الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        [ ص: 278 ] الباب الثالث في ترك القتال والقتل بالأمان

                                                                                                                                                                        قد تقتضي المصلحة الأمان لاستمالته إلى الإسلام ، أو إراحة الجيش ، أو ترتيب أمرهم ، أو للحاجة إلى دخول الكفار ، أو لمكيدة وغيرها ، وينقسم إلى عام وهو ما تعلق بأهل إقليم أو بلد ، وهو عقد الهدنة ، ويختص بالإمام وولاته ، وسيأتي في بابه - إن شاء الله تعالى - وإلى خاص وهو ما تعلق بآحاد ، ويصح من الولاة والآحاد ، والباب معقود لهذا وفيه مسائل : إحداها : إنما يجوز لآحاد المسلمين أمان كافر ، أو كفار محصورين ، كعشرة ومائة ، ولا يجوز أمان ناحية وبلدة ، وفي البيان أنه يجوز أن يؤمن واحد أهل قلعة ، ولا شك أن القرية الصغيرة في معناها ، وعن الماسرجسي أنه لا يجوز أمان واحد لأهل قرية وإن قل عدد من فيها ، والأول أصح ، وضابطه أن لا ينسد به باب الجهاد في تلك الناحية ، فإذا تأتى الجهاد بغير تعرض لمن أمن ، نفذ الأمان ، لأن الجهاد شعار الدين والدعوة القهرية ، وهو من أعظم مكاسب المسلمين ، ولا يجوز أن يظهر بأمان الآحاد انسداده أو نقصان يحس ، قال الإمام : ولو أمن مائة ألف من الكفار ، فكل واحد لم يؤمن إلا واحدا ، لكن إذا ظهر انسداد أو نقصان ، فأمان الجميع مردود ، ولك أن تقول : إن أمنوهم معا فرد الجميع ظاهر ، وإن أمنوهم متعاقبين ، فينبغي أن يصح أمان الأول فالأول إلى ظهور الخلل ، على أن الروياني ذكر أنه لو أمن كل واحد واحدا ، جاز ، وإن كثروا حتى زادوا على عدد أهل البلدة .

                                                                                                                                                                        [ ص: 279 ] المختار أنه يصح أمان المتعاقبين إلى أن يظهر الخلل ، وهو مراد الإمام ، والله أعلم . وسواء كان الكافر المؤمن في دار الحرب ، أو في حال القتال أو الهزيمة ، أو عند مضيق ، بل يصح الأمان ما دام الكافر ممتنعا ، فأما بعد الأسر ، فلا يجوز للآحاد أمانه ولا المن عليه ، ولو قال واحد من المسلمين : كنت أمنته قبل هذا ، لم يقبل بخلاف ما لو أقر بأمان من يجوز أمانه في الحال ، فإنه يصح ، ولو قال جماعة : كنا أمناه ، لم يقبل أيضا لأنهم يشهدون على فعلهم ، ولو قال واحد : كنت أمنته ، وشهد به اثنان ، قبلت شهادتهما .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        في جواز عقد المرأة استقلالا وجهان .

                                                                                                                                                                        الثانية : يصح الأمان من كل مسلم مكلف مختار ، فيصح أمان العبد المسلم وإن كان سيده كافرا ، والمرأة والخنثى ، والفقير والمفلس ، والمحجور عليه بسفه ، والمريض والشيخ الهرم ، والفاسق وفي الفاسق وجه ضعيف ، ولا يصح أمان كافر وصبي ومجنون ومكره ، وفي الصبي المميز وجه كتدبيره .

                                                                                                                                                                        الثالثة : ينعقد الأمان بكل لفظ يفيد الغرض ، صريح أو كناية ، فالصريح : أجرتك ، أو أنت مجار ، أو أمنتك ، أو أنت آمن ، أو في أماني ، أو لا بأس عليك ، أو لا خوف عليك ، أو لا تخف ، أو لا تفزع ، أو قال بالعجمية : مترس ، وقال صاحب " الحاوي " : لا تخف ، لا تفزع . كناية . والكناية ، كقوله : أنت على ما تحب ، أو كن كيف شئت ، وتنعقد بالكتابة والرسالة ، سواء كان الرسول مسلما أو كافرا ، وبالإشارة المفهمة من قادر على العبارة . وبناء الباب على التوسعة . فأما الكافر المؤمن فلا بد من علمه وبلوغ خبر الأمان إليه ، فإن لم يبلغه ، فلا أمان ، فلو [ ص: 280 ] بدر مسلم فقتله ، جاز وإذا خاطبه بالأمان ، أو بلغه الخبر ، فرده ، بطل ، وإن قبل ، أو كان قد استجار من قبل ، تم الأمان ، ولا يشترط قبوله لفظا ، بل تكفي الإشارة والأمارة المشعرة بالقبول ، فإن كان في القتال ، فينبغي أن يترك القتال ، فلو سكت ، فلم يقبل ولم يرد ، قال الإمام : فيه تردد ، والظاهر : اشتراط قبوله ، وبه قطع الغزالي ، واكتفى البغوي بالسكوت ، ولو قال الكافر : قبلت أمانك ، ولست أؤمنك فخذ حذرك ، قال الإمام : هو رد للأمان ، لأن الأمان لا يثبت في أحد الطرفين دون الآخر ، ويصح تعليق الأمان بالأعذار ، ولو أشار مسلم إلى كافر في القتال ، فانحاز إلى صف المسلمين ، وتفاهما الأمان ، فهو أمان ، وإن قال الكافر : ظننت أنه يؤمنني ، وقال المسلم : لم أرده ، فالقول قول المسلم ولا أمان ، ولكن لا يغتال ، بل يلحق بمأمنه ، وكذا لو دخل بأمان صبي أو مجنون أو مكره ، وقال : ظننت صحته ، أو ظننته بالغا ، أو عاقلا ، أو مختارا ، ولو قال : علمت أنه لم يرد الأمان ، فقد دخل بلا أمان ، وكذا لو قال : علمت أنه كان صبيا وأنه لا أمان للصبي ، ولو مات المسلم المشير قبل البيان ، فلا أمان ولا اغتيال .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ما ذكرناه من اعتبار صيغة الأمان هو فيما إذا دخل الكافر بلادنا بلا سبب ، فلو دخل رسولا ، فقد سبق أن الرسول لا يتعرض له ، ولو دخل ليسمع الذكر ، وينقاد للحق إذا ظهر له ، فكذلك ، وقصد التجارة لا يفيد الأمان ، ولكن لو رأى الإمام مصلحة في دخول التجار ، فقال : من دخل تاجرا ، فهو آمن ، جاز ، ومثل هذا الأمان لا يصح من الآحاد ، ولو قال : ظننت أن قصد التجارة يفيد الأمان ، فلا أثر لظنه ويغتال إذ لا مستند له ، ولو سمع مسلما يقول : من دخل تاجرا ، فهو آمن ، فدخل وقال : ظننت صحته ، فالأصح أنه لا يغتال .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية