الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              579 خير النساج

              وأما أبو الحسن خير النساج ، كان من أهل سامرا ، سكن بغداد وصحب أبا حمزة والسري السقطي ، له الحظ الجسيم في الكرامات .

              سمعت علي بن هارون -صاحب الجنيد - يحكي عن غير واحد من أصحابه ممن حضر موته قال : غشي عليه عند صلاة المغرب ، ثم أفاق فنظر إلى ناحية من باب البيت ، فقال : قف عافاك الله ، فإنما أنت عبد مأمور ، ما أمرت به لا يفوتك ، وما أمرت به يفوتني ، فدعني أمضي لما أمرت به ثم امض أنت لما أمرت به ، فدعا بماء فتوضأ للصلاة وصلى ثم تمدد وغمض عينيه وتشهد فمات رحمه الله ، فرآه بعض أصحابه في المنام فقال له : ما فعل الله بك ؟ قال : لا تسألني عن هذا ولكن استرحت من دنياكم الوضرة .

              أخبرنا جعفر بن محمد بن نصير في كتابه قال : سألت خيرا النساج : أكان النسج حرفتك ؟ قال : لا ، قلت : فمن أين سميت به ؟ قال : كنت عاهدت الله واعتقدت أن لا آكل الرطب أبدا ، فغلبتني نفسي يوما فأخذت نصف رطل ، فلما أكلت واحدة إذا رجل نظر إلي ، وقال : يا خير يا آبق هربت مني ؟ - وكان له غلام هرب اسمه خير - فوقع علي شبهه وصورته ، فخنقني فاجتمع الناس فقالوا : هذا والله غلامك خير ، فبقيت متحيرا وعلمت بماذا أخذت ، وعرفت جنايتي ، فحملني إلى حانوته الذي فيه كان ينسج غلمانه وقالوا : يا عبد السوء تهرب من مولاك ؟ ادخل واعمل عملك الذي كنت تعمل ، وأمرني بنسج الكرباس ، فدليت رجلي على أن أعمل فأخذت بيدي آلته ، فكأني كنت أعمل من سنين ، فبقيت معه شهرا أنسج له ، فقمت ليلة فتمسحت وقمت إلى [ ص: 308 ] صلاة الغداة ، فسجدت وقلت في سجودي : إلهي لا أعود إلى ما فعلت ، فأصبحت وإذا الشبه ذهب عني وعدت إلى صورتي التي كنت عليها ، فأطلقت فثبت علي هذا الاسم ، فكان سبب النسج اتباعي شهوة عاهدت الله عز وجل أن لا آكلها ، فعاقبني الله بما سمعت ، وكان يقول : لا نسب أشرف من نسب من خلقه الله بيده فلم يعصمه ، ولا علم أرفع من علم من علمه الله الأسماء كلها فلم تنفعه في وقت جريان القضاء عليه ، ولا عبادة أتم ولا أكثر من عبادة إبليس فلم ينجه ذلك من أن صار إلى ما سبق له من الله تعالى ، وقال : توحيد كل مخلوق ناقص بقيامه بغيره ، وحاجته إلى غيره ، قال الله تعالى : ( ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ) المحتاجون إليه في كل نفس ( والله هو الغني ) عنكم وعن توحيدكم وأفعالكم ( الحميد ) الذي يقبل منك ما لا يحتاج إليه ويثيب على ما تحتاج إليه .

              أخبرني الحسن بن جعفر ، قال : أخبرني عبد الله بن إبراهيم الجريري ، قال : قال أبو الخير الديلمي : كنت جالسا عند خير النساج فأتته امرأة وقالت : أعطني المنديل الذي دفعته إليك ، قال : نعم ، فدفعه إليها ، فقالت : كم الأجرة ؟ قال : درهمان ، قالت : ما معي الساعة شيء ، وأنا قد ترددت إليك مرارا ولم أرك ، آتيك به غدا إن شاء الله ، فقال لها خير : إن أتيتني به ولم ترني فارم به في الدجلة فإني إذا رجعت أخذته ، فقالت المرأة : كيف تأخذ من الدجلة ؟ فقال خير : التفتيش فضول منك ، افعلي ما أمرتك ، فقالت : إن شاء الله ، فمرت المرأة ، قال أبو الخير : فجئت من الغد - وكان خير غائبا - فإذا بالمرأة جاءت ومعها خرقة فيها درهمان ، فلم تر خيرا فقعدت ساعة ، ثم قامت ورمت بالخرقة في الدجلة ، فإذا بسرطان قد تعلقت بالخرقة وغاصت ، فبعد ساعة جاء خير وفتح باب حانوته وجلس على الشط يتوضأ ، وإذا بسرطان خرجت من الماء تمشي نحوه والخرقة على ظهرها ، فلما قربت من الشيخ أخذها ، فقلت له : رأيت كذا وكذا ، فقال : أحب أن لا تبوح به في حياتي ، فأجبته إلى ذلك ، وقلت : نعم .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية