الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 368 ] ( سورة المدثر مكية وهي ست وخمسون آية )

( بسم الله الرحمن الرحيم )

( يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير ذرني ومن خلقت وحيدا و جعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر كلا والقمر والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر إنها لإحدى الكبر نذيرا للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة كلا بل لا يخافون الآخرة كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة ) .

تدثر : لبس الدثار ، وهو الثوب الذي فوق الشعار ، والشعار : الثوب الذي يلي الجسد ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " الأنصار شعار والناس دثار " . النقر : الصوت ، قال الشاعر :


أخفضه بالنقر لما علوته ويرفع طرفا غير خاف غضيض



وقال الراجز :


أنا ابن ماوية إذ جد النقر

يريد النقر ، فنقل الحركة ، فالناقور فاعول منه ، كالجاسوس مأخوذ من التجسس . عبس يعبس عبسا وعبوسا : قطب ، والعبس : ما تعلق بأذناب الإبل من أبعارها وأبوالها . قال أبو النجم :


كأن في أذنابهن الشول     من عبس الصيف قرون الأيل



بسر : قبض ما بين عينيه واربد وجهه ، قال :


صحبنا تميما غداة الجفار     بشهبا ملومة باسره



وأهل اليمن يقولون : بسر المركب وأبسر إذا وقف ، وقد أبسرنا ، وتقول العرب : وجه باسر بين البسور ، إذا تغير واسود . لاحه البسر : غير خلقته ، قال :


تقول ما لاحك يا مسافر     يا ابنة عمي لاحني الهواجر

( وقال آخر ) :


وتعجب هند إن رأتني شاحبا     تقول لشيء لوحته السمائم



[ ص: 369 ] وقال الأخفش : اللوح : شدة العطش ، لاحه العطش ولوحه غيره .

( وقال الشاعر ) :


سقتني على لوح من الماء شربة     سقاها به الله الرهام الغواديا



ويقال : التاح ، أي عطش . القسورة : الرماة والصيادون ، قاله ابن كيسان . أو الأسد ، قاله جماعة من اللغويين ، قال :


مضمر تحدره الأبطال     كأنه القسورة الريبال



أو الرجال الشداد ، قال لبيد :


إذا ما هتفنا هتفة في ندينا     أتانا الرجال الصائدون القساور





أو ظلمة أول الليل لا ظلمة آخره ، قاله ابن الأعرابي وثعلب .

( يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا ) .

[ ص: 370 ] هذه السورة مكية ، قال ابن عطية بإجماع . وفي التحرير ، قال مقاتل : إلا آية وهي : ( وما جعلنا عدتهم إلا فتنة ) . ومناسبتها لما قبلها أن في ما قبلها ( ذرني والمكذبين ) وفيه ( إن هذه تذكرة ) فناسب ( ياأيها المدثر قم فأنذر ) وناسب ذكر يوم القيامة بعد ، وذكر بعض المكذبين في قوله : ( ذرني ومن خلقت وحيدا ) .

قال الجمهور : لما فزع من رؤية جبريل على كرسي بين السماء والأرض ورعب منه ، رجع إلى خديجة فقال : زملوني دثروني ، نزلت ( ياأيها المدثر ) . قال النخعي وقتادة و عائشة : نودي وهو في حال تدثره ، فدعي بحال من أحواله . وروي أنه كان تدثر في قطيفة . قيل : وكان يسمع من قريش ما كرهه ، فاغتم وتغطى بثوبه مفكرا ، فأمر أن لا يدع إنذارهم وإن أسمعوه وآذوه . وقال عكرمة معناه : يا أيها المدثر للنبوة وأثقالها ، كما قال في المزمل . وقرأ الجمهور : ( المدثر ) بشد الدال . وأصله المتدثر فأدغم ، وكذا هو في حرف أبي على الأصل . وقرأ عكرمة : بتخفيف الدال ، كما قرئ بتخفيف الزاي في المزمل ، أي : دثر نفسه . وعن عكرمة أيضا : فتح التاء اسم مفعول ، وقال : دثرت هذا الأمر وعصب بك . ( قم فأنذر ) أي : قم من مضجعك ، أو قم بمعنى الأخذ في الشيء ، كما تقول : قام زيد يضرب عمرا ، أي : أخذ ، وكما قال :


علام قام يشتمني لئيم

أي أخذ ، والمعنى قم قيام تصميم وجد ( فأنذر ) أي : حذر عذاب الله ووقائعه ، والإنذار عام بجميع الناس وبعثه إلى الخلق . ( وربك فكبر ) أي : فعظم كبرياءه . وقال الزمخشري : واختص ربك بالتكبير ، وهو الوصف بالكبرياء ، وأن يقال : الله أكبر . انتهى . وهذا على مذهبه من أن تقديم المفعول على الفعل يدل على الاختصاص ، قال : ودخلت الفاء لمعنى الشرط ، كأنه قيل : [ ص: 371 ] وما كان فلا تدع تكبيره . انتهى . وهو قريب مما قدره النحاة في قولك : زيدا فاضرب ، قالوا تقديره : تنبه فاضرب زيدا ، فالفاء هي جواب الأمر ، وهذا الأمر إما مضمن معنى الشرط ، وإما الشرط بعده محذوف على الخلاف الذي فيه عند النحاة . ( وثيابك فطهر ) : الظاهر أنه أمر بتطهير الثياب من النجاسات ; لأن طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة ، ويقبح أن تكون ثياب المؤمن نجسة ، والقول بأنها الثياب حقيقة هو قول ابن سيرين وابن زيد والشافعي ، ومن هذه الآية ذهب الشافعي إلى وجوب غسل النجاسة من ثياب المصلي . وقيل : تطهيرها : تقصيرها ، ومخالفة العرب في تطويل الثياب وجرهم الذيول على سبيل الفخر والتكبر ، قال الشاعر :


ثم راحوا عبق المسك بهم     يلحفون الأرض هداب الأزر



ولا يؤمن من إصابتها النجاسة ، وفي الحديث : " إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ، ما كان أسفل من ذلك ففي النار " . وذهب الجمهور إلى أن الثياب هنا مجاز . فقال ابن عباس والضحاك : تطهيرها أن لا تكون تتلبس بالقذر . وقال ابن عباس وابن جبير أيضا : كنى بالثياب عن القلب ، كما قال امرؤ القيس :


فسلي ثيابي من ثيابك تنسل

أي : قلبي من قلبك . وعلى الطهارة من القذر ، وأنشد قول غيلان بن سلمة الثقفي :


إني بحمد الله لا ثوب غادر     لبست ، ولا من خزية أتقنع





وقيل : كناية عن طهارة العمل ، المعنى : وعملك فأصلح ، قاله مجاهد وابن زيد . وقال ابن زيد : إذا كان الرجل خبيث العمل قالوا : فلان خبيث الثياب ، وإذا كان حسن العمل قالوا : فلان طاهر الثياب ، ونحو هذا عن السدي ، ومنه قول الشاعر :


لا هم إن عامر بن جهم     أو ذم حجا في ثياب دسم



أي : دنسه بالمعاصي ، وقيل : كنى عن النفس بالثياب ، قاله ابن عباس . قال الشاعر :


فشككت بالرمح الطويل ثيابه

( وقال آخر ) :


ثياب بني عوف طهارى نقية     وأوجههم بيض سافر غران



أي : أنفسهم . وقيل : كنى بها عن الجسم . قالت ليلى وقد ذكرت إبلا :


رموها بأثواب خفاف فلا نرى     لها شبها إلا النعام المنفرا



أي : ركبوها فرموها بأنفسهم . وقيل : كناية عن الأهل ، قال تعالى : ( هن لباس لكم ) والتطهر فيهن اختيار المؤمنات العفائف . وقيل : وطئهن في القبل لا في الدبر ، في الطهر لا في الحيض ، حكاهابن بحر . وقيل : كناية عن الخلق ، أي : وخلقك فحسن ، قاله الحسن والقرطبي ، ومنه قوله :


ويحيى ما يلائم بسوء خلق     ويحيى طاهر الأثواب حر



أي : حسن الأخلاق . وقرأ الجمهور : ( والرجز ) بكسر الراء ، وهي لغة قريش . والحسن ومجاهد والسلمي ، وأبو جعفر وأبو شيبة وابن محيصن ، وابن وثاب وقتادة والنخعي ، وابن أبي إسحاق والأعرج وحفص : بضمها ، فقيل : هما بمعنى واحد ، يراد بهما الأصنام والأوثان . وقيل : الكسر للبين والنقائص والفجور ، والضم لصنمين ، أساف ونائلة . وقال عكرمة ومجاهد والزهري : للأصنام عموما . وقال ابن عباس : الرجز : السخط ، أي : اهجر ما يؤدي إليه . وقال الحسن : كل معصية ، والمعنى في الأمر : اثبت ودم على هجره ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان بريئا منه . وقال النخعي : الرجز ، الإثم . وقال القتبي : العذاب ، أي : اهجر ما يؤدي إليه . وقرأ الجمهور : ( ولا تمنن ) بفك التضعيف . والحسن وأبو السمال : بشد [ ص: 372 ] النون . قال ابن عباس وغيره : لا تعط عطاء لتعطى أكثر منه ، كأنه من قولهم : من إذا أعطى . قال الضحاك : هذا خاص به - صلى الله عليه وسلم - ومباح ذلك لأمته ، لكنه لا أجر لهم . وعن ابن عباس أيضا : لا تقل دعوت فلم أجب . وعن قتادة : لا تدل بعملك . وعن ابن زيد : لا تمنن بنبوتك تستكثر بأجر أو كسب تطلبه منهم . وقال الحسن : تمنن على الله بجدك ، تستكثر أعمالك ويقع لك بها إعجاب ، وهذه الأقوال كلها من المن تعداد اليد وذكرها . وقال مجاهد : ( ولا تمنن تستكثر ) ما حملناك من أعباء الرسالة ، أو تستكثر من الخير ، من قولهم : حبل متين أي : ضعيف . وقيل : ولا تعط مستكثرا رائيا لما تعطيه . وقرأ الجمهور : ( تستكثر ) برفع الراء ، والجملة حالية ، أي : مستكثرا . قال الزمخشري : ويجوز في الرفع أن تحذف أن منك ويبطل عملها ، كما روي : أحضر الوغى بالرفع . انتهى ، وهذا لا يجوز أن يحمل القرآن عليه ; لأنه لا يجوز ذلك إلا في الشعر ، ولنا مندوحة عنه مع صحة الحال ، أي : مستكثرا . وقرأ الحسن وابن أبي عبلة : بجزم الراء ، ووجهه أنه بدل من ( تمنن ) أي : لا تستكثر ، كقوله : ( يضاعف له العذاب ) في قراءة من جزم ، بدلا من قوله : ( يلق ) وكقوله :


متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا     تجد حطبا جزلا ونارا تأججا



ويكون من المن الذي في قوله تعالى : ( لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) لأن من شأن المان أن يستكثر ما يعطي أن يراه كثيرا ويعتد به . وأجاز الزمخشري فيه وجهين ، أحدهما : أن تشبه ( تستكثر ) بـ ( تعضد ) فتسكن تخفيفا . والثاني : أن يعتبر حال الوقف ، يعني فيجري الوصل مجرى الوقف ، وهذان لا يجوز أن يحمل القرآن عليهما مع وجود ما هو راجح عليهما ، وهو المبدل . وقرأ الحسن أيضا والأعمش : ( تستكثر ) بنصب الراء ، أي : لن تحقرها . وقرأ ابن مسعود : أن تستكثر ، بإظهار أن . ( ولربك فاصبر ) أي : لوجه ربك أمره بالصبر ، فيتناول الصبر على تكاليف النبوة ، وعلى أداء طاعة الله ، وعلى أذى الكفار . قال ابن زيد : على حرب الأحمر والأسود ، فكل مصبور عليه ومصبور عنه يندرج في الصبر . وقال الزمخشري : والفاء في قوله : ( فإذا نقر ) للتسبب ، كأنه قيل : فاصبر على أذاهم ، فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى عاقبة صبرك عليه . وقال الزمخشري : والفاء في ( فذلك ) للجزاء . ( فإن قلت ) : بم انتصب ( إذا ) ، وكيف صح أن يقع ( يومئذ ) ظرفا لـ ( يوم عسير ) ؟ ( قلت ) : انتصب إذا بما دل عليه الجزاء ; لأن المعنى : ( فإذا نقر في الناقور ) عسر الأمر على الكافرين . والذي أجاز وقوع ( يومئذ ) ظرفا لـ ( يوم عسير ) أن المعنى : فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير ; لأن يوم القيامة يأتي ويقع حين ينقر في الناقور . ويجوز أن يكون يومئذ مبنيا مرفوع المحل بدلا من ذلك ، ويوم عسير خبر ، كأنه قيل : فيوم النقر يوم عسير . ( فإن قلت ) : فما فائدة قوله : ( غير يسير ) وعسير مغن عنه ؟ ( قلت ) : لما قال ( على الكافرين ) فقصر العسر عليهم ، قال ( غير يسير ) ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيرا هينا ، فيجمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم ، وبشارة المؤمنين وتسليتهم . ويجوز أن يراد به عسير لا يرجى أن يرجع يسيرا ، كما يرجى بيسير العسير من أمور الدنيا . انتهى . وقال الحوفي : ( فإذا ) " إذا " متعلقة بـ ( أنذر ) أي : فأنذرهم إذا نقر في الناقورة . قال أبو البقاء : يجري على القول الأخفش أن تكون " إذا " مبتدأ والخبر فذلك والفاء زائدة . فأما يومئذ فظرف لذلك ، وأجاز أبو البقاء أن يتعلق ( على الكافرين ) بـ ( يسير ) ، أي : غير يسير ، أي : غير سهل على الكافرين . وينبغي أن لا يجوز ; لأن فيه تقديم معمول العامل المضاف إليه ( غير ) على العامل ، وهو ممنوع على الصحيح ، وقد أجازه بعضهم ، فيقول : أنا بزيد غير راض .

التالي السابق


الخدمات العلمية