الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
النوع الرابع والعشرون:

معرفة كيفية سماع الحديث وتحمله وصفة ضبطه

اعلم أن طرق نقل الحديث وتحمله على أنواع متعددة، ولنقدم على بيانها بيان أمور:

أحدها: يصح التحمل قبل وجود الأهلية، فتقبل رواية من تحمل قبل الإسلام وروى بعده، وكذلك رواية من سمع قبل البلوغ وروى بعده.

ومنع من ذلك قوم فأخطئوا؛ لأن الناس قبلوا رواية أحداث الصحابة كالحسن بن علي، وابن عباس، وابن الزبير، والنعمان بن بشير، وأشباههم من غير فرق بين ما تحملوه قبل البلوغ وما بعده، ولم يزالوا قديما وحديثا يحضرون الصبيان مجالس التحديث والسماع، ويعتدون بروايتهم لذلك. والله أعلم.

الثاني: قال أبو عبد الله الزبيري: "يستحب كتب الحديث في العشرين؛ لأنها مجتمع العقل" قال: "وأحب أن يشتغل دونها بحفظ القرآن والفرائض".

وورد عن سفيان الثوري قال: "كان الرجل إذا أراد أن يطلب الحديث تعبد قبل ذلك عشرين سنة".

وقيل لموسى بن إسحاق: "كيف لم تكتب عن أبي نعيم؟" فقال: "كان أهل الكوفة لا يخرجون أولادهم في طلب الحديث صغارا حتى يستكملوا عشرين سنة". وقال موسى بن هارون: "أهل البصرة يكتبون لعشر سنين، وأهل الكوفة لعشرين، وأهل الشام لثلاثين" والله أعلم.

قلت: وينبغي بعد أن صار الملحوظ إبقاء سلسلة الإسناد أن يبكر بإسماع الصغير في أول زمان يصح فيه سماعه، وأما الاشتغال بكتبه الحديث، وتحصيله، وضبطه، وتقييده، فمن حين يتأهل لذلك ويستعد له، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، وليس ينحصر في سن مخصوص، كما سبق ذكره آنفا عن قوم. والله أعلم.

الثالث: اختلفوا في أول زمان يصح فيه سماع الصغير، فروينا عن موسى بن هارون الحمال - أحد الحفاظ النقاد - أنه سئل: متى يسمع الصبي الحديث؟ فقال: "إذا فرق بين البقرة والدابة" وفي رواية: "بين البقرة والحمار".

وعن أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه سئل: "متى يجوز سماع الصبي للحديث؟" فقال: "إذا عقل وضبط" فذكر له عن رجل أنه قال: "لا يجوز سماعه حتى يكون له خمس عشرة سنة" فأنكر قوله وقال: "بئس القول".

وأخبرني الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله الأسدي، عن أبي محمد عبد الله بن محمد الأشيري، عن القاضي الحافظ عياض بن موسى السبتي اليحصبي قال: "قد حدد أهل الصنعة في ذلك أن أقله سن محمود بن الربيع" وذكر رواية البخاري في صحيحه بعد أن ترجم: "متى يصح سماع الصغير؟" بإسناده عن محمود بن الربيع قال: "عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو" وفي رواية أخرى: أنه كان ابن أربع سنين. والله أعلم.

قلت: التحديد بخمس هو الذي استقر عليه عمل أهل الحديث المتأخرين، فيكتبون لابن خمس فصاعدا (سمع) ولمن لم يبلغ خمسا (حضر) أو (أحضر).

والذي ينبغي في ذلك أن تعتبر في كل صغير حاله على الخصوص، فإن وجدناه مرتفعا عن حال من لا يعقل فهما للخطاب وردا للجواب ونحو ذلك صححنا سماعه وإن كان دون خمس، وإن لم يكن كذلك لم نصحح سماعه وإن كان ابن خمس، بل ابن خمسين.

وقد بلغنا عن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: "رأيت صبيا ابن أربع سنين قد حمل إلى المأمون قد قرأ القرآن، ونظر في الرأي، غير أنه إذا جاع يبكي".

وعن القاضي أبي محمد عبد الله بن محمد الأصبهاني قال: "حفظت القرآن ولي خمس سنين، وحملت إلى أبي بكر بن المقرئ لأسمع منه ولي أربع سنين، فقال بعض الحاضرين: لا تسمعوا له فيما قرئ، فإنه صغير، فقال لي ابن المقرئ: اقرأ سورة الكافرين، فقرأتها، فقال: اقرأ سورة التكوير، فقرأتها، فقال لي غيره: اقرأ سورة المرسلات، فقرأتها، ولم أغلط فيها. فقال ابن المقرئ: سمعوا له والعهدة علي".

وأما حديث محمود بن الربيع: فيدل على صحة ذلك من ابن خمس مثل محمود، ولا يدل على انتفاء الصحة فيمن لم يكن ابن خمس، ولا على الصحة فيمن كان ابن خمس ولم يميز تمييز محمود رضي الله عنه. والله أعلم.

[ ص: 615 ] [ ص: 616 ] [ ص: 617 ]

التالي السابق


[ ص: 615 ] [ ص: 616 ] [ ص: 617 ] النوع الرابع والشعرون

معرفة كيفية سماع الحديث

102 - قوله: (وقد بلغنا عن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: "رأيت [ ص: 618 ] صبيا ابن أربع سنين قد حمل إلى المأمون قد قرأ القرآن، ونظر في الرأي، غير أنه إذا جاع يبكي") انتهى.

أحسن المصنف في التعبير عن هذه الحكاية بقوله: "بلغنا" ولم يجزم بنقلها، فقد رأيت بعض الأئمة من شيوخنا يستبعد صحتها، ويقول: "على تقدير وقوعها لم يكن ابن أربع سنين، وإنما كان ضئيل الخلقة، فيظن صغره" والذي يغلب على الظن عدم صحتها، وقد رواها الخطيب بإسناده في الكفاية وفي إسنادها أحمد بن كامل القاضي، قال فيه الدارقطني: "كان متساهلا ربما حدث من حفظه بما ليس عنده في كتابه، وأهلكه العجب؛ فإنه كان يختار، ولا يضع لأحد من العلماء الأئمة أصلا" وقال صاحب الميزان: "كان يعتمد على حفظه فيهم".




الخدمات العلمية