الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 56 ] بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله كتاب الهبات 1626 - مسألة : لا تجوز هبة إلا في موجود ، معلوم ، معروف القدر ، والصفات ، والقيمة ، وإلا فهي باطل مردودة .

                                                                                                                                                                                          وكذلك ما لم يخلق بعد كمن وهب ما تلد أمته ، أو شاته ، أو سائر حيوانه ، أو ما يحمل شجره العام - وهكذا كل شيء ; لأن المعدوم ليس شيئا ، ولو كان شيئا لكان الله عز وجل لم يزل والأشياء معه - وهذا كفر ممن قاله .

                                                                                                                                                                                          والهبة والصدقة والعطية يقتضي كل ذلك موهوبا ومتصدقا ، فمن أعطى معدوما أو تصدق بمعدوم فلم يعط شيئا ، ولا وهب شيئا ، ولا تصدق بشيء .

                                                                                                                                                                                          وإذا لم يفعل كل ما ذكرنا فلا يلزمه حكم - وقد حرم الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أموال الناس إلا بطيب أنفسهم ، ولا يجوز أن تطيب النفس على ما لا تعرف صفاته ولا ما هو ، ولا ما قدره ، ولا ما يساوي ، وقد تطيب نفس المرء غاية الطيب على بذل الشيء وبيعه ، ولو علم صفاته وقدره وما يساوي لم تطب نفسه به - فهذا أكل مال بالباطل فهو حرام لا يحل .

                                                                                                                                                                                          وكذلك من أعطى أو تصدق بدرهم من هذه الدراهم أو برطل من هذا الدقيق ، أو بصاع من هذا البر ، فهو كله باطل لما ذكرنا ; لأنه لم يوقع صدقته ، ولا هبته ، على مكيل بعينه ، ولا موزون بعينه ، ولا معدود بعينه ، فلم يهب ولا تصدق أصلا .

                                                                                                                                                                                          وكذلك لا يجوز شيء من ذلك لمن لا يدري ، ولا لمن لم يخلق ، لما ذكرنا ، وأما الحبس فبخلاف هذا كله للنص الوارد في ذلك - وبالله تعالى التوفيق . [ ص: 57 ]

                                                                                                                                                                                          والقياس باطل ، ولكل شيء حكمه الوارد فيه بالنص .

                                                                                                                                                                                          فإن ذكروا الحديث الذي روينا من طريق مسلم نا زهير بن حرب نا ابن علية عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له دحية يوم خيبر : يا رسول الله أعطني جارية من السبي ؟ قال : اذهب فخذ جارية فأخذ صفية بنت حيي ، فجاء رجل فقال : يا رسول الله أعطيت دحية بنت حيي سيد قريظة والنضير وما تصلح إلا لك ، قال : ادعه بها ، قال : فجاء بها ، فلما نظر إليها صلى الله عليه وسلم قال له : خذ جارية من السبي غيرها - وأعتقها وتزوجها . }

                                                                                                                                                                                          قلنا : هذا أعظم حجة لنا ; لأن العطية لو تمت لم يرتجعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحاشا له من ذلك ليس له المثل السوء ، وهو عليه الصلاة والسلام يقول { : ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالعائد في قيئه ، كالكلب يعود في قيئه }

                                                                                                                                                                                          لكن أخذها وتمام ملكه لها ، وكمال عطيته عليه السلام له ، إذ عرف عليه الصلاة والسلام عينها ، أو صفتها ، أو قدرها ، ومن هي ؟ ؟ فإن قيل : فقد رويتم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس { أنه عليه السلام اشترى صفية من دحية وقد وقعت في سهمه بسبعة أرؤس . }

                                                                                                                                                                                          قلنا : كلا الخبرين عن أنس صحيح ، وتأليفهما ظاهر .

                                                                                                                                                                                          وقوله " إنها وقعت في سهمه ، إنما معناه بأخذه إياها إذ سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم جارية من السبي ؟ فقال له : اذهب فخذ جارية - وبلا شك أن من أخذ شيئا لنفسه بوجه صحيح فقد وقع في سهمه .

                                                                                                                                                                                          وقوله { اشتراها عليه السلام بسبعة أرؤس } يخرج على أحد وجهين - : أحدهما - أنه عليه السلام عوضه منها فسمى أنس ذلك الفعل شراء . والثاني - { أن دحية إذ أتى بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له : خذ غيرها ، قد سأله إياها ، } وكان عليه السلام لا يسأل شيئا إلا أعطاه ، فأعطاه إياها ، فصحت له ، وصح وقوعها في سهمه ، ثم اشتراها منه بسبعة أرؤس .

                                                                                                                                                                                          ولا شك في صحة الخبرين ، ولا يمكن الجمع بينهما لصحتهما ، إلا كما ذكرنا ، وما لا شك فيه فلا شك فيما لا يصح إلا به - وبالله تعالى نتأيد . [ ص: 58 ]

                                                                                                                                                                                          فإن ذكروا { قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لجابر : لو قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا . }

                                                                                                                                                                                          قلنا : هذه عدة لا عطية ، وقد أنفذ أبو بكر رضي الله عنه هذه العدة بعد موته عليه السلام - وهم لا يختلفون في أن من قال ذلك ثم مات لم ينفذ قوله بعد موته - وهذا قول أبي سليمان ، وأصحابنا - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية