الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        [ ص: 177 ] كتاب ضمان إتلاف الإمام

                                                                                                                                                                        وحكم الصيال وإتلاف البهائم

                                                                                                                                                                        فيه ثلاثة أبواب .

                                                                                                                                                                        الأول : في ضمان يلزم الولاة بتصرفاتهم وفيه طرفان ، الأول في موجب الضمان ، والثاني في محله .

                                                                                                                                                                        أما الأول فما يفضي إلى الهلاك من التصرفات المتعلقة بالولاة أنواع : أحدها : التعزير ، فإذا مات منه المعزر ، وجب ضمانه ؛ لأنه تبين بالهلاك أنه جاوز الحد المشروع ، وحكي وجه أنه لا ضمان إذا عزر لحق الآدمي بناء على أنه واجب إذا طلب المستحق فصار كالحد ، والصحيح الأول ، ويجب الضمان أيضا في تعزير الزوج والمعلم إذا أفضى إلى الهلاك ، سواء ضربه المعلم بإذن أبيه ، أو دون إذنه ، لكن لو كان مملوكا ، فضربه بإذن سيده ، قال البغوي : لا ضمان ؛ لأنه لو أذن في قتله ، فقتله ، لم يضمنه ، ثم الضمان الواجب الدية على عاقلة الزوج والمعلم ، وفي حق الإمام هل هو على عاقلته أم في بيت المال ؟ فيه خلاف سبق ويعود أيضا - إن شاء الله تعالى - لكن لو أسرف المعزر ، وظهر منه قصد القتل ، تعلق به القصاص والدية المغلظة في ماله .

                                                                                                                                                                        الثاني : الحد ، والحدود في غير الشرب مقدرة بالنص ، فمن مات منها ، فالحق قتله ، فلا ضمان ، لكن لو أقيم الحد في حر أو برد مفرطين ، ففي الضمان خلاف سبق والمذهب أنه لا ضمان أيضا ، وأما حد الشرب ، فإن ضرب بالنعال وأطراف الثياب فمات منها ، ففي وجوب الضمان وجهان بناء على أنه هل يجوز أن يحد هكذا ؟ إن قلنا : نعم ، [ ص: 178 ] وهو الصحيح فلا ضمان ، كسائر الحدود ، وإلا فيجب ؛ لأنه عدل عن الجنس الواجب ، ولو ضرب أربعون جلدة ، فمات ، ففي الضمان قولان ، ويقال : وجهان ، أحدهما : يضمن ؛ لأن تقديره بأربعين كان بالاجتهاد ، والمشهور : لا ضمان ، كسائر الحدود ؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعوا على أن الشارب يضرب أربعين ، وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلد في الخمر أربعين ، فإن قلنا بالضمان ، فهل يجب كل الضمان أم نصفه ، أم يوزع على التفاوت بين ألم السياط والضرب بالنعال ، وأطراف الثياب ؟ فيه أوجه ، أصحها الأول ، وإن ضربه أحدا وأربعين ، فهل يجب كل الضمان أم نصفه أم جزء من أحد وأربعين جزءا ؟ فيه أقوال ، أظهرها : الثالث ، وإن ضرب اثنين وأربعين وقلنا بالثالث ، وجب جزءان من اثنين وأربعين ، وعلى هذا القياس ، حتى إذا ضرب ثمانين استوى القول الثاني والثالث ، ووجب النصف ، ولو جلد في القذف أحدا وثمانين ، فمات ، فهل يجب نصف الدية ، أم جزء من أحد وثمانين جزءا منها ؟ فيه القولان ، ثم إن كانت الزيادة من الجلاد ولم يأمره الإمام إلا بالثمانين ، فالضمان على اختلاف القولين على الجلاد ، وإن أمر الإمام بذلك ، فالضمان متعلق بالإمام ، وكذا لو قال الإمام : اضرب وأنا أعد ، فغلط في العد ، فزاد على الثمانين ، ولو أمر الإمام بثمانين في الشرب ، فزاد الجلاد جلدة واحدة ، ومات المجلود فأربعة أوجه ، أصحها : توزع الدية أحد وثمانون جزءا ، يسقط منها أربعون ويجب أربعون على الإمام ، وجزء على الجلاد . والثاني : يسقط ثلث الدية ، ويجب على الإمام ثلث ، وعلى الجلاد ثلث . والثالث : يسقط نصفها ، ويجب على الإمام ربع ، وعلى الجلاد ربع . والرابع : يسقط نصفها ، ويوزع نصفها على أحد وأربعين جزءا : أربعون على الإمام ، وجزء على الجلاد . [ ص: 179 ] الثالث : الاستصلاح بقطع سلعة وبالختان وفيه مسائل : إحداها : في حكم قطع السلعة من العاقل المستقل بأمر نفسه ، والسلعة بكسر السين وهي غدة تخرج بين اللحم والجلدة نحو الحمصة إلى الجوزة فما فوقها ، وقد يخاف منها ، وقد لا يخاف ، لكن تشين ، فإن لم يكن في قطعها خطر ، وأراد المستقل قطعها لإزالة الشين ، فله قطعها بنفسه ، ولغيره بإذنه ، وإن كان في قطعها خطر ، نظر إن لم يكن في بقائها خطر ، لم يجز القطع لإزالة الشين ، فإن كان في بقائها خوف أيضا ، نظر إن كان الخطر في القطع أكثر ، لم يجز القطع ، وإن كان في الإبقاء أكثر ، جاز القطع على الصحيح ، وقيل : لا ؛ لأنه فتح باب الروح بخلاف الإبقاء ، وإن تساوى الخطر ، جاز القطع على الأصح ؛ إذ لا معنى للمنع مما لا خطر فيه ، وأما من عظمت آلامه ولم يطقها ، فأراد أن يريح نفسه بمهلك مذفف ، فيحرم ذلك ، فلو وقع في نار علم أنه لا ينجو منها ، وأمكنه أن يلقي نفسه في بحر ، ورأى ذلك أهون عليه من الصبر على لفحات النار ، فله ذلك على الأصح ، وهو قول الشيخ أبي محمد ، ولو تآكل بعض الأعضاء ، فهو كسلعة يخاف منها ، ولو قطع السلعة ، أو العضو المتآكل من المستقل قاطع بغير إذنه ، فمات ، لزمه القصاص ، سواء فيه الإمام وغيره ؛ لأنه متعد .

                                                                                                                                                                        الثانية : المولى عليه لصغر أو جنون ، يجوز لوليه الخاص وهو الأب والجد أن يقطع من السلعة واليد المتآكلة ، وإن كان فيه خوف وخطر إذا كان الخطر في الترك أكثر ، وليس للسلطان ذلك ؛ لأن القطع يحتاج إلى نظر دقيق ، وفراغ تام ، وشفقة كاملة ، كما أن للأب والجد تزويج البكر الصغيرة دون السلطان ، قال الإمام : وقد ذكرنا عند استواء الطرفين في الخوف خلافا في أن المستقل هل له القطع من نفسه ، والأصح [ ص: 180 ] والحالة هذه أنه لا يقطع من طفله ، وأما ما لا خطر فيه ولا خوف غالبا ، كالفصد والحجامة وقطع سلعة بلا خطر ، فيجوز فعله للولي الخاص ، وكذا للسلطان ، وفي " التهذيب " وجه أن القطع المخطر لا يجوز للولي الخاص ، وفي " جمع الجوامع " للروياني وجه أنه لا يجوز للسلطان الفصد والحجامة ، والصحيح ما سبق ، وليس للأجنبي المعالجة ولا القطع المخطر بحال ، ولو فعل ، فسرى ومات به ، تعلق بفعله القصاص والضمان ، وأما السلطان إذا فعل بالصبي ما منعناه ، فسرى إلى نفسه ، فعليه الدية مغلظة في ماله ، لتعديه ، وقيل : في كونه في بيت المال ، أو على عاقلته القولان ، كما لو أخطأ ؛ لأنه قصد الإصلاح ، والمذهب الأول ، وفي وجوب القصاص قولان ، أظهرهما : لا يجب ؛ لأنه قصد الإصلاح ، واستبعد الأئمة وجوب القصاص ، وقال صاحب " الإفصاح " : القولان إذا كان للصبي أب أو جد ، فإن لم يكونا فلا قود بلا خلاف ؛ لأنه لا بد له ممن يقوم بشأنه ، وهذا راجع إلى أن للسلطان قطع السلعة ، ولو قطع الأب والجد السلعة حيث لا يجوز ، فمات ، فلا قصاص للبعضية ، وتجب الدية في ماله ، وقيل : لا ضمان على الأب أصلا ؛ لأن ولايته أتم وإنما يقطعها للشفقة ، وأما ما يجوز للأب والسلطان من فصد الصغير وحجامته وقطع سلعته للأب إذا أفضى إلى تلف ، فلا ضمان فيه على الأصح ، وبه قال الجماهير ، لئلا يمتنع من ذلك ، فيتضرر الصغير بخلاف التعزير .

                                                                                                                                                                        الثالثة : الختان واجب في حق الرجال والنساء ، وقيل : سنة ، وقيل : واجب في الرجل ، سنة في المرأة ، والصحيح المعروف هو الأول ، وختان الرجل : قطع الجلدة التي تغطي الحشفة حتى تنكشف جميع الحشفة ، ويقال لتلك الجلدة : القلفة ، قال الإمام : فلو بقي مقدار ينبسط على سطح الحشفة ، وجب قطعه ، حتى لا يبقى جلد [ ص: 181 ] متجاف ، هذا هو الصحيح المعروف للأصحاب ، وقال ابن كج : عندي يكفي قطع شيء من الحشفة وإن قل بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها ، وأما من المرأة ، فتقطع من اللحمة التي في أعلى الفرج فوق مخرج البول ، وتشبه تلك اللحمة عرف الديك ، فإذا قطعت ، بقي أصلها كالنواة ، ويكفي أن يقطع ما يقع عليه الاسم ، قال الأصحاب : وإنما يجب الختان بعد البلوغ ، ويستحب أن يختن في السابع من ولادته إلا أن يكون ضعيفا لا يحتمله فيؤخر حتى يحتمله ، قال الإمام : ولو كان الرجل ضعيف الخلقة بحيث لو ختن خيف عليه ، لم يجز أن يختن ، بل ينتظر حتى يصير بحيث يغلب على الظن سلامته ، وفي وجه في تعليق القاضي حسين ، وهو مقتضى كلام البغوي : لا يجوز ختان الصغير حتى يبلغ عشر سنين .

                                                                                                                                                                        قلت : ولنا وجه في " البيان " وغيره أنه يجب على الولي ختان الصغير قبل بلوغه ؛ لأنه أرفق ، فعليه النظر له ، والصحيح أنه لا يجب حتى يبلغ ، وهل يحسب يوم الولادة من السبعة المستحبة ؟ وجهان في " المستظهري " أصحهما : لا ، وحكاه عن الأكثرين ، وأما الخنثى ، فلا يختن في صغره ، فإذا بلغ فوجهان ، أحدهما : يجب ختان فرجه ليتوصل إلى المستحق ، وبهذا قطع في " البيان " وأصحهما : لا يجوز ختانه ؛ لأن الجرح لا يجوز بالشك ، وبه قطع البغوي ، فعلى الأول : إن أحسن الختان ، ختن نفسه ، وإلا اشترى جارية تختنه ، فإن لم يمكن تولاه الرجال والنساء للضرورة ، كالتطبيب ، ولو كان لرجل ذكران ، إن كانا عاملين ، ختنا ، وإن كان أحدهما ، ختن وحده ، وهل يعرف العمل بالجماع أو البول ؟ وجهان . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 182 ] فرع

                                                                                                                                                                        مؤنة الختان في مال المختون ، وفي وجه : يجب على الوالد إذا ختن صغيرا .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا بلغ غير مختون ، أمره به الإمام ، فإن امتنع ، أجبره ، فإن ختن الممتنع فمات ، فلا ضمان ؛ لأنه مات من واجب ، لكن لو وقع ختانه في حر أو برد شديدين ، ففي الضمان خلاف سبق في الزنى ، والمذهب وجوبه ، وأجرى الإمام هذا الخلاف فيما لو ختنه الأب في حر أو برد شديدين ، وجعل الأب أولى بنفي الضمان ؛ لأن الأب هو الذي يتولى الختان غالبا ، فهو في حقه كالحد في حق الإمام ، ومن ختن صبيا في سن لا يحتمله ، فمات منه ، لزمه القصاص ، سواء الولي وغيره ، لكن لا قصاص على الأب والجد للبعضية ، وعليهما الدية ، وإن كان في سن يحتمله ، فمات ، نظر إن ختنه أبوه أو جده ، أو الإمام إذا لم يكن له ولي غيره ، فلا ضمان على الأصح ، وإن ختنه أجنبي ، فقال البغوي : يحتمل أن يبنى على ختن الإمام في الحر الشديد ، إن ضمناه ، ضمن هنا ، وإلا فلا ، وقال السرخسي : يبنى على أن الجرح اليسير هل فيه قصاص ؟ وفيه وجهان ، إن قلنا : نعم ، فهو عمد ، وإلا فشبه عمد ، وإذا أوجبنا الضمان في الختان في حر شديد ، فالواجب نصف الضمان على الأصح ، وقيل : كله .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية