الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
سورة ألهاكم مكية وهي ثماني آيات

بسم الله الرحمن الرحيم

( ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ) .

هذه السورة مكية في قول جميع المفسرين ، وقال البخاري : مدنية ، ومناسبتها لما قبلها ظاهرة ، وسبب نزولها أنه فيما روى الكلبي ومقاتل : كان بين بني سهم وبين بني عبد مناف لحاء ، فتعادوا الأشراف الأحياء أيهم أكثر ، فكثرهم بنو عبد مناف ، ثم تعادوا الأموات ، فكثرهم بنو سهم ؛ لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية ، وقال قتادة : نزلت في اليهود ، قالوا : نحن أكثر من بني فلان ، وبنو فلان أكثر من بني فلان ، وقال ابن زيد : نزلت في بطن من الأنصار .

( ألهاكم ) شغلكم فعلى ما روى الكلبي ومقاتل يكون المعنى : أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى استوعبتم عددهم ، صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات ، عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة المقابر تهكما بهم ، وهذا معنى ينبو عنه لفظ زرتم ، قيل : ( حتى زرتم ) أي متم وزرتم بأجسادكم مقابرها ، أي قطعتم بالتكاثر والمفاخرة بالأموال والأولاد والعدد أعماركم حتى متم ، وسمع بعض الأعراب ( حتى زرتم ) فقال : بعث القوم للقيامة ، ورب الكعبة ، فإن الزائر منصرف لا مقيم ، وعن عمر بن عبد العزيز نحو من قول الأعرابي ، وقيل : هذا تأنيث على الإكثار من زيارة تكثرا بمن سلف وإشادة بذكره ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نهى عن زيارة القبور ، ثم قال : ( فزوروها ) أمر إباحة للاتعاظ بها لا لمعنى المباهاة والتفاخر . قال ابن عطية : كما يصنع الناس في ملازمتها وتسليمها بالحجارة والرخام ، وتلوينها شرفا ، وبيان النواويس عليه ، وابن عطية لم ير إلا قبور أهل الأندلس ، فكيف لو رأى ما تباهى به أهل مصر في مدافنهم بالقرافة الكبرى ، والقرافة [ ص: 508 ] الصغرى ، وباب النصر وغير ذلك ، وما يضيع فيها من الأموال لتعجب من ذلك ، ولرأى ما لم يخطر ببال ؟

وأما التباهي بالزيارة ، ففي هؤلاء المنتمين إلى الصوف أقوام ليس لهم شغل إلا زيارة القبور ، زرت قبر سيدي فلان بكذا ، وقبر فلان بكذا ، والشيخ فلانا بكذا ، والشيخ فلانا بكذا ، فيذكرون أقاليم طافوها على قدم التجريد ، وقد حفظوا حكايات عن أصحاب تلك القبور وأولئك المشايخ بحيث لو كتبت لجاءت أسفارا ، وهم مع ذلك لا يعرفون فروض الوضوء ولا سننه ، وقد سخر لهم الملوك وعوام الناس في تحسين الظن بهم وبذل أموالهم لهم ، وأما من شذ منهم لأن يتكلم للعامة فيأتي بعجائب ، يقولون هذا فتح هذا من العلم اللدني علم الخضر ، حتى إن من ينتمي إلى العلم لما رأى رواج هذه الطائفة سلك مسلكهم ونقل كثيرا من حكاياتهم ومزج ذلك بيسير من العلم طلبا للمال والجاه وتقبيل اليد ، ونحن نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته .

وقرأ الجمهور : ألهاكم على الخبر ، وابن عباس ، وعائشة ، ومعاوية ، وأبو عمران الجوني ، وأبو صالح ، ومالك بن دينار ، وأبو الجوزاء وجماعة : بالمد على الاستفهام ، وقد روي كذلك عن الكلبي ويعقوب ، وعن أبي بكر الصديق ، وابن عباس أيضا ، والشعبي ، وأبي العالية ، وابن أبي عبلة ، والكسائي في رواية : ( أألهاكم ) بهمزتين ، ومعنى الاستفهام التوبيخ والتقرير على قبح فعلهم ، والجمهور : على أن التكرير توكيد ، قال الزمخشري : والتكرير تأكيد للردع والإنذار ، و ( ثم ) دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول وأشد ، كما تقول للمنصوح : أقول لك ثم أقول لك لا تفعل ، والمعنى : سوف تعلمون الخطاب فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدامكم من هول لقاء الله تعالى .

وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : كلا سوف تعلمون في القبور ثم كلا سوف تعلمون في البعث : غاير بينهما بحسب التعلق ، وتبقى ثم على بابها من المهلة في الزمان ، وقال الضحاك : الزجر الأول ووعيده للكافرين ، والثاني للمؤمنين ( كلا لو تعلمون ) أي ما بين أيديكم مما تقدمون عليه ( علم اليقين ) أي كعلم ما تستيقنونه من الأمور لما ألهاكم التكاثر أو العلم اليقين ، فأضاف الموصوف إلى صفته وحذف الجواب لدلالة ما قبله عليه وهو ( ألهاكم التكاثر ) وقيل : اليقين هنا الموت . وقال قتادة : البعث ؛ لأنه إذا جاء زال الشك . ثم قال : ( لترون الجحيم ) والظاهر أن هذه الرؤية هي رؤية الورود ، كما قال تعالى : ( وإن منكم إلا واردها ) ولا تكون رؤية عند الدخول ، فيكون الخطاب للكفار ؛ لأنه قال بعد ذلك : ( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ) .

( ثم لترونها عين اليقين ) تأكيد للجملة التي قبلها ، وزاد التوكيد بقوله : ( عين اليقين ) نفيا لتوهم المجاز في الرؤية الأولى ، وعن ابن عباس : هو خطاب للمشركين ، فالرؤية رؤية دخول ، وقرأ ابن عامر والكسائي : ( لترون ) بضم التاء ، وباقي السبعة : بالفتح ، وعلي وابن كثير في رواية ، وعاصم في رواية : بفتحها في ( لترون ) وضمها في ( لترونها ) ومجاهد والأشهب وابن أبي عبلة : بضمها ، وروي عن الحسن وأبي عمرو بخلاف عنهما أنهما همزا الواوين ، استثقلوا الضمة على الواو فهمزوا كما همزوا في وقتت ، وكان القياس أن لا تهمز ، لأنها حركة عارضة لالتقاء الساكنين فلا يعتد بها ، لكنها لما تمكنت من الكلمة بحيث لا تزول أشبهت الحركة الأصلية فهمزوا ، وقد همزوا من الحركة العارضة ما يزول في الوقف نحو استرؤا الصلاة ، فهمز هذه أولى .

( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ) الظاهر العموم في النعيم ، وهو كل ما يتلذذ به من مطعم ومشرب ومفرش ومركب ، فالمؤمن يسأل سؤال إكرام وتشريف ، والكافر سؤال توبيخ وتقريع ، وعن ابن مسعود والشعبي وسفيان ومجاهد : هو الأمن والصحة ، وعن ابن عباس : البدن والحواس فيم استعملها ، وعن ابن جبير : كل ما يتلذذ به ، وفي الحديث : ( بيت يكنك وخرقة تواريك وكسرة تشد قلبك وما سوى ذلك فهو نعيم ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية