الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              9 (1) كتاب الإيمان

                                                                                              (1) باب

                                                                                              معاني الإيمان والإسلام والإحسان شرعا

                                                                                              [ 7 ] عن يحيى بن يعمر ، قال : كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني ، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري - حاجين أو معتمرين - فقلنا : لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر! فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد ، فاكتنفته أنا وصاحبي ، أحدنا عن يمينه ، والآخر عن شماله ، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي ، فقلت : أبا عبد الرحمن ، إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ، ويتقفرون العلم - وذكر من شأنهم : وأنهم يزعمون أن لا قدر ، وأن الأمر أنف . فقال : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم ، وأنهم برآء مني ، والذي يحلف به عبد الله بن عمر ! لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر . ثم قال : حدثني أبي عمر بن الخطاب ، قال : بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه ، وقال : يا محمد ، أخبرني عن الإسلام . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا . قال : صدقت . قال : فعجبنا له يسأله ويصدقه ! قال : فأخبرني عن الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره . قال : صدقت . قال : فأخبرني عن الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك .

                                                                                              قال : فأخبرني عن الساعة ؟ قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل . قال : فأخبرني عن أماراتها ؟ قال : أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان . قال : ثم انطلق ، فلبثت مليا ، ثم قال : يا عمر ، أتدري من السائل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال : فإنه جبريل ; أتاكم يعلمكم دينكم .


                                                                                              رواه أحمد ( 1 \ 51 ) ، ومسلم ( 8 ) ، وأبو داود ( 4695 ) ، والترمذي ( 2613 ) ، والنسائي ( 8 \ 97 ) ، وابن ماجه ( 63 ) .

                                                                                              [ ص: 130 ] [ ص: 131 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 130 ] [ ص: 131 ] (1)

                                                                                              كتاب الإيمان

                                                                                              (1) ومن باب معاني الإيمان والإسلام والإحسان شرعا

                                                                                              مقصود هذا الباب : إيضاح معاني هذه الأسماء في الشرع دون اللغة ; فإن الشرع قد تصرف فيها على ما يأتي بيانه .

                                                                                              و (قول يحيى بن يعمر : " كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني ") معبد هذا : هو معبد بن عبد الله بن محمد ، وقيل : معبد بن خالد ، والصحيح : أن لا ينسب . وهو بصري ، روى عن عمر مرسلا ، وعن عمران ، وروى عنه : قتادة ، ومالك بن دينار ، وعوف الأعرابي .

                                                                                              قال أبو حاتم : وكان صدوقا في الحديث ، ورأسا في القدر ، قدم المدينة فأفسد فيها ما شاء الله ، وقال يحيى بن معين : هو ثقة .

                                                                                              [ ص: 132 ] القدر : مصدر قدرت الشيء - خفيفة الدال ، أقدره ، وأقدره قدرا وقدرا : إذا أحطت بمقداره ، ويقال فيه : قدرت أقدر تقديرا ، مشدد الدال للتضعيف ; فإذا قلنا : إن الله تعالى قدر الأشياء ، فمعناه : أنه تعالى علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه ; فلا محدث في العالم العلوي والسفلي إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته .

                                                                                              هذا هو المعلوم من دين السلف الماضين ، والذي دلت عليه البراهين . وقد حكى أرباب المقالات عن طوائف من القدرية إنكار كون البارئ تعالى عالما بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منهم ، وإنما يعلمها بعد كونها ، قالوا : لأنه لا فائدة لعلمه بها قبل إيجادها ، وهو عبث ، وهو على الله محال .

                                                                                              قال الشيخ - رحمه الله تعالى - : وقد روي عن مالك أنه فسر مذهب القدرية بنحو ذلك ، وهذا المذهب هو الذي وقع لأهل البصرة ، وهو الذي أنكره ابن عمر .

                                                                                              ولا شك في تكفير من يذهب إلى ذلك ، فإنه جحد معلوم من الشرع ضرورة ; ولذلك تبرأ منهم ابن عمر ، وأفتى بأنهم لا تقبل منهم أعمالهم ولا نفقاتهم ، وأنهم كما قال الله تعالى فيهم : وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله [ التوبة : 54 ]

                                                                                              وهذا المذهب هو مذهب طائفة منهم تسمى السكبية ، وقد ترك اليوم ، فلا يعرف من ينسب إليه من المتأخرين من أهل البدع المشهورين .

                                                                                              والقدرية اليوم : مطبقون على أن الله تعالى عالم بأفعال العباد قبل وقوعها ; [ ص: 133 ] ومعنى القدر عند القائلين به اليوم : أن أفعال العباد مقدورة لهم ، وواقعة منهم بقدرتهم ومشيئتهم ، على جهة الاستقلال ، وأنها ليست مقدورة لله تعالى ولا مخلوقة له ، وهو مذهب مبتدع باطل بالأدلة العقلية والسمعية المذكورة في كتب أئمتنا المتكلمين .

                                                                                              و (قوله : " فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين ") كذا الرواية الصحيحة بـ " أو " التي للشك ; فكأنه عرض له شك في حالهما ، هل كانا حاجين أو كانا معتمرين ؟ وأجيب : بأنه وقع في بعض النسخ : حاجين ومعتمرين بالواو الجامعة ; على أنهما كانا قارنين ، وفيه بعد ، والصحيح الأول ، والله أعلم .

                                                                                              و (قوله : " لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ") " لو " هنا بمعنى ليت ; وهي نحو قوله تعالى : ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين [ الحجر : 2 ] ونحو قول امرئ القيس :


                                                                                              . . . . . . . . . . . . . . لو يشرون مقتلي

                                                                                              [ ص: 134 ] ويأتي لامتناع الامتناع وهو أصلها ، وبمعنى : إن ; كقوله تعالى : ولو أعجبتكم [ البقرة : 221 ] وللتقليل ; كقوله عليه الصلاة والسلام : " التمس ولو خاتما من حديد " .

                                                                                              و ( قوله : " فاكتنفته أنا وصاحبي ") أي : صرنا بكنفيه . والكنف والكنيف : الساتر ; ومنه قول العرب : أنا في كنفك ، أي : في سترك .

                                                                                              وإنما جاءاه كذلك تأدبا واحتراما ; إذ لو قاما أمامه ، لمنعاه المشي ، ولو صارا له من جانب واحد ، لكلفاه الميل إليهما ، وكانت هذه الهيئة أحسن ما أمكنهما .

                                                                                              و (قوله : " فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي ") هذا منه اعتذار عن توهم اعتراض ينسب إليه فيه قلة المبالاة بصاحبه ، واستئثاره عليه بالمسابقة إلى الكلام ; فبين وجه اعتذاره عن ذلك ; وذلك أنه علم من صاحبه أنه يكل الكلام إليه : فإما لكونه أحسن منه سؤالا وأبلغ بيانا ، وإما لحياء يلحق صاحبه يمنعه من السؤال ، وإما إيثارا له ، والله أعلم .

                                                                                              و (قوله : " يا أبا عبد الرحمن : فيه دليل على ما كانوا عليه من الاقتصاد في كلماتهم ، وترك الإطراء والمدح وإن كان حقا ، فقد كان ابن عمر من أعلم الناس وأفضلهم ، وابن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، ومع ذلك فلم يمدحوه بشيء من ذلك مع جلالته ولا أطروه ; محاسبة منهم لأنفسهم على ألفاظهم ، واكتفاء بما [ ص: 135 ] يعلم من فضائل الرجل عن القول والمدح الذي يخاف منه الفتنة على المادح والممدوح .

                                                                                              و (قوله : " إنه قد ظهر قبلنا ناس ") أي : فشا مذهبهم وانتشر ، وهو من الظهور الذي يضاد الخفاء .

                                                                                              و (قوله : " يقرؤون القرآن ، ويتقفرون العلم ") ; وهذه اللفظة بتقديم القاف وتأخير الفاء ، أي : يتبعون ويجمعون ، يقال : اقتفر أثره ، أي : تتبعه . ورواهاأبو العلاء بن ماهان بتقديم الفاء وتأخير القاف ، أي : إنهم يخرجون غامضه ، ويبحثون عن أسراره ، ومنه قول عمر بن الخطاب - وذكر امرأ القيس - فقال : افتقر عن معان عور أصح بصر ، أي : فتح عن معان غامضة مبصرا .

                                                                                              وروي - في غير كتاب مسلم - : يتقفون بواو مكان الراء ، من قفوت أثره ، أي : تتبعته ، وهو من القفاء ، وكلها واضح .

                                                                                              و (قوله : " وذكر من شأنهم ") أي : عظم أمرهم في الذكاء ، والجد في طلب العلم ، وإنما ذكر له ذلك من أوصافهم ; تنبيها له على الاعتناء بمقالتهم والبحث عنها ; ليوضح أمرها ; فإن كلامهم قد وقع من القلوب بالموقع الذي لا يزيله إلا إيضاح بالغ ، وبرهان واضح ، ولما فهم ابن عمر ذلك أفتى بإبطال مذهبهم وفساده ، وحكم بكفرهم ، وتبرأ منهم ، واستدل على ذلك بالدليل القاطع عنده .

                                                                                              و (قوله : " إن الأمر أنف ") أي : مستأنف ، ومعناه عندهم : أنه لم تسبق به سابقة علم الله ولا مشيئته ، وإنما أفعال الإنسان موجودة بعلم الإنسان واختياره ; كما تقدم من مذهبهم .

                                                                                              وأنف كل شيء : أوله ، ومنه : أنف الوجه ; لأنه أول [ ص: 136 ] الأعضاء في الشخوص ، وأنف السيل : أوله ; كما قال امرؤ القيس :


                                                                                              قد غدا يحملني في أنفه لاحق الأيطل محبوك ممر

                                                                                              وروض أنف : لم يرع قبل ، وكذلك كأس أنف : لم يشرب قبل ; ومنه قوله تعالى : ماذا قال آنفا [ محمد : 16 ] أي : هذه الساعة المستأنفة .

                                                                                              و (قوله : " والذي يحلف به عبد الله بن عمر " ) هذه كناية عن الحلف باسم الله ; فإنه هو الذي كان يحلف به غالبا ، ولم يتلفظ به ; إجلالا لأسماء الله تعالى عن أن تتخذ عرضة لكثرة الأيمان بها ، والله أعلم .

                                                                                              و (قوله : " لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ") هذا صريح في أنه كفرهم بذلك القول المحكي عنهم ; لأنه حكم عليهم بما حكم الله به على الكفار في الآية المتقدمة ، وقد قلنا : إن تكفير هذه الطائفة مقطوع به ; لأنهم أنكروا معلوما ضروريا من الشرع .

                                                                                              و (قوله : " بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ") " بينا " هذه هي الظرفية ، زيدت عليها الألف ; لتكفها عن عملها الذي هو الخفض ، كما قد زيدت عليها أيضا " ما " لذلك ، وما بعدها مرفوع بالابتداء في اللغة المشهورة . ومنهم من خفض ما بعد الألف على الأصل ; فقال :

                                                                                              [ ص: 137 ]

                                                                                              بينا تعانقه الكماة وروغه يوما أتيح له جريء سلفع

                                                                                              وروي بخفض تعانقه ورفعه ; وعلى هذا فالألف والميم ليستا للكف ، لكن لتمكن النطق .

                                                                                              وقد ذهب بعض النحويين إلى أنها للتأنيث في الوجهين ، وهي عنده فعلى كـ : شروى .

                                                                                              و " عند " : من ظروف الأمكنة غير المتمكنة ، يقال لما ملك أو اختص به حاضرا كان أو غائبا ، ومثلها لدى ، إلا أنها تختص بالحاضر ، وفي " لدى " لغات ثمان مذكورة في كتب النحو .

                                                                                              و (قوله : " إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ") : " إذ " و " إذا " أصلهما ظرفان غير متمكنين ، يضافان إلى الجمل ، إلا أن " إذ " : لما مضى ، وتضاف للجملتين الفعلية والاسمية . و " إذا " : لما يستقبل ، ولا تضاف إلا إلى الفعلية ، وفيها معنى الشرط ، وليس ذلك في " إذ " ، إلا إذا دخلت عليها " ما " ; كقولهم :


                                                                                              إذ ما أتيت على الرسول فقل له . . . . . . .

                                                                                              وقد يقعان للمفاجأة ، كما وقعت " إذ " هاهنا . وأما " إذا " للمفاجأة ، ففي قوله تعالى : فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون [ الروم : 48 ] فـ " إذا " الأولى ظرفية ، والثانية مفاجئة ، ونحوه في القرآن كثير .

                                                                                              وفيه دليل على استحباب تحسين الثياب والهيئة والنظافة عند الدخول على العلماء والفضلاء والملوك ; فإن جبريل عليه السلام أتى معلما للناس بحاله ومقاله .

                                                                                              و (قوله : " لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ") ; هكذا مشهور رواية هذا [ ص: 138 ] اللفظ : " يرى " مبنيا لما لم يسم فاعله ، بالياء باثنتين من تحتها ، " ولا يعرفه " بالياء أيضا . وقد رواه أبو حازم العذري : " لا نرى عليه أثر السفر ولا نعرفه " بالنون فيهما ، مبنيا لفعل الجماعة ، وكلاهما واضح المعنى .

                                                                                              و (قوله : " حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه ، وقال : يا محمد " ) ; هكذا مشهور هذا الحديث في " الصحيحين " من حديث ابن عمر .

                                                                                              وقد روى النسائي هذا الحديث من حديث أبي هريرة ، وأبي ذر ، وزاد فيه زيادة حسنة ، فقالا : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلس بين ظهراني أصحابه فيجيء الغريب ، فلا يدري أهو هو حتى يسأل ، فطلبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه ، فبنينا له دكانا من طين يجلس عليه ، إنا لجلوس عنده ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مجلسه ; إذ أقبل رجل أحسن الناس وجها ، وأطيب الناس ريحا ، كأن ثيابه لم يمسها دنس ، حتى سلم من طرف السماط ، فقال : السلام عليكم يا محمد ، فرد عليه السلام ، قال : أدنو يا محمد ؟ قال : ادنه ، فما زال يقول : أدنو ؟ " مرارا " ، ويقول له : ادن ، حتى وضع يديه على ركبتي النبي - صلى الله عليه وسلم - . . . وذكر نحو حديث مسلم .

                                                                                              ففيه من الفقه : ابتداء الداخل بالسلام على جميع من دخل عليه ، وإقباله [ ص: 139 ] على رأس القوم ; فإنه قال : السلام عليكم ، فعم ، ثم قال : يا محمد ، فخص .

                                                                                              وفيه : الاستئذان في القرب من الإمام مرارا ، وإن كان الإمام في موضع مأذون في دخوله . وفيه : ترك الاكتفاء بالاستئذان مرة أو مرتين على جهة التعظيم والاحترام .

                                                                                              وفيه : جواز اختصاص العالم بموضع مرتفع من المسجد ، إذا دعت إلى ذلك ضرورة تعليم أو غيره . وقد بين فيه : أن جبريل وضع يديه على ركبتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فارتفع الاحتمال الذي في لفظ " كتاب مسلم " ; فإنه قال فيه : فوضع كفيه على فخذيه ، وهو محتمل ، وإنما فعل جبريل ذلك - والله أعلم - ; تنبيها على ما ينبغي للسائل من قوة النفس عند السؤال ، وعدم المبالاة بما يقطع عليه خاطره ، وإن كان المسؤول ممن يحترم ويهاب ، وعلى ما ينبغي للمسؤول من التواضع والصفح عن السائل ، وإن تعدى على ما ينبغي من الاحترام والأدب . ونداء جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما يناديه الأعراب : يا محمد ، تعمية على حاله .

                                                                                              الإسلام في اللغة هو : الاستسلام والانقياد ; ومنه قوله تعالى : قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا [ الحجرات : 14 ] أي : انقدنا ، وهو في الشرع : الانقياد بالأفعال الظاهرة الشرعية ، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أنس عنه : " الإسلام علانية ، والإيمان في القلب " ; ذكره ابن أبي شيبة في مصنفه .

                                                                                              والإيمان لغة : هو التصديق مطلقا ، وفي الشرع : التصديق بالقواعد الشرعية ; كما نبه عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، في حديث أنس هذا .

                                                                                              [ ص: 140 ] وقد تنافس علماء الأصول في هذه الأسماء الشرعية تنافسا لا طائل له ، إذا حقق الأمر فيه ; وذلك أنهم متفقون على أنها لا يستفاد منها في الشرع زيادة على أصل الوضع ، وهل ذلك المعنى يصير تلك الأسماء موضوعة كالوضع الابتدائي من قبل الشرع ، أو هي مبقاة على الوضع اللغوي ، والشرع إنما تصرف في شروطها وأحكامها ، هنا تنافسهم في الأمر قريب .

                                                                                              والحاصل : أن الشرع تصرف في حال هذه الأسماء التي في أصل وضعها ، فخصص عاما ، كالحال في الإسلام والإيمان ; فإنهما بحكم الوضع يعمان كل انقياد ، وكل تصديق ، لكن قصرها الشرع على تصديق مخصوص وانقياد مخصوص ; وكذلك فعلت العرب في لغتها في الأسماء العرفية ، كالدابة : فإنها في الأصل لكل ما يدب ، ثم عرفهم خصصها ببعض ما يدب ; فالأسماء الشرعية كالأسماء العرفية في هذا التصرف ، والله أعلم .

                                                                                              وقد استفدنا من هذا البحث : أن الإيمان والإسلام حقيقتان متباينتان لغة وشرعا ; كما دل عليه حديث جبريل هذا وغيره ; وهذا هو الأصل في الأسماء المختلفة - أعني : أن يدل كل واحد منها على خلاف ما يدل عليه الآخر - غير أنه قد توسع الشرع فيهما : فأطلق اسم الإيمان على حقيقة الإسلام ; كما في حديث وفد عبد القيس الآتي بعد هذا ، وكقوله : " الإيمان بضع وسبعون بابا ، أدناها إماطة الأذى عن الطريق ، وأرفعها قول : لا إله إلا الله " . وقد أطلق الإسلام مريدا به مسمى الإسلام والإيمان ، بمعنى التداخل ، كقوله تعالى : إن الدين عند الله الإسلام [ آل عمران : 19 ] .

                                                                                              [ ص: 141 ] وقد أطلق الإيمان كذلك أيضا ; كما روي من حديث علي مرفوعا : " الإيمان اعتقاد بالقلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان " .

                                                                                              وهذه الإطلاقات الثلاث من باب التجوز والتوسع على عادة العرب في ذلك ، وهذا إذا حقق يريح من كثير من الإشكال الناشئ من ذلك الاستعمال .

                                                                                              والصلاة لغة : الدعاء ; ومنه قوله تعالى : وصل عليهم [ التوبة : 103 ] أي : ادع ; قال الأعشى :


                                                                                              عليك مثل الذي صليت فاغتمضي نوما فإن لجنب المرء مضطجعا

                                                                                              وقيل : إنها مأخوذة من الصلا ، والصلا : عرق عند أصل الذنب ، ومنه قيل للفرس الثاني في الحلبة : مصل ; لأن رأسه عند صلا السابق ; قال الشاعر :


                                                                                              فصلى أبوه له سابق بأن قيل : فات العذار العذارا

                                                                                              والأول : أولى وأشهر . وهي في الشرع : أفعال مخصوصة ، بشروط مخصوصة ، الدعاء جزء منها .

                                                                                              والزكاة لغة : هي النماء والزيادة ، يقال : زكا الزرع والمال ، وسمي أخذ جزء من مال المسلم الحر زكاة ; لأنها إنما تؤخذ من الأموال النامية ، أو لأنها قد نمت وبلغت النصاب ، أو لأنها تنمي الأموال بالبركة ، وحسنات مؤديها بالتكثير .

                                                                                              [ ص: 142 ] والصوم : هو الإمساك مطلقا ; ومنه قوله تعالى : إني نذرت للرحمن صوما [ مريم : 2 ] ، أي : إمساكا عن الكلام ; قال الشاعر :


                                                                                              خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما

                                                                                              أي : ممسكة عن الحركة .

                                                                                              وهو في الشرع : إمساك جميع أجزاء اليوم عن أشياء مخصوصة ، بشرط مخصوص ، على ما يأتي .

                                                                                              والحج : هو القصد المتكرر في اللغة ; قال الشاعر :


                                                                                              وأشهد من عوف حلولا كثيرة يحجون سب الزبرقان المزعفرا

                                                                                              وهو في الشرع : القصد إلى بيت الله المعظم ; لفعل عبادة مخصوصة .

                                                                                              والحج بالفتح : المصدر ، وبالكسر : الاسم ، وقرئ بهما : ولله على الناس حج البيت [ آل عمران : 97 ] .

                                                                                              والاستطاعة : هي القوة على الشيء ، والتمكن منه ; ومنه قوله تعالى : فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا [ الكهف : 97 ] ، وسيأتي اختلاف العلماء فيها .

                                                                                              والإحسان : هو مصدر أحسن يحسن إحسانا ، ويقال على معنيين :

                                                                                              [ ص: 143 ] أحدهما : متعد بنفسه ; كقولك : أحسنت كذا وفي كذا ، إذا حسنته وكملته ، وهو منقول بالهمزة من حسن الشيء .

                                                                                              وثانيهما : متعد بحرف جر ; كقولك : أحسنت إلى كذا ، أي : أوصلت إليه ما ينتفع به ، وهو في هذا الحديث بالمعنى الأول ، لا بالمعنى الثاني ; إذ حاصله راجع إلى إتقان العبادات ، ومراعاة حقوق الله تعالى فيها ، ومراقبته ، واستحضار عظمته وجلاله حالة الشروع ، وحالة الاستمرار فيها .

                                                                                              وأرباب القلوب في هذه المراقبة على حالين :

                                                                                              أحدهما : غالب عليه مشاهدة الحق ، فكأنه يراه ; ولعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى هذه الحالة بقوله : وجعلت قرة عيني في عبادة ربي .

                                                                                              وثانيهما : لا ينتمي إلى هذه الحالة ، لكن يغلب عليه أن الحق سبحانه مطلع عليه ومشاهد له ; وإليه الإشارة بقوله تعالى : الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين [ الشعراء : 218 - 219 ] وبقوله : وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه [ يونس : 61 ] .

                                                                                              وهاتان الحالتان ثمرة معرفة الله تعالى وخشيته ; ولذلك فسر الإحسان في حديث أبي هريرة بقوله : " أن تخشى الله كأنك تراه " ; فعبر عن المسبب باسم السبب توسعا ، والألف واللام اللذان في الإحسان المسؤول عنه للعهد ، وهو الذي قال الله تعالى فيه : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ يونس : 26 ] ، و : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان [ الرحمن : 60 ] ، و : وأحسنوا إن الله يحب المحسنين [ البقرة : ] .

                                                                                              [ ص: 144 ] ولما تكرر الإحسان في القرآن ، وترتب عليه هذا الثواب العظيم ، سأل عنه جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأجابه ببيانه ; ليعمل الناس عليه ، فيحصل لهم هذا الحظ العظيم .

                                                                                              وسؤال جبريل عليه السلام عن الإيمان والإسلام بلفظ : " ما " كما في حديث أبي هريرة ، يدل على أنه إنما سأل عن حقيقتهما عنده ، لا عن شرح لفظهما في اللغة ، ولا عن حكمهما ; لأن " ما " في أصلها إنما يسأل بها عن الحقائق والماهيات . ولذلك أجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " أن تؤمن بالله " وبكذا وكذا ; فلو كان سائلا عن شرح لفظهما في اللغة لما كان هذا جوابا له ; لأن المذكور في الجواب هو المذكور في السؤال ، ولما كان الإيمان في اللغة معلوما عندهما ، أعاد في الجواب لفظه ، وبين له متعلقاته ، وأنه قصره على تصديق بأمور مخصوصة .

                                                                                              والإيمان بالله : هو التصديق بوجوده تعالى ، وأنه لا يجوز عليه العدم ، وأنه تعالى موصوف بصفات الجلال والكمال من : العلم ، والقدرة ، والإرادة ، والكلام ، والسمع ، والبصر ، والحياة ، وأنه تعالى منزه عن صفات النقص التي هي أضداد تلك الصفات ، وعن صفات الأجسام والمتحيزات ، وأنه واحد صمد ، فرد ، خالق جميع المخلوقات ، متصرف فيها بما يشاء من التصرفات ، يفعل في ملكه ما يريد ، ويحكم في خلقه ما يشاء .

                                                                                              والإيمان بالملائكة : هو التصديق بأنهم : عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون [ الأنبياء : 26 - 27 ] ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [ التحريم : 6 ] [ ص: 145 ] ، و : يسبحون الليل والنهار لا يفترون [ الأنبياء : 20 ] ، وأنهم سفراء الله بينه وبين رسله ، والمتصرفون كما أذن لهم في خلقه .

                                                                                              والإيمان برسل الله : هو أنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى ، وأن الله تعالى أيدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم ، وأنهم بلغوا عن الله رسالاته ، وبينوا للمكلفين ما أمرهم الله بنيانه ، وأنه يجب احترامهم ، وألا يفرق بين أحد منهم .

                                                                                              والإيمان باليوم الآخر : هو التصديق بيوم القيامة ، وما اشتمل عليه من الإعادة بعد الموت ، والنشر ، والحشر ، والحساب والميزان والصراط ، والجنة والنار ، وأنهما دارا ثوابه وجزائه للمحسنين والمسيئين ، إلى غير ذلك مما صح نصه ، وثبت نقله .

                                                                                              والإيمان بالقدر : هو التصديق بما تقدم ذكره ، وحاصله : هو ما دل عليه قوله تعالى : والله خلقكم وما تعملون [ الصافات : 96 ] وقوله : إنا كل شيء خلقناه بقدر [ القمر : 49 ] وقوله : وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ الإنسان : 30 ] وإجماع السلف والخلف على صدق قول القائل : ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " كل شيء بقدر حتى العجز والكيس " .

                                                                                              تنبيه :

                                                                                              مذهب السلف وأئمة الفتوى من الخلف : أن من صدق بهذه الأمور تصديقا جزما لا ريب فيه ولا تردد ولا توقف ، كان مؤمنا حقيقة ، وسواء كان ذلك عن براهين ناصعة ، أو عن اعتقادات جازمة .

                                                                                              [ ص: 146 ] على هذا انقرضت الأعصار الكريمة ، وبها صرحت فتاوى أئمة الهدى المستقيمة ، حتى حدثت مذاهب المعتزلة المبتدعة ، فقالوا : إنه لا يصح الإيمان الشرعي إلا بعد الإحاطة بالبراهين العقلية والسمعية ، وحصول العلم بنتائجها ومطالبها ، ومن لم يحصل إيمانه كذلك فليس بمؤمن ، ولا يجزئ إيمانه بغير ذلك ; وتبعهم على ذلك جماعة من متكلمي أصحابنا ; كالقاضي أبي بكر ، وأبي إسحاق الإسفراييني ، وأبي المعالي في أول قوليه .

                                                                                              والأول هو الصحيح ; إذ المطلوب من المكلفين ما يقال عليه : إيمان ; كقوله تعالى : آمنوا بالله ورسوله [ النساء : 136 ] ، ومن لم يؤمن بالله ورسوله [ الفتح : 13 ] .

                                                                                              والإيمان : هو التصديق لغة وشرعا ; فمن صدق بذلك كله ، ولم يجوز نقيض شيء من ذلك : فقد عمل بمقتضى ما أمره الله به على نحو ما أمره الله تعالى ، ومن كان كذلك ، فقد تقصى عن عهدة الخطاب ; إذ قد عمل بمقتضى السنة والكتاب ، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بعده حكموا بصحة إيمان كل من آمن وصدق بما ذكرناه ، ولم يفرقوا بين من آمن عن برهان أو عن غيره ; ولأنهم لم يأمروا أجلاف العرب بترديد النظر ، ولا سألوهم عن أدلة تصديقهم ، ولا أرجؤوا إيمانهم حتى ينظروا ، وتحاشوا عن إطلاق الكفر على أحد منهم ، بل سموهم المؤمنين والمسلمين ، وأجروا عليهم أحكام الإيمان والإسلام ، ولأن البراهين التي حررها المتكلمون ، ورتبها الجدليون ، إنما أحدثها المتأخرون ، ولم يخض في شيء من تلك الأساليب السلف الماضون ; فمن المحال والهذيان : أن يشترط في صحة الإيمان ، ما لم يكن معروفا ولا معمولا به لأهل ذلك الزمان ، وهم من هم فهما عن الله ، وأخذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبليغا لشريعته ، وبيانا لسنته وطريقته ، وسيأتي قول شاف في ذلك إن شاء الله .

                                                                                              [ ص: 147 ] والملائكة : جمع ملك ، وقد اختلف في اشتقاقه ووزنه ; فقال ابن شميل : لا اشتقاق له ، وقال ابن كيسان : وزنه : فعل من الملك ، وقال أبو عبيدة : هو مفعل من : لأك ، أي : أرسل ، وقال غيره : إنه مأخوذ من الألوكة ، وهي الرسالة ، فكأنها تؤلك في الفم ، قال لبيد :


                                                                                              وغلام أرسلته أمه بألوك فبذلنا ما سأل

                                                                                              فأصله على هذا : مألك ; فالهمزة فاء الفعل ، لكنهم قلبوها إلى عينه ، فقالوا : ملأك ، ثم سهلوه ، فقالوا : ملاك ، وقد جاء على أصله في الشعر ; قال :


                                                                                              فلست لإنسي ولكن لملأك تنزل من جو السماء يصوب

                                                                                              وقيل : هو ملك من ملك ، نحو : شمل من شمل .

                                                                                              والساعة في أصل الوضع : مقدار ما من الزمان ، غير معين ولا محدود ; لقوله تعالى : ما لبثوا غير ساعة [ الروم : 55 ] .

                                                                                              وفي عرف أهل الشرع : عبارة عن يوم القيامة . وفي عرف المعدلين : جزء من أربعة وعشرين جزءا من أوقات الليل والنهار .

                                                                                              والأشراط : هي الأمارات والعلامات ; ومنه قوله تعالى : فقد جاء أشراطها [ محمد : 18 ] وبها سمي الشرط ; لأنهم يعلمون أنفسهم بعلامات يعرفون بها .

                                                                                              [ ص: 148 ] والأمة هنا هي : الجارية المستولدة ، وربها سيدها ، وقد سمي بعلا في الرواية الأخرى ، كما سماه الله تعالى بعلا في قوله : أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين [ الصافات : 125 ] . في قول ابن عباس ، وحكي عنه أنه قال : لم أدر ما البعل حتى قلت لأعرابي : لمن هذه الناقة ؟ فقال : أنا بعلها . وقد سمي الزوج بعلا ، ويجمع : بعولة ; كما قال تعالى : وبعولتهن أحق بردهن في ذلك [ البقرة : 228 ] ، وهذا بعلي شيخا [ هود : 72 ] وربتها : تأنيث رب .

                                                                                              واختلف في معنى (قوله : " أن تلد الأمة ربتها ") على ثلاثة أقوال :

                                                                                              أحدها : أن المراد به : أن يستولي المسلمون على بلاد الكفر ، فيكثر التسري ; فيكون ولد الأمة من سيدها بمنزلة سيدها ; لشرفه بأبيه ، وعلى هذا : فالذي يكون من أشراط الساعة : استيلاء المسلمين على المشركين ، وكثرة الفتوح والتسري .

                                                                                              وثانيها : أن يبيع السادة أمهات أولادهم ، ويكثر ذلك ; فتتداول الأمهات المستولدة ، فربما يشتريها ولدها أو ابنتها ولا يشعر بذلك ; فيصير ولدها ربها ، وعلى هذا : فالذي يكون من الأشراط : غلبة الجهل بتحريم بيع أمهات الأولاد ، والاستهانة بالأحكام الشرعية ; وهذا على قول من يرى تحريم بيع أمهات الأولاد ، وهم الجمهور ; ويصح أن يحمل ذلك على بيعهن في حال حملهن ، وهو محرم بالإجماع .

                                                                                              وثالثها : أن يكثر العقوق في الأولاد ، فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة والسب ; ويشهد لهذا قوله في حديث أبي هريرة : " المرأة " مكان " الأمة " . وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تقوم الساعة حتى يكون الولد غيظا " .

                                                                                              [ ص: 149 ] و (قوله : " وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ") .

                                                                                              الحفاة : جمع حاف ، وهو الذي لا يلبس في رجله شيئا . والعراة : جمع عار ، وهو الذي لا يلبس على جسده ثوبا . والعالة مخففة اللام : جمع عائل ، وهو الفقير ، والعيلة : الفقر ; يقال : عال الرجل يعيل عيلة : إذا افتقر ، وأعال يعيل : إذا كثر عياله ، وهذه الأوصاف هي غالبة على أهل البادية ، وقد وصفهم في حديث أبي هريرة بأنهم صم بكم عمي ، ويعني بذلك - والله تعالى أعلم - : أنهم جهلة رعاع ، لم يستعملوا أسماعهم ولا كلامهم في علم ولا في شيء من أمر دينهم ، وهذا نحو قوله تعالى : صم بكم عمي فهم لا يعقلون [ البقرة : 171 ] ; أطلق ذلك عليهم مع أنهم كانت لهم أسماع وأبصار ، ولكنهم لما لم تحصل لهم ثمرات تلك الإدراكات ، صاروا كأنهم عدموا أصلها ، وقد أوضح هذا المعنى قوله تعالى : لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون [ الأعراف : 179 ] .

                                                                                              ومقصود هذا الحديث : الإخبار عن تبدل الحال وتغيره ; بأن يستولي أهل البادية الذين هذه صفاتهم على أهل الحاضرة ، ويتملكوا بالقهر والغلبة ، فتكثر أموالهم ، وتتسع في حطام الدنيا آمالهم ، فتنصرف هممهم إلى تشييد المباني ، وهدم الدين وشريف المعاني ، وأن ذلك إذا وجد ، كان من أشراط الساعة .

                                                                                              ويؤيد هذا : ما ذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع " وقد شوهد هذا كله عيانا ، فكان ذلك على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى قرب الساعة حجة [ ص: 150 ] وبرهانا ، وفيه : دليل على كراهية ما لا تدعو الحاجة إليه من تطويل البناء وتشييده ; وقد قال - عليه الصلاة والسلام - : " يؤجر ابن آدم في كل شيء إلا ما يضعه في هذا التراب " ومات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يضع حجرا على حجر ، ولا لبنة على لبنة ، أي : لم يشيد بناء ، ولا طوله ، ولا تأنق فيه .

                                                                                              والرعاء : جمع راع ، وأصل الرعي : الحفظ . والشاء : جمع شاة ، وهو من الجمع الذي بينه وبين واحده الهاء ، وهو كثير فيما كان خلقة لله تعالى ; كشجرة وشجر ، وثمرة وثمر ، وإنما خص رعاء الشاء بالذكر ; لأنهم أضعف أهل البادية .

                                                                                              والبهم بفتح الباء : جمع بهيمة ، وأصلها : صغار الضأن والمعز ، وقد يختص بالمعز ، وأصله من استبهم عن الكلام ، ومنه البهيمة .

                                                                                              ووقع في البخاري : " رعاء الإبل البهم " بضم الباء ، جمع بهم ، وهو : الأسود الذي لا يخالطه لون آخر ، وقيدت ميم البهم بالكسر والضم ، فمن كسرها جعلها صفة للإبل ، ومن رفعها جعلها صفة للرعاء ، وقيل : معناه : لا شيء لهم ; كما قال - عليه الصلاة والسلام - : " يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا " .

                                                                                              قال المؤلف رحمه الله تعالى : وهذا التأويل فيه نظر ; لأنه قد نسب لهم إبلا ، وظاهرها الملك ، وقال الخطابي : هو جمع بهيم ، وهو المجهول الذي لا يعرف . قال المؤلف رحمه الله تعالى : والأولى أن يحمل على أنهم سود الألوان ; لأن الأدمة غالبة على ألوانهم ، ورواية مسلم في رعاء البهم من غير ذكر الإبل أولى ; لأنها الأنسب لمساق الحديث ولمقصوده ; فإن مقصوده ، أن أضعف [ ص: 151 ] أهل البادية وهم رعاء الشاء ، سينقلب بهم الحال إلى أن يصيروا ملوكا مع ضعفهم وبعدهم عن أسباب ذلك ، وأما أصحاب الإبل فهم أهل الفخر والخيلاء ; فإن الإبل عز أهلها ، ولأن أهل الإبل ليسوا عالة ولا فقراء غالبا .

                                                                                              و ( قوله : " وتؤمن بالبعث الآخر " ) وصف البعث بالآخر يحتمل أن يكون على جهة التأكيد ، كما قالوا : أمس الدابر ، وأمس الذاهب . ويحتمل أن يقال : إن البعث : إحياء بعد إماتة ، وقد فعل الله ذلك مرتين ; فأحيانا بعد أن كنا نطفا وعلقا ومضغا وهي أموات ، ثم يحيينا ليوم القيامة وهو البعث الآخر ; كما قال الله تعالى : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم [ البقرة : 28 ] قال أهل التفسير : أمواتا في حال كوننا نطفا وعلقا في الأرحام ، ثم نفخ الروح وأحيا .

                                                                                              و (قوله : " فعجبنا له يسأله ويصدقه ") ; إنما تعجبوا من ذلك ; لأن ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف إلا من جهته ، وليس هذا السائل ممن عرف بلقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا بالسماع منه ، ثم هو قد سأل سؤال عارف محقق مصدق ; فتعجبوا من ذلك تعجب المستبعد لأن يكون أحد يعرف تلك الأمور المسؤول عنها من غير جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                              و ( قوله : " فلبث مليا " ) أي : أقام بعد انصرافه حينا ، يعني : النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويروى : فلبثت بتاء مضمومة للمتكلم ، فيكون عمر هو الذي أخبر بذلك عن نفسه ، وكلاهما صحيح المعنى .

                                                                                              [ ص: 152 ] و ( قوله : " إنه جبريل ") دليل على أن الله تعالى مكن الملائكة من أن يتمثلوا فيما شاؤوا من صور بني آدم ; كما قد نص الله تعالى على ذلك في قوله تعالى : فتمثل لها بشرا سويا .

                                                                                              وقد كان جبريل يتمثل للنبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة دحية بن خليفة ، وقد كان لجبريل صورة خاصة خلق عليها لم يره النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها غير مرتين ; كما صح الحديث بذلك ; وهذا يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرف جبريل لكن في آخر الأمر ، فأما قبل ذلك ، فقد جاء في كتاب البخاري : التصريح بأنه لم يعرف أنه جبريل إلا في آخر الأمر .

                                                                                              و ( قوله : " أتاكم يعلمكم دينكم " ) أي : قواعد دينكم ، أو كليات دينكم ; قال القاضي : وهذا الحديث قد اشتمل على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة ; من عقود الإيمان ، وأعمال الجوارح ، وإخلاص السرائر ، والتحفظ من آفات الأعمال ، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ، ومتشعبة منه .

                                                                                              قال المؤلف - رحمه الله تعالى - : فيصلح هذا الحديث أن يقال فيه : إنه أم السنة ; لما تضمنه من جمل علم السنة ، كما سميت الفاتحة : أم الكتاب ; لما تضمنته من جمل معاني القرآن ، كما سيأتي بيانها ، إن شاء الله تعالى .




                                                                                              الخدمات العلمية