الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن همام عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                            خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرعاه على زوج في ذات يده وفي رواية لمسلم على يتيم وزاد في رواية يقول أبو هريرة : على أثر ذلك ولم تركب مريم بنت عمران بعيرا قط .

                                                            التالي السابق


                                                            الحديث الثالث .

                                                            عن همام عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نساء [ ص: 13 ] ركبن الإبل صالح نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرعاه على زوج في ذات يده (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) أخرجه مسلم من هذا الوجه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام ، ومعمر عن ابن طاوس عن أبيه كلاهما عن أبي هريرة وأخرجه الشيخان من طريق سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج وعن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قال أحدهما صالح نساء قريش وقال الآخر : نساء قريش وقال : أحناه على يتيم وفي لفظ لمسلم من هذا الوجه أرعاه على ولد ، وأخرجه البخاري تعليقا ومسلم مسندا من طريق يونس عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بلفظ . نساء قريش خير نساء ركبن الإبل أحناه على طفل وأرعاه على زوج في ذات يده ، يقول أبو هريرة على أثر ذلك : ولم تركب مريم بنت عمران بعيرا قط وانفرد به مسلم من طريق معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة وفي أوله أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب أم هانئ بنت أبي طالب فقالت : يا رسول الله ، إني قد كبرت ولي عيال فقال : خير نساء فذكر الحديث ، ومن طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة .

                                                            (الثانية) فيه تفضيل نساء قريش على غيرهن وقوله ركبن الإبل إشارة إلى العرب ؛ لأنهم الذين يعهد عندهم ركوب الإبل فعبر بركوب الإبل عن العرب وقد علم أن العرب خير من غيرهن فيستفاد بذلك تفضيلهن مطلقا .

                                                            (الثالثة) استنبط أبو هريرة رضي الله عنه من قوله : ركبن الإبل إخراج مريم عليها السلام من ذلك ؛ لأنها لم تركب بعيرا قط فلا يكون فيه تفضيل نساء قريش عليها ولا شك أن لمريم فضلا وأنها أفضل من أكثر نساء قريش وقد ثبت في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد وأشار وكيع إلى السماء والأرض وأراد بهذه الإشارة تفسير الضمير في نسائها وأن المراد به جميع نساء الأرض أي كل من بين السماء والأرض من النساء .

                                                            قال النووي والأظهر أن معناه أن كل واحدة منهما خير نساء الأرض في عصرها ، وأما التفضيل بينهما فمسكوت عنه .

                                                            (قلت) وقد يعود الضمير في نسائها على مريم وخديجة ويكون المقدم خبرا والمؤخر مبتدأ والتقدير مريم خير نسائها أي خير نساء زمانها والتردد بين مريم وخديجة مفرع على الصحيح أن مريم ليست [ ص: 14 ] نبية وقد نقل بعضهم الإجماع عليه أما إذا قلنا بنبوتها كما قاله بعضهم فلا شك حينئذ في فضلها على خديجة والحق أنه لا يحتاج إخراج مريم عليها السلام من هذا التفضيل إلى استنباطه من قوله : ركبن الإبل ؛ لأن تفضيل الجملة لا يلزم طرده في كل الأفراد ، وقد علم فضل مريم بما تقدم وغيره ؛ ولو قصد بقوله : ركبن الإبل إخراج نساء غير العرب للزم على ذلك أن لا يكون لنساء قريش فضل على نساء بني إسرائيل ولا الروم ولا الفرس ولا غيرهم من النساء وليس كذلك بل الحديث دال على تفضيلهن على جميع النساء لدلالته على تفضيلهن على بقية العرب مع قيام الدليل على تفضيل العرب على غيرهم ثم إن هذا الحديث إنما سيق والله أعلم في معرض الترغيب في نكاح القرشيات فلم يقصد التعرض لمريم التي انقضى زمانها بنفي ولا إثبات والله أعلم .

                                                            (الرابعة) في هذه الرواية صالح نساء قريش وفي غيرها نساء قريش والمطلق محمول على المقيد فالمحكوم له بالخيرة إنما هو صالح نساء قريش لا غيرهن ، قال أبو العباس القرطبي : ويعني بالصلاح هنا صلاح الدين وصلاح المخالطة للزوج وغيره كما دل عليه قوله أحناه وأرعاه .



                                                            (الخامسة) قوله : أحناه أي أشفقه والحانية على ولدها التي تقوم عليهم بعد تيتمهم فإن تزوجت فليس بحانية قاله الهروي وقوله : على ولد قد عرفت أن في الرواية الأخرى على يتيم فقد يجعل هذا من الإطلاق والتقييد ويحمل المطلق على المقيد ، وقد يقال : هو من ذكر بعض أفراد العموم فهي حانية على ولدها مطلقا لكن الذي تقوى حاجته إلى حنوها هو اليتيم أما من أبوه حي فمستغن عنها برفد أبيه ولذلك قيد الولد بالصغر لاستغنائه عن حنو الأم بعد كبره .

                                                            (السادسة) قوله وأرعاه على زوج أي أحفظ وأصون وقوله في ذات يده أي في ماله المضاف إليه والمراد حفظها مال الزوج وحسن تدبيره في النفقة وغيرها وصيانته عن أسباب التلف .

                                                            (السابعة) قوله أحناه وأرعاه أصله أحناهن وأرعاهن ولكنهم لا يتكلمون به إلا مفردا قاله أبو حاتم السجستاني وغيره وهو نظير الحديث الآخر كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها وأحسنه خلقا والحديث الآخر : عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة .

                                                            (الثامنة) فيه فضل هاتين الخصلتين .

                                                            (إحداهما) [ ص: 15 ] الحنو على الأولاد والشفقة عليهم وحسن تربيتهم والقيام عليهم إذا كانوا أيتاما ونحو ذلك .

                                                            (والثانية) مراعاة حق الزوج في ماله وحفظه والأمانة فيه وحسن تدبيره في النفقة وغيرها وصيانته ونحو ذلك .



                                                            (التاسعة) إيراد الشيخ رحمه الله هذا الحديث في هذا الباب يحتمل أن يكون لما يفهم منه من الترغيب في نكاح القرشيات لما دل عليه من مراعاة حال الزوج في حياته في ماله ونفقته وبعد موته فيمن يخلفه يتيما ، وقد ذكر أصحابنا الفقهاء أنه يستحب نكاح النسيبة ومقتضاه أنه كلما كان نسبها أعلى تأكد الاستحباب ويحتمل أن يكون لما دل عليه من فضل القرشيات فيستفاد منه أمر الكفاءة وأن غيرهن ليس كفؤا لهن ، ويحتمل أن يكون لما دل عليه من توفيرهن في أمر النفقة فيستفاد منه إنفاق الزوج على زوجته ، وقد أورده البخاري في كتاب النفقات وبوب عليه باب حفظ المرأة زوجها في ذات يده والنفقة .

                                                            (العاشرة) قد عرف بالرواية التي نقلناها من صحيح مسلم سبب هذا الحديث وهو اعتذار أم هانئ لما خطبها النبي صلى الله عليه وسلم بكبر سنها وبأنها ذات عيال فرفقت بالنبي صلى الله عليه وسلم في أن لا يتأذى بتزوج كبيرة السن ولا بمخالطة عيالها وهم في إخلائها نفسها لمصالحهم وتعز بها عليهم ، ولو كان غيرها لآثر مصلحة نفسه معرضا عن مصلحة الزوج والعيال فينبغي ذكر هذا في أسباب الحديث . والله أعلم .




                                                            الخدمات العلمية