الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الباب الثاني فيما تثبت به السرقة

                                                                                                                                                                        تثبت بثلاث حجج ، إحداها : اليمين المردودة ، فإذا ادعى عليه سرقة توجب القطع ، فأنكر وحلف ، فلا شيء عليه ، وإن نكل ، ردت اليمين على المدعي ، فإذا حلف ، وجب المال والقطع ، هكذا نقله الإمام عن الأصحاب ، وكذا ذكره الغزالي وإبراهيم المروذي ؛ لأن اليمين المردودة كالإقرار وكالبينة ، وكلاهما يوجب القطع ، والذي ذكره صاحبا " الشامل " و " البيان " وغيرهما أنه لا يثبت بها القطع ؛ لأنه حق الله تعالى ، فأشبه ما لو قال : أكره أمتي على الزنى ، فحلف المدعي بعد نكول المدعى عليه ، يثبت المهر دون حد الزنى .

                                                                                                                                                                        قلت : صحح الرافعي في " المحرر " الأول . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الحجة الثانية : الإقرار ، فإذا أقر بسرقة توجب القطع ، أجري عليه حكمها ، ولا يشترط تكرير الإقرار ، فلو أقر ثم رجع ، فالمذهب أنه لا يقبل في المال ، وأنه يقبل في سقوط القطع ، فلو رجع بعد قطع بعض اليد ، سقط الباقي ، فإن كان يرجى برؤه ، فذاك وإلا فللمقطوع قطع الباقي لئلا يتأذى به ، ولا يلزم الإمام ذلك . ولو أقر اثنان بسرقة نصابين ، ثم رجع أحدهما ، سقط القطع دون الآخر ، والرجوع عن الإقرار بقطع الطريق ، كالرجوع عن الإقرار بالسرقة ، ولو أقر بإكراه أمة على الزنى ، ثم رجع ، فالمذهب سقوط الحد دون المهر .

                                                                                                                                                                        [ ص: 144 ] فرع

                                                                                                                                                                        إذا أقر ابتداء من غير تقدم دعوى بأنه سرق من زيد الغائب سرقة توجب القطع ، فهل يقطع في الحال ، أم ينتظر حضور زيد ومطالبته ؟ وجهان ، أصحهما : الثاني ؛ لأنه ربما حضر ، وأقر أنه كان أباحه المال ، فيسقط الحد وإن كذبه السارق ، والحد يسقط بالشبهة ، فتأخيره أولى ، ولو بإكراه جارية غائب على الزنى فوجهان ، أصحهما : يحد للزنى ولا يؤخر ؛ لأنه لا يتوقف على طلبه ، ولو حضر وقال : كنت أبحتها له ، لم يسقط الحد ، وقال ابن سريج : يؤخر لاحتمال أنه يقر بأنه وقف عليه تلك الجارية ، قال الإمام : وعلى الأول لو قال المالك : كنت بعتها ، أو وهبتها ، وأنكر المقر ، ينبغي أن لا يسقط الحد ، وعلى قياسه ينبغي أن لا يسقط الحد إذا أقر بوقف الجارية ، وكذبه المقر .

                                                                                                                                                                        قلت : ليس الوقف كالبيع ، فإنه يصح بلا قبول على المختار . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وإذا قلنا : لا يقطع حتى يحضر الغائب ، فهل يحبس ؟ فيه أوجه ، أحدها : نعم ، كمن أقر بقصاص لغائب أو صبي ، والثاني : إن قصرت المسافة وتوقع قدومه على قرب ، حبس ، وإلا فلا ، والثالث : إن كانت العين تالفة ، حبس للغرم ، وإن كانت باقية ، أخذت منه ، ثم يفرق بين طول المسافة وقصرها ، ولو أقر بغصب مال غائب ، لم يحبس ؛ لأن الحاكم لا مطالبة له بمال الغائب .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو أقر عبد بسرقة موجبة للقطع ، قطع وفي قبوله في المال أقوال ، أظهرها : لا يقبل ، والثاني : يقبل ، والثالث : إن كان المال في يده ، قبل ، وإن [ ص: 145 ] تلف ، فلا ، والرابع : عكسه ، هذا إذا كان المال في يده ، أما إذا كان في يد السيد ، أو أجنبي ، فلا يقبل إقراره فيه بلا خلاف ، ولو أقر بسرقة دون النصاب ، لم يقبل بلا خلاف إلا أن يصدقه سيده .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        متى رفع إلى مجلس القضاء ، واتهم بما يوجب عقوبة لله تعالى ، فللقاضي أن يعرض له بالإنكار ، ويحمله عليه ، فلو أقر بذلك ابتداء ، أو بعد الدعوى ، فهل يعرض له بالرجوع ؟ فيه أوجه ، الصحيح الذي قطع به عامة الأصحاب : نعم ، للحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لماعز - رضي الله عنه - بعد إقراره بالزنى : " لعلك قبلت " والثاني : لا ، ونقله الإمام عن الجمهور ، وليس كما قال ، والثالث : إن لم يكن عالما بجواز الرجوع ، عرض له ، وإلا فلا ، فعلى الأول هل يستحب للقاضي التعريض ؟ وجهان ، أحدهما : نعم ، للحديث ، وأصحهما : لا ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك التعريض في أكثر الأوقات . والتعريض في الزنى : لعلك فاخذت ، أو لمست ، أو قبلت . وفي شرب الخمر : لعلك لم تعلم أن ما شربته مسكر . وفي السرقة : لعلك غصبت ، أو أخذت بإذن المالك ، أو من غير حرز ونحوها ، ولا يحمله القاضي على الرجوع تصريحا بأن يقول : ارجع عن الإقرار ، أو اجحده ، وإذا ثبت الحد بالبينة لا يحمله على الإنكار ، وأما حقوق الآدمي ، فلا يعرض له بالرجوع عن الإقرار بها ، حتى لا يعرض في السرقة بما يسقط الغرم ، إنما يسعى في دفع القطع ، وهل للحاكم أن يعرض للشهود بالتوقف في حدود الله تعالى ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        قلت : أصحهما : نعم إن رأى المصلحة في الستر ، وإلا فلا . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 146 ] فرع

                                                                                                                                                                        قال الإمام : في الحديث " من أتى شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله " : هذا دليل على أنه لا يجب على من قارف موجب حد إظهاره للإمام ، قال : وكان شيخي يقطع به ، وفيه احتمال إذا قلنا : الحد لا يسقط بالتوبة .

                                                                                                                                                                        قلت : الصواب : الجزم بأنه لا يجب الإظهار لقصة ماعز ، وإنما لا يسقط الحد بالتوبة على قول في ظاهر الحكم ، وأما فيما بينه وبين الله تعالى ، فالتوبة تسقط أثر المعصية . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الحجة الثالثة : الشهادة ، فيثبت القطع بشهادة رجلين ، ولا يثبت برجل وامرأتين ، فلو شهد رجل وامرأتان بالسرقة ، أو شاهد وحلف المدعي معه ، ثبت المال ولا يثبت القطع ، كما لو علق الطلاق أو العتق على غصب أو سرقة ، فشهد رجل وامرأتان على الغصب أو السرقة ، ثبت المال دون الطلاق والعتق ، وقيل : في ثبوت المال في السرقة قولان ، والمذهب الأول ، ولا تقبل في السرقة شهادة مطلقة لاختلاف المذاهب فيها ، فيشترط بيان السارق بالإشارة إليه إن كان حاضرا ، أو ذكر اسمه ونسبه بحيث يتميز إن كان غائبا ، ويكفي عند حضوره أن يقول : سرق هذا ، وحكى ابن كج وجها أنه يشترط أن يقول ، هذا بعينه ، وليس بشيء ، ويشترط أن يبين المسروق والمسروق منه ، وكون السرقة من حرز بتعيين الحرز أو صفته . وعن القاضي أبي الطيب وغيره ، أن الشاهد يقول أيضا : ولا أعلم له فيه شبهة . قال صاحب " الشامل " : وليكن هذا تأكيدا ؛ لأن الأصل عدم الشبهة ، ويشترط أن تتفق شهادة الشاهدين ، فلو شهد أحدهما أنه سرق بكرة ، والآخر أنه سرق عشية ، أو أحدهما بسرقة كبش أبيض ، والآخر بكبش أسود ، فهما شهادتان على سرقتين [ ص: 147 ] مختلفتين ، فلا قطع ، وللمشهود له أن يحلف مع أحدهما ، فيغرمه ، ولو شهد اثنان أنه سرق كذا غدوة ، وشهد آخران أنه سرق عشية ، فالبينتان متعارضتان ، فلا يحكم بواحدة منهما ، وفي الصورة الأولى لا يقال : متعارضتان ؛ لأن الحجة لم تتم ، فلو لم تتوارد الشهادتان على معين ، بل قال بعضهم : سرق كبشا غداة ، وقال بعضهم : سرق كبشا عشية ، فإن كان الذي شهد واحدا وواحدا ، فلا قطع ، وللمشهود له أن يحلف مع أحدهما ، ويأخذ الغرم ، أو معهما ويأخذ غرم ما شهدا به جميعا ، وإن شهد اثنان واثنان ، وجب القطع ، وغرم ما شهد به هذان وهذان ، لكمال الحجتين ، ولو شهد واحد بسرقة كبش ، وآخر بسرقة كبشين ، ثبت الواحد وتعلق به القطع إن بلغ نصابا ، ولو شهد واحد بسرقة ثوب قيمته ربع دينار ، وشهد آخر بسرقة ذلك الثوب ، وقومه بثمن دينار ، لم يقطع ويغرم ثمن دينار ، وللمشهود له أن يحلف مع شاهد الربع ويستحقه ، ولو شهد اثنان بسرقته وقالا : قيمته ربع ، وشهد آخران بسرقته ، وقالا : قيمته ثمن ، لم يقطع ، وللمشهود له الثمن ، ولو شهد أحدهما بسرقة ثوب أبيض قيمته ربع ، والآخر بسرقة ثوب أسود قيمته ثمن ، فلا قطع ، ولا يثبت بهما شيء لاختلافهما ، وله أن يحلف مع أحدهما ، وإن شهد اثنان واثنان تمت الشهادتان ، فيقطع ويغرم الربع والثمن معا .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        كما يشترط التفصيل في الشهادة بالسرقة يشترط في الإقرار بها ، فلا قطع على من أقر بالسرقة مطلقا ؛ لأنه قد يظن غير السرقة سرقة ، واسم السرقة يقع على ما يقطع به وعلى غيره ، وفي الشهادة على الزنى يشترط التفصيل ، وكذا في الإقرار به على الأصح .

                                                                                                                                                                        [ ص: 148 ] فرع

                                                                                                                                                                        الشهادة بالسرقة إن ترتبت على دعوى المسروق منه أو وكيله ، فذاك ، وإن شهد الشهود على سبيل الحسبة ، فهل تقبل شهادتهم ؟ وجهان ، أصحهما : نعم ، فعلى هذا إن كان المسروق منه غائبا ، فالنص أنه لا يقطع حتى يحضر الغائب ، ونص فيما لو شهد أربعة بالزنى بجارية غائب أنه يحد ، ولا ينتظر حضور الغائب ، فقيل : قولان فيهما ، وقيل : ينتظر المالك في الصورتين ، وغلطوا ناقل نص الزنى أو تأولوه ، والمذهب تقرير النصين ، والفرق أن حد الزنى لا يسقط بإباحة الوطء ، وحد السرقة يسقط بإباحة المال ، فربما كان الغائب أباحه فانتظر اعترافه ، ولأن القطع متعلق حق الآدمي ، فإنه شرع حفظا لماله ، فاشترط حضوره ، فإن قلنا : لا يقطع ولا يحد في الحال ، فهل يحبس ؟ فيه الخلاف السابق فيمن أقر بسرقة مال غائب ، أو بالزنى بجارية غائب ، وأشار الإمام إلى أن الظاهر عند الأصحاب أنه يحبس لما يتعلق به من حق الله تعالى ، وإذا لم يقطع حتى حضر المالك ، فإن لم يطلب المال ، أو اعترف بما يسقط القطع ، فلا قطع ، وإن طلب ولم تظهر شبهة ، فإن قلنا : شهادة الحسبة مقبولة ، قطع ، وهل تجب إعادة الشهادة لثبوت المال ؟ وجهان ، أصحهما : نعم ؛ لأن شهادة الحسبة لا تقبل في الأموال ، والثاني : لا ، ويثبت الغرم تبعا ، وإن قلنا : غير مقبولة ، فلا بد من إعادة البينة للمال ، والأصح أنها لا تعاد للقطع .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        سرق مال صبي أو مجنون ، قال ابن كج : إن انتظرنا حضور الغائب واعتبرنا طلبه ، انتظر بلوغه وإفاقته ، وإلا قطعناه في الحال .

                                                                                                                                                                        [ ص: 149 ] فرع

                                                                                                                                                                        إذا قلنا : يسقط الحد بدعوى الملك ، فهل يستفصله القاضي سعيا في سقوط الحد ؟ فيه تردد للإمام .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح لا يستفصله ؛ لأنه إغراء له بادعاء الباطل . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية