الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              581 سمنون بن حمزة

              قال الشيخ : ومنهم سمنون بن حمزة أبو الحسن الخواص ، وقيل : أبو بكر بصري ، سكن بغداد ومات قبل الجنيد ، سمى نفسه سمنون الكذاب ، وكان سبب ذلك أبياته التي قال فيها :

              [ ص: 310 ]

              فليس لي في سواك حظ فكيفما شئت فامتحني



              فحصر بوله من ساعته ، فسمى نفسه سمنون الكذاب .

              أخبرني عبد المنعم ، عن أبي بكر الواسطي ، قال : قال سمنون : يا رب قد رضيت بكل ما تقضيه علي ، فاحتبس بوله أربعة عشر يوما ، فكان يلتوي كما تلتوي الحية على الرمل يتقلب يمينا وشمالا ، فلما أطلق بوله ، قال : يا رب تبت إليك .

              وأنشدت عن جعفر ، عن سمنون :


              أنا راض بطول صدك عني     ليس إلا لأن ذاك هواكا


              فامتحن بالجفا صبري على     الود ودعني معلقا برجاكا



              ومن أبياته التي امتحن فيها : ما حدثناه عثمان بن محمد العثمان ، قال : أنشدني علي بن عبد الله بن سويد ، قال : أنشدنا محمد بن أحمد ، أن ابن الصباح قال : أنشدنا علي بن غياث البزاز ، قال : أنشدنا سمنون أبو الحسن ، أو أبو بكر البصري :


              أفديك بل قل أن يفديك ذو دنف     هل في المذلة للمشتاق من عار ؟


              بي منك شوق لو ان الصخر يحمله     تفطر الصخر عن مستوقد النار


              قد دب حبك في الأعضاء من جسدي     دبيب لفظي من روحي وإضماري


              ولا تنفست إلا كنت مع نفسي     وكل جارحة من خاطري جاري



              قال : وأنشدنا أيضا سمنون لنفسه :


              شغلت قلبي عن الدنيا ولذتها     فأنت والقلب شيء غير مفترق


              وما تطابقت الأحداق من سنة     إلا وجدتك بين الجفن والحدق



              وأنشدني عثمان بن محمد ، قال : أنشدني أبو علي الحسن بن أحمد الصوفي لسمنون :


              ولو قيل طأ في النار أعلم أنه     رضا لك أو مدن لنا من وصالكا


              لقدمت رجلي نحوها فوطئتها     سرورا لأني قد خطرت ببالكا



              وأنشدني عثمان ، قال : أنشدني علي بن عبد الله بن سويد ، قال : حدثني محمد بن حمدان ، قال : رأيت سمنون ، وقد أدخل رأسه في زر نافقته ، وعليه جربان من أدم ، ثم أخرج رأسه بعد ساعة وزفر ، وقال :

              [ ص: 311 ]

              تركت الفؤاد عليلا يعاد     وشردت نومي فما لي رقاد



              وأنشدني محمد بن الحسين بن موسى ، قال : أنشدنا محمد بن عبد الله بن عبد العزيز ، قال : أنشدنا أبو جعفر الفرغاني ، قال : أنشدنا سمنون البصري :


              أحن بأطراف النهار صبابة     وبالليل يدعوني الهوى فأجيب


              وأيامنا تفنى وشوقي زائد     كأن زمان الشوق ليس يغيب



              سمعت محمد بن الحسين ، يقول : سمعت أبا بكر الرازي ، يقول : سمعت أبا بكر العجان ، يقول : سمعت سمنون ، يقول : إذا بسط الجليل غدا بساط المجد دخل ذنوب الأولين والآخرين في حاشية من حواشيه ، وإذا أبدى عينا من عيون الجود ألحق المسيء بالمحسن .

              أخبرت عن عمر بن رفيل -وقد لقيته بجرجوايا - قال : سمعت أبا القاسم الهاشمي يقول : كنت في بيت المقدس في برد شديد وعلي جبة وكساء وأخذ البرد والثلج يسقط ، فرأيت شابا عليه خرقتان في صحراء يمشي ، فقلت : يا حبيبي لو استترت ببعض هذه الأروقة فتكنك من البرد ، فقال لي : يا أخي سمنون :


              ويحسن ظني أنني في فنائه     وهل أحد في كنه يجد القرا

              أخبرني جعفر بن محمد بن نصير - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم ، قال : قال أبو أحمد القلانسي : فرق رجل ببغداد على الفقراء أربعين ألف درهم ، فقال لي سمنون : يا أبا أحمد ، ما ترى ما أنفق هذا وما قد عمله ، نحن ما نرجع إلى شيء ننفقه ، فامض بنا إلى موضع نصلي فيه بكل درهم أنفقه ركعة ، فذهبنا إلى المدائن فصلينا أربعين ألف ركعة ، وزرنا قبر سلمان وانصرفنا ، وكان يقول : أول وصل العبد هجرانه لنفسه ، وأول هجران العبد للحق تعالى مواصلته لنفسه ، وكان يقول : مضى الوقت فصار الوقت مقتا ، وقتك خراب وقلبك في المحراب ، ومن كانت عبادته عناء كانت ثمرته ضناء .

              ومنهم المشهورون بالنسك والتعبد السالكون مسلك أوليائهم من المتعبدين ، الذين تخرجوا على المتحققين ، وراضوا أنفسهم رياضة العلماء [ ص: 312 ] المتقين ، كعلي بن الموفق ، وأبي عثمان الوراق ، وأيوب الحمال ، وأبي عبد الله الجلاء ، رحمهم الله .

              كانت بواطنهم بالمشاهدة عامرة ، وظواهرهم عن المناظرة والمذاكرة شاغلة ، فلم ينقل عنهم غير الأحوال المكنية اللطيفة .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية