الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل .

القسم الثاني من السماع

ما يبغضه الله ويكرهه ، ويمدح المعرض عنه ، وهو سماع كل ما يضر العبد في قلبه ودينه ، كسماع الباطل كله ، إلا إذا تضمن رده وإبطاله والاعتبار به وقصد أن يعلم به حسن ضده ، فإن الضد يظهر حسنه الضد ، كما قيل :


وإذا سمعت إلى حديثك زادني حبا له سمعي حديث سواكا

وكسماع اللغو الذي مدح التاركين لسماعه ، والمعرضين عنه بقوله : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقوله : وإذا مروا باللغو مروا كراما قال محمد ابن الحنفية : هو الغناء ، وقال الحسن أو غيره : أكرموا نفوسهم عن سماعه

قال ابن مسعود الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل ، وهذا كلام عارف بأثر الغناء وثمرته ، فإنه ما اعتاده أحد إلا نافق قلبه وهو لا يشعر ، ولو عرف حقيقة النفاق وغايته لأبصره في قلبه ، فإنه ما اجتمع في قلب عبد قط محبة الغناء ومحبة القرآن إلا طردت إحداهما الأخرى ، وقد شاهدنا نحن وغيرنا ثقل القرآن على أهل الغناء وسماعه ، وتبرمهم به ، وصياحهم بالقارئ إذا طول عليهم ، وعدم انتفاع قلوبهم بما يقرؤه ، فلا تتحرك ولا تطرب ، ولا تهيج منها بواعث الطلب ، فإذا جاء قرآن الشيطان فلا إله إلا الله ، كيف تخشع منهم الأصوات ، وتهدأ الحركات ، وتسكن القلوب وتطمئن ، [ ص: 484 ] ويقع البكاء والوجد ، والحركة الظاهرة والباطنة ، والسماحة بالأثمان والثياب ، وطيب السهر ، وتمني طول الليل ، فإن لم يكن هذا نفاقا فهو آخية النفاق وأساسه .


تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة     لكنه إطراق ساه لاهي
وأتى الغناء فكالذباب تراقصوا     والله ما رقصوا من أجل الله
دف ومزمار ونغمة شاهد     فمتى شهدت عبادة بملاهي
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا     تقييده بأوامر ونواهي
وعليهم خف الغنا لما رأوا     إطلاقه في اللهو دون مناهي
يا فرقة ما ضر دين محمد     وجنى عليه ومله إلا هي
سمعوا له رعدا وبرقا إذ حوى     زجرا وتخويفا بفعل مناهي
ورأوه أعظم قاطع للنفس عن     شهواتها يا ويحها المتناهي
وأتى السماع موافقا أغراضها     فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه
أين المساعد للهوى من قاطع     أسبابه عند الجهول الساهي
إن لم يكن خمر الجسوم فإنه     خمر العقول مماثل ومضاهي
فانظر إلى النشوان عند شرابه     وانظر إلى النشوان عند تلاهي
وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه     من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي
فاحكم بأي الخمرتين أحق بال     تحريم والتأثيم عند الله

وكيف يكون السماع الذي يسمعه العبد بطبعه وهواه أنفع له من الذي يسمعه بالله ولله وعن الله ؟ فإن زعموا أنهم يسمعون هذا السماع الغنائي الشعري كذلك ، فهذا غاية اللبس على القوم ، فإنه إنما يسمع بالله ولله وعن الله ما يحبه الله ويرضاه ، ولهذا قلنا : إنه لا يتحرر الكلام في هذه المسألة إلا بعد معرفة صورة المسموع وحقيقته ومرتبته ، فقد جعل الله لكل شيء قدرا ، ولن يجعل الله من شربه ونصيبه وذوقه ووجده من سماع الآيات البينات كمن نصيبه وشربه وذوقه ووجده من سماع الغناء والأبيات .

ومن أعجب العجائب استدلال من استدل على أن هذا السماع من طريق القوم ، وأنه مباح بكونه مستلذا طبعا ، تستلذه النفوس ، وتستروح إليه ، وأن الطفل يسكن إلى الصوت الطيب ، والجمل يقاسي تعب السير ومشقة الحمولة فيهون عليه بالحداء ، وبأن [ ص: 485 ] الصوت الطيب نعمة من الله على صاحبه ، وزيادة في خلقه ، وبأن الله ذم الصوت الفظيع ، فقال إن أنكر الأصوات لصوت الحمير وبأن الله وصف نعيم أهل الجنة ، فقال فيه فهم في روضة يحبرون ، وبأن ذلك هو السماع الطيب ، فكيف يكون حراما وهو في الجنة ؟ وبأن الله تعالى ما أذن لشيء كأذنه أي كاستماعه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن ، وبأن أبا موسى الأشعري استمع النبي صلى الله عليه وسلم إلى صوته وأثنى عليه بحسن الصوت ، وقال لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود فقال له أبو موسى : لو علمت أنك استمعت لحبرته لك تحبيرا ، أي زينته لك وحسنته ، وبقوله صلى الله عليه وسلم زينوا القرآن بأصواتكم .

وبقوله صلى الله عليه وسلم ليس منا من لم يتغن بالقرآن والصحيح أنه من التغني بمعنى [ ص: 486 ] تحسين الصوت ، وبذلك فسره الإمام أحمد رحمه الله ، فقال : يحسنه بصوته ما استطاع .

وبأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عائشة على غناء القينتين يوم العيد ، وقال لأبي بكر دعهما ، فإن لكل قوم عيدا ، وهذا عيدنا أهل الإسلام .

وبأنه صلى الله عليه وسلم أذن في العرس في الغناء وسماه لهوا ، وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحداء ، وأذن فيه ، وكان يسمع أنسا والصحابة وهم يرتجزون بين يديه في حفر الخندق :


نحن الذين بايعوا محمدا     على الجهاد ما بقينا أبدا

ودخل مكة والمرتجز يرتجز بين يديه بشعر عبد الله بن رواحة ، وحدا به الحادي في منصرفه من خيبر ، فجعل يقول :


والله لولا الله ما اهتدينا     ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا     وثبت الأقدام إن لاقينا
[ ص: 487 ] إن الذين قد بغوا علينا     إذا أرادوا فتنة أبينا
ونحن إن صيح بنا أتينا     وبالصياح عولوا علينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا

فدعا لقائله .

وسمع قصيدة كعب بن زهير ، وأجازه ببردة .

واستنشد الأسود بن سريع قصائد حمد بها ربه .

واستنشد من شعر أمية بن أبي الصلت مائة قافية .

وأنشده الأعشى شيئا من شعره فسمعه .

وصدق لبيدا في قوله :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

.

ودعا لحسان أن يؤيده الله بروح القدس ما دام ينافح عنه ، وكان يعجبه شعره ، [ ص: 488 ] وقال له اهجهم ، وروح القدس معك .

وأنشدته عائشة قول أبي بكر الهذلي :


ومبرإ من كل غبر حيضة     وفساد مرضعة وداء مغيل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه     برقت كبرق العارض المتهلل

وقالت : أنت أحق بهذا البيت ، فسر بقولها .

وبأن ابن عمر رضي الله عنهما رخص فيه ، و عبد الله بن جعفر ، وأهل المدينة ، وبأن كذا وكذا وليا لله حضروه وسمعوه ، فمن حرمه فقد قدح في هؤلاء السادة القدوة الأعلام .

وبأن الإجماع منعقد على إباحة أصوات الطيور المطربة الشجية ، فلذة سماع صوت الآدمي أولى بالإباحة ، أو مساوية .

وبأن السماع يحدو روح السامع وقلبه إلى نحو محبوبه ، فإن كان محبوبه حراما كان السماع معينا له على الحرام ، وإن كان مباحا كان السماع في حقه مباحا ، وإن كانت محبته رحمانية كان السماع في حقه قربة وطاعة ، لأنه يحرك المحبة الرحمانية ويقويها ويهيجها .

وبأن التذاذ الأذن بالصوت الطيب كالتذاذ العين بالمنظر الحسن ، والشم بالروائح الطيبة ، والفم بالطعوم الطيبة ، فإن كان هذا حراما كانت جميع هذه اللذات والإدراكات محرمة .

فالجواب أن هذه حيدة عن المقصود ، وروغان عن محل النزاع ، وتعلق بما لا [ ص: 489 ] متعلق به ، فإن جهة كون الشيء مستلذا للحاسة ملائما لها ، لا يدل على إباحته ولا تحريمه ، ولا كراهته ولا استحبابه ، فإن هذه اللذة تكون فيما فيه الأحكام الخمسة تكون في الحرام ، والواجب ، والمكروه ، والمستحب ، والمباح ، فكيف يستدل بها على الإباحة من يعرف شروط الدليل ، ومواقع الاستدلال ؟ .

وهل هذا إلا بمنزلة من استدل على إباحة الزنا بما يجده فاعله من اللذة ، وأن لذته لا ينكرها من له طبع سليم ، وهل يستدل بوجود اللذة والملاءمة على حل اللذيذ الملائم أحد ؟ وهل خلت غالب المحرمات من اللذات ؟ وهل أصوات المعازف التي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريمها ، وأن في أمته من سيستحلها بأصح إسناد ، وأجمع أهل العلم على تحريم بعضها ، وقال جمهورهم بتحريم جملتها إلا لذيذة تلذ السمع ؟ وهل في التذاذ الجمل والطفل بالصوت الطيب دليل على حكمه من إباحة ، أو تحريم ؟ .

وأعجب من هذا : الاستدلال على الإباحة بأن الله خلق الصوت الطيب ، وهو زيادة نعمة منه لصاحبه .

فيقال : والصورة الحسنة الجميلة ، أليست زيادة في النعمة ، والله خالقها . ومعطي حسنها ؟ أفيدل ذلك على إباحة التمتع بها ، والالتذاذ على الإطلاق بها ؟

وهل هذا إلا مذهب أهل الإباحة الجارين مع رسوم الطبيعة ؟ .

وهل في ذم الله لصوت الحمار ما يدل على إباحة الأصوات المطربات بالنغمات الموزونات ، والألحان اللذيذات ، من الصور المستحسنات ، بأنواع القصائد المنغمات بالدفوف والشبابات ؟ ! .

وأعجب من هذا : الاستدلال على الإباحة بسماع أهل الجنة ، وما أجدر صاحبه أن يستدل على إباحة الخمر بأن في الجنة خمرا ، وعلى حل لباس الحرير بأن لباس أهلها حرير ، وعلى حل أواني الذهب والفضة والتحلي بهما للرجال بكون ذلك ثابتا بوجود النعيم به في الجنة .

فإن قال : قد قام الدليل على تحريم هذا ، ولم يقم على تحريم السماع .

قيل : هذا استدلال آخر غير الاستدلال بإباحته لأهل الجنة ، فعلم أن استدلالكم بإباحته لأهل الجنة استدلال باطل ، لا يرضى به محصل .

[ ص: 490 ] وأما قولكم : لم يقم دليل على تحريم السماع .

فيقال لك : أي السماعات تعني ؟ وأي المسموعات تريد ؟ فالسماعات والمسموعات منها المحرم ، والمكروه ، والمباح ، والواجب ، والمستحب ، فعين نوعا يقع الكلام فيه نفيا وإثباتا .

فإن قلت : سماع القصائد ، قيل لك : أي القصائد تعني ؟ ما مدح به الله ورسوله ودينه وكتابه ، وهجي به أعداؤه ؟ .

فهذه لم يزل المسلمون يروونها ويسمعونها ويتدارسونها ، وهي التي سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأثاب عليها ، وحرض حسان عليها ، وهي التي غرت أصحاب السماع الشيطاني ، فقالوا : تلك قصائد ، وسماعنا قصائد ، فنعم إذن ، والسنة كلام ، والبدعة كلام ، والتسبيح كلام ، والغيبة كلام ، والدعاء كلام ، والقذف كلام ، ولكن هل سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه سماعكم هذا الشيطاني المشتمل على أكثر من مفسدة مذكورة في غير هذا الموضع ، وقد أشرنا فيما تقدم إلى بعضها ؟ .

ونظير هذا : ما غرهم من استحسانه صلى الله عليه وسلم الصوت الحسن بالقرآن ، وأذنه له وإذنه فيه ، ومحبة الله له .

فنقلوا هذا الاستحسان إلى صوت النسوان والمردان وغيرهم ، بالغناء المقرون بالمعازف والشاهد ، وذكر القد والنهد والخصر ، ووصف العيون وفعلها ، والشعر الأسود ، ومحاسن الشباب ، وتوريد الخدود ، وذكر الوصل والصد ، والتجني والهجران ، والعتاب والاستعطاف ، والاشتياق ، والقلق والفراق ، وما جرى هذا المجرى ، مما هو أفسد للقلب من شرب الخمر ، بما لا نسبة بينهما ، وأي نسبة لمفسدة سكر يوم ونحوه إلى سكرة العشق التي لا يستفيق الدهر صاحبها إلا في عسكر الهالكين ، سليبا حربيا ، أسيرا قتيلا ؟ .

وهل تقاس سكرة الشراب بسكرة الأرواح بالسماع ؟ وهل يظن بحكيم أن يحرم سكرا لمفسدة فيه معلومة ، ويبيح سكرا مفسدته أضعاف أضعاف مفسدة الشراب ؟ حاشا أحكم الحاكمين .

فإن نازعوا في سكر السماع ، وتأثيره في العقول والأرواح خرجوا عن الذوق والحس ، وظهرت مكابرة القوم ، فكيف يحمي الطبيب المريض عما يشوش عليه صحته ، [ ص: 491 ] ويبيح له ما فيه أعظم السقم ؟ والمنصف يعلم أنه لا نسبة بين سقم الأرواح بسكر الشراب ، وسقمها بسكر السماع . وكلامنا مع واجد لا فاقد ، فهو المقصود بالخطاب .

وأعجب من هذا : استدلالكم على إباحة السماع المركب مما ذكرنا من الهيئة الاجتماعية بغناء بنيتين صغيرتين دون البلوغ ، عند امرأة صبية في يوم عيد وفرح ، بأبيات من أبيات العرب ، في وصف الشجاعة والحروب ، ومكارم الأخلاق والشيم ، فأين هذا من هذا ؟ .

والعجب أن هذا الحديث من أكبر الحجج عليهم ، فإن الصديق الأكبر رضي الله عنه سمى ذلك مزمورا من مزامير الشيطان وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه التسمية ورخص فيه لجويريتين غير مكلفتين ، ولا مفسدة في إنشادهما ، ولا استماعهما ، أفيدل هذا على إباحة ما تعملونه وتعلمونه من السماع المشتمل على ما لا يخفى ؟ فيا سبحان الله ! كيف ضلت العقول والأفهام ؟ .

وأعجب من هذا كله : الاستدلال على إباحته بما سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحداء المشتمل على الحق والتوحيد ؟ ! وهل حرم أحد مطلق الشعر ، وقوله واستماعه ؟ فكم في هذا التعلق ببيوت العنكبوت ؟ .

وأعجب من هذا : الاستدلال على إباحته بإباحة أصوات الطيور اللذيذة ، وهل هذا إلا من جنس قياس الذين قالوا إنما البيع مثل الربا وأين أصوات الطيور إلى نغمات الغيد الحسان ، والأوتار والعيدان ، وأصوات أشباه النساء من المردان ، والغناء بما يحدو الأرواح والقلوب إلى مواصلة كل محبوبة ومحبوب ؟ وأين الفتنة بهذا إلى الفتنة بصوت القمري والبلبل والهزار ونحوها ؟ .

بل نقول : لو كانا سواء لكان اتخاذ هذا السماع قربة وطاعة تستنزل به المعارف والأذواق والمواجيد ، وتحرك به الأحوال بمنزلة التقرب إلى الله بأصوات الطيور ، ومعاذ الله أن يكونا سواء .

والذي يفصل النزاع في حكم هذه المسألة ثلاث قواعد ، من أهم قواعد الإيمان والسلوك ، فمن لم يبن عليها فبناؤه على شفا جرف هار .

[ ص: 492 ] القاعدة الأولى :

أن الذوق والحال والوجد : هل هو حاكم أو محكوم عليه ، فيحكم عليه بحاكم آخر ، ويتحاكم إليه ؟ .

فهذا منشأ ضلال من ضل من المفسدين لطريق القوم الصحيحة ، حيث جعلوه حاكما ، فتحاكموا إليه فيما يسوغ ويمتنع ، وفيما هو صحيح وفاسد ، وجعلوه محكا للحق والباطل ، فنبذوا لذلك موجب العلم والنصوص ، وحكموا فيها الأذواق والأحوال والمواجيد ، فعظم الأمر ، وتفاقم الفساد والشر ، وطمست معالم الإيمان والسلوك المستقيم ، وانعكس السير ، وكان إلى الله فصيروه إلى النفوس ، فالناس المحجوبون عن أذواقهم يعبدون الله ، وهؤلاء يعبدون نفوسهم .

ومن العجب أنهم دخلوا في أنواع الرياضات والمجاهدات والزهد ، ليتجردوا عن شهوات النفوس وحظوظها ، فانتقلوا من شهوات إلى شهوات أكبر منها ، ومن حظوظ إلى حظوظ أحط منها ، وكان حالهم في شهوات نفوسهم التي انتقلوا عنها أكمل ، وحال أربابها خيرا من حال هؤلاء ، لأنهم لم يعارضوا بها العلم ، ولا قدموها على النصوص ، ولا جعلوها دينا وقربة ، ولا ازدروا من أجلها العلم وأهله . والشهوات التي انتقلوا إليها جعلوها أعلى ما يشمرون إليها ، فهي قبلة قلوبهم ، فهم حولها عاكفون ، واقفون مع حظوظهم من الله ، فانون بها عن مراد الله منهم ، الناس يعبدون الله ، وهم يعبدون أنفسهم ، عائبون على أهل الحظوظ والشهوات ومزدرون لهم ، وهم أعظم الناس حظوظا ، وإنما زهدوا في حظ إلى حظ أعلى منه ، وإنما تركوا شهوة لشهوة أحط .

فليتدبر اللبيب هذا الموضع في نفسه وفي غيره ، فكل ما خالف مراد الله الديني من العبد فهو حظه وشهوته ، مالا كان ، أو رياسة ، أو صورة ، أو حالا ، أو ذوقا ، أو وجدا .

ثم من قدمه على مراد الله فهو أسوأ حالا ممن عرف أنه نقص ومحنة ، وأن مراد الله أولى بالتقديم منه ، فهو يتوب منه كل وقت إلى الله .

ثم إنه وقع من تحكيم الذوق من الفساد ما لا يعلمه إلا الله ، فإن الأذواق مختلفة في أنفسها ، كثيرة الألوان ، متباينة أعظم التباين ، فكل طائفة لهم أذواق وأحوال ومواجيد ، بحسب معتقداتهم وسلوكهم .

فالقائلون بوحدة الوجود لهم ذوق وحال ووجد في معتقدهم بحسبه ، والنصارى لهم ذوق في النصرانية بحسب رياضتهم وعقائدهم ، وكل من اعتقد شيئا أو سلك [ ص: 493 ] سلوكا حقا كان أو باطلا فإنه إذا ارتاض وتجرد لزمه ، وتمكن من قلبه ، وبقي له فيه حال وذوق ووجد ، فيذوق من يزن الحقائق إذن ويعرف الحق من الباطل .

وهذا سيد أهل الأذواق والمواجيد ، والكشوف والأحوال ، من هذه الأمة المحدث المكاشف عمر رضي الله عنه لا يلتفت إلى ذوقه ووجده ومخاطبته في شيء من أمور الدين ، حتى ينشد عنه الرجال والنساء والأعراب ، فإذا أخبروه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يلتفت إلى ذوقه ، ولا إلى وجده وخطابه ، بل يقول " لو لم نسمع بهذا لقضينا بغيره " ويقول " أيها الناس ، رجل أخطأ وامرأة أصابت " فهذا فعل الناصح لنفسه وللأمة رضي الله عنه ، ليس كفعل من غش نفسه والدين والأمة .

القاعدة الثانية :

أنه إذا وقع النزاع في حكم فعل من الأفعال ، أو حال من الأحوال ، أو ذوق من الأذواق ، هل هو صحيح أو فاسد ؟ وحق أو باطل ؟ وجب الرجوع فيه إلى الحجة المقبولة عند الله وعند عباده المؤمنين ، وهي وحيه الذي تتلقى أحكام النوازل والأحوال والواردات منه ، وتعرض عليه وتوزن به ، فما زكاه منها وقبله ورجحه وصححه فهو المقبول ، وما أبطله ورده فهو الباطل المردود ، ومن لم يبن على هذا الأصل علمه وسلوكه وعمله فليس على شيء من الدين ، وإن وإن ، وإنما معه خدع وغرور كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب .

القاعدة الثالثة :

إذا أشكل على الناظر أو السالك حكم شيء هل هو الإباحة أو التحريم ؟ فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته ، فإن كان مشتملا على مفسدة راجحة ظاهرة ، فإنه يستحيل على الشارع الأمر به أو إباحته ، بل العلم بتحريمه من شرعه قطعي ، ولاسيما إذا كان طريقا مفضيا إلى ما يغضب الله ورسوله موصلا إليه عن قرب [ ص: 494 ] ، وهو رقية له ورائد وبريد ، فهذا لا يشك في تحريمه أولو البصائر ، فكيف يظن بالحكيم الخبير أن يحرم مثل رأس الإبرة من المسكر لأنه يسوق النفس إلى السكر الذي يسوقها إلى المحرمات ثم يبيح ما هو أعظم منه سوقا للنفوس إلى الحرام بكثير ؟ فإن الغناء كما قال ابن مسعود رضي الله عنه هو رقية الزنا ، وقد شاهد الناس أنه ما عاناه صبي إلا وفسد ، ولا امرأة إلا وبغت ، ولا شاب إلا وإلا ، ولا شيخ إلا وإلا ، والعيان من ذلك يغني عن البرهان ، ولاسيما إذا جمع هيئة تحدو النفوس أعظم حدو إلى المعصية والفجور ، بأن يكون على الوجه الذي ينبغي لأهله ، من المكان والإمكان ، والعشراء والإخوان ، وآلات المعازف من اليراع ، والدف ، والأوتار والعيدان ، وكان القوال شادنا شجي الصوت ، لطيف الشمائل من المردان أو النسوان ، وكان القول في العشق والوصال ، والصد والهجران .


ودارت كئوس الهوى بينهم     فلست ترى فيهم صاحيا
فكل على قدر مشروبه     وكل أجاب الهوى الداعيا
فمالوا سكارى ولا سكر من     تناول أم الهوى خاليا
وجار على القوم ساقيهم     ولم يؤثروا غيره ساقيا
فمزق منهم قلوبا غدت     لباسا عليه يرى ضافيا
فلم يستفيقوا إلى أن أتى     إليهم منادي اللقا داعيا
أجيبوا فكل امرئ منكم     على حاله ربه لاقيا
هنالك تعلم من حمأة     شربت مع القوم أم صافيا ؟
وبالله لا بد قبل اللقا     سنعلم ذا إن تك واعيا
لا بد تصحو فإما هنا     وإما هناك فكن راضيا

التالي السابق


الخدمات العلمية