاء، وقرأ الباقون، والأعرج ، والحسن ، وأبو رجاء ، وقتادة ، وعيسى ، والأعمش "تصدى" بتخفيف الصاد على حذف التاء، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: "تصدى" بضم التاء وتخفيف الصاد، على بناء الفعل للمجهول، أي: تصديك حرصك على هؤلاء الكفار أن يسلموا، تقول: تصدى الرجل وصديته، كما تقول: تكسب وكسبته، ثم قال تعالى تحقيرا لشأن الكفار: وما عليك ألا يزكى أي: وما يضرك ألا يفلح؟ فهذا حض على الإعراض عن أمرهم، وترك الاكتراث بهم.

ثم قال تعالى مبالغا في العتب: وأما من جاءك يسعى ، أي يمشي، وقيل: المعنى: يسعى في شئونه وأمر دينه وتقربه منك، وهو يخشى الله تعالى، فأنت عنه تلهى ، أي: تشتغل، تقول: لهيت عن الشيء ألهى إذا اشتغلت، وليس من اللهو الذي هو من ذوات الواو، أما إن المعنى يتداخل. وقرأ الجمهور من القراء: "تلهى" بفتح التاء على حذف التاء الواحدة، وقرأ ابن كثير -فيما روي عنه-: "تلهى" بالإدغام، وقرأ طلحة بن مصرف : "تتلهى" بتاءين، وروي عنه "تلهى" بفتح التاء وسكون اللام وتخفيف الهاء المفتوحة، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: "تلهى" بضم التاء، أي يلهيك حرصك على أولئك الكفار، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "وما استأثر الله به فاله عنه" وقوله تعالى [ ص: 538 ] في هاتين: ( أما من ) ، ( وأما من ) فالسبب ما ذكر من كفار قريش وعبد الله بن أم مكتوم، ثم هي بعد تتناول من شركهم في هذه الأوصاف، فحملة الشرع والعلم مخاطبون في تقريب الضعيف من أهل الخير، وتقديمه على الشريف العاري من الخير، بمثل ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السورة.

ثم قال: "كلا" يا محمد، أي: ليس الأمر في حقه كما فعلت، إن هذه السورة والقراءة التي كنت فيها مع ذلك الكافر تذكرة لجميع العالم، لا يؤثر فيها أحد دون أحد، وقيل: المعنى إن هذه المعتبة تذكرة لك يا محمد، ففي هذا التأويل إجلال لمحمد صلى الله عليه وسلم وتأنيس له، وقوله تعالى: في صحف يتعلق بقوله سبحانه : إنها تذكرة ، وهذا يؤيد أن التذكرة يراد بها جميع القرآن، وقال بعض المتأولين: الصحف هنا اللوح المحفوظ، وقيل: صحف الأنبياء عليهم السلام المنزلة، وقيل: مصاحف المسلمين.

واختلف الناس في "السفرة" ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هم الملائكة لأنهم كتبة، يقال: سفرت أي كتبت، ومنه السفر، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الملائكة سفرة لأنهم يسفرون بين الله تعالى وبين أنبيائه ، وقال قتادة : هم القراء، وواحد السفرة: سافر، وقال وهب بن منبه : هم الصحابة; لأن بعضهم يسفر إلى بعض في الخبر والتعليم والتعلم، والقول الأول أرجح، ومن اللفظة قول الشاعر: .


وما أدع السفارة بين قومي ... ولا أمشي بغش إن مشيت



و"الصحف" -على هذا- صحف عند الملائكة أو اللوح، وعلى القول الآخر هي المصاحف. [ ص: 539 ] وقوله تعالى: قتل الإنسان دعاء على اسم الجنس، وهو عموم يراد به الخصوص، والمعنى: قتل الإنسان الكافر، ومعنى "قتل": هو أهل أن يدعى عليه بهذا، وقال مجاهد : "قتل" معناه: لعن، وهذا تحكم، وقوله تعالى: ما أكفره يحتمل معنى التعجب، ويحتمل معنى الاستفهام توقيفا، أي: أي شيء أكفره؟ أي جعله كافرا.

وقيل: إن هذه الآية نزلت في عتبة بن أبي لهب، وذلك أنه غاضب أباه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن أباه استصلحه وأعطاه مالا وجهزه إلى الشام، فبعث عتبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إني كافر برب النجم إذا هوى، فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم ابعث إليه كلبك حتى يأكله"، ويروى أنه قال: "ما يخاف أن يرسل الله عليك كلبه"، ثم إن عتبة خرج في سفرة فجاء الأسد فأكله بين الرفقة.

التالي السابق


الخدمات العلمية