الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 165 ] كتاب الرضاع

                                                                                                                                                                                          مسألة : والواجب على كل والدة - حرة كانت أو أمة - في عصمة زوج أو في ملك سيد ، أو كانت خلوا منهما - لحق ولدها بالذي تولد من مائه أو لم يلحق - : أن ترضع ولدها - أحبت أم كرهت ، ولو أنها بنت الخليفة - وتجبر على ذلك إلا أن تكون مطلقة - .

                                                                                                                                                                                          فإن كانت مطلقة لم تجبر على إرضاع ولدها من الذي طلقها إلا أن تشاء هي ذلك ، فلها ذلك - أحب أبوه أم كره ، أحب الذي تزوجها بعده أم كره .

                                                                                                                                                                                          فإن تعاسرت هي وأبو الرضيع : أمر الوالد بأن يسترضع لولده امرأة أخرى ولا بد إلا أن لا يقبل الولد غير ثديها ، فتجبر حينئذ - أحبت أم كرهت ، أحب زوجها إن كان لها أم كره - .

                                                                                                                                                                                          فإن مات أبو الرضيع ، أو أفلس ، أو غاب بحيث لا يقدر عليه : أجبرت الأم على إرضاعه ، إلا أن لا يكون لها لبن ، أو كان لها لبن يضر به : فإنه يسترضع له غيرها ، ويتبع الأب بذلك إن كان حيا وله مال .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 166 ] فإن لم تكن مطلقة لكن في عصمته أو منفسخة النكاح منه أو من عقد فاسد بجهل ، فاتفق أبوه وهي على استرضاعه وقبل غير ثديها فذلك جائز .

                                                                                                                                                                                          فإن أراد أبوه ذلك فأبت هي إلا إرضاعه فلها ذلك .

                                                                                                                                                                                          فإذا أرادت هي أن تسترضع له غيرها وأبى الوالد : لم يكن لها ذلك ، وأجبرت على إرضاعه - قبل غير ثديها أو لم يقبل غير ثديها - إلا أن يكون لها لبن ، أو كان لبنها يضر به : فعلى الوالد حينئذ أن يسترضع لولده غيرها .

                                                                                                                                                                                          فإن لم يقبل في كل ذلك إلا ثدي أمه : أجبرت على إرضاعه إن كان لها لبن لا يضر به .

                                                                                                                                                                                          فإن كان لا أب له : إما بفساد الوطء بزنى ، أو إكراه ، أو لعان ، أو بحيث لا يلحق بالذي تولد من مائه ، وإما قد مات أبوه : فالأم تجبر على إرضاعه ، إلا أن لا يكون لها لبن ، أو كان لها لبن يضر به ، أو ماتت أمه ، أو غابت حيث لا يقدر عليها : فيسترضع له غيرها ، سواء في كل ذلك كان للرضيع مال أو لم يكن .

                                                                                                                                                                                          فإن كان له أب ، أو أم ، فأراد الأب فصاله دون رأي الأم ، أو أرادت الأم فصاله دون رأي الأب : فليس ذلك لمن أراده منهما قبل تمام الحولين - كان في ذلك ضرر بالرضيع أو لم يكن - .

                                                                                                                                                                                          فإن أرادا جميعا فصاله قبل الحولين ، فإن كان في ذلك ضرر على الرضيع لمرض به ، أو لضعف بنيته ، أو لأنه لا يقبل الطعام : لم يجز ذلك لهما فإن كان لا ضرر على الرضيع في ذلك فلهما ذلك .

                                                                                                                                                                                          فإن أرادا التمادي على إرضاعه بعد الحولين فلهما ذلك ، فإن أراد أحدهما - بعد الحولين - فصاله وأبى الآخر منهما ، فإن كان في ذلك ضرر على الرضيع لم يجز فصاله ، وكذلك لو اتفقا على فصاله .

                                                                                                                                                                                          وإن كان لا ضرر على الرضيع في فصاله بعد الحولين : فأي الأبوين أراد فصاله - بعد تمام الحولين - فله ذلك ، هذا حق الرضيع ، والحق على الأب والأم في إرضاعه .

                                                                                                                                                                                          وأما الواجب للأم في ذلك - فإن كان الولد لا يلحق نسبه بالذي تولد من مائه ، أو [ ص: 167 ] كان أبوه ميتا ، أو غائبا حيث لا يقدر عليه ، ولا وارث للرضيع : فالرضاع على الأم ، ولا شيء لها على أحد من أجل إرضاعه .

                                                                                                                                                                                          فإن كان في عصمته بزواج صحيح ، أو ملك يمين صحيح : فعلى الوالد نفقتهما ، أو كسوتهما فقط ، كما كان قبل ذلك ولا مزيد .

                                                                                                                                                                                          وإن كانت في غير عصمته - فإن كانت أم ولده فأعتقها ، أو منفسخة النكاح بعد صحته بغير طلاق ، لكن بما ذكرنا قبل أن النكاح ينفسخ به بعد صحته أو موطوءة بعقد فاسد بجهل يلحق فيه الولد بوالده ، أو طلقها طلاقا رجعيا - وهو رضيع - فلها في كل ذلك على والده النفقة ، والكسوة فقط ، ولا مزيد .

                                                                                                                                                                                          فإن كان فقيرا كلفت إرضاعه ولا شيء لها على الأب الفقير ، فإن غاب وله مال وامتنع أتبع بالنفقة والكسوة متى قدر على مال .

                                                                                                                                                                                          فإن كانت مطلقة ثلاثا وأتمت عدتها من الطلاق الرجعي بوضعه : فلها على أبيه الأجرة في إرضاعه فقط .

                                                                                                                                                                                          فإن رضيت هي أجرة مثلها : فإن الأب يجبر على ذلك - أحب أم كره - ولا يلتفت إلى قوله : أنا واجد من يرضعه بأقل ، أو بلا أجرة .

                                                                                                                                                                                          فإن لم ترض هي إلا بأكثر من أجرة مثلها وأبى الأب إلا أجرة مثلها فهذا هو التعاسر ، وللأب حينئذ أن يسترضع غيرها لولده إلا أن لا يقبل غير ثديها ، أو لا يجد الأب إلا من لبنها مضر بالرضيع ، أو كان الأب لا مال له : فتجبر الأم حينئذ على إرضاعه ، وتجبر هي والوالد على أجرة مثلها - إن كان له مال - وإلا فلا شيء عليه .

                                                                                                                                                                                          وكل ما ذكرنا أنه يجب على الوالد - في الرضاع - من أجرة ، أو رزق أو كسوة : فهو واجب عليه - كان للرضيع مال أو لم يكن ، كانت صغيرة زوجها أبوها أو لم تكن - بخلاف النفقة على الفطيمة أو الفطيم .

                                                                                                                                                                                          فإن مات الأب فكل ما ذكرنا أنه يجب على الوالد : من كسوة ، أو نفقة ، أو أجرة ، وللرضيع وارث فهو على وارث الرضيع - على عددهم لا على مقادير مواريثهم منه ، والأم من جملتهم : والزوج إن كان زوجها أبوها من جملتهم ، سواء كان للرضيع مال أو لم يكن ، بخلاف كسوته ، ونفقته إذا أكل الطعام ، فإن لم يكن له وارث فرضاعه على [ ص: 168 ] الأم - وارثة كانت أو غير وارثة ولا شيء لها من أجل ذلك من مال الرضيع ، بخلاف وجوب نفقتها في ماله - إن كان له مال ، ولا مال لها .

                                                                                                                                                                                          فإن كانت مملوكة وولدها عبدا لسيدها ، أو لغير سيدها : فرضاعه على الأم ، بخلاف كسوته ، ونفقته - إذا استغنى عن الرضاع .

                                                                                                                                                                                          فإن كانت مملوكة وولدها حر - فإن كان له أب ، أو وارث ، فالنفقة ، والكسوة ، أو الأجرة على الأب ، أو على الوارث كما قدمنا ، فإن لم يكن له أب ولا وارث : فرضاعه على أمه .

                                                                                                                                                                                          فإن ماتت ، أو مرضت ، أو أضر به لبنها ، أو كانت لا لبن لها ، ولا مال لها : فعلى بيت مال المسلمين - فإن منع : فعلى الجيران يجبرهم الحاكم على ذلك - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : برهان كل ما ذكرنا منصوص في قول الله عز وجل : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير } .

                                                                                                                                                                                          وفي قوله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر } .

                                                                                                                                                                                          فهذه صفة الطلاق الرجعي بلا شك ، ثم ذكر الله تعالى العدة بالأقراء والشهور .

                                                                                                                                                                                          ثم قال عز وجل : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } إلى قوله { سيجعل الله بعد عسر يسرا } . [ ص: 169 ]

                                                                                                                                                                                          وقد ذكرنا فيما سلف من كتابنا هذا أن قوله تعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } قد بين حديث فاطمة بنت قيس أنه عز وجل إنما أراد به المطلقات طلاقا رجعيا لا المطلقات ثلاثا ، فكل ما قلنا فإنه منصوص في الآيات المذكورات بلا تأويل - ونحن إن شاء الله تعالى ذاكرون بيان ذلك فصلا فصلا -

                                                                                                                                                                                          ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . [ ص: 170 ]

                                                                                                                                                                                          أما قولنا في أول المسألة - الواجب على كل حرة أو أمة في عصمة زوج كانت أو في ملك سيد أو خلوا منهما لحق ولدها بالذي تولد من مائه أو لم يلحق أن ترضع ولدها أحبت أم كرهت ولو أنها بنت الخليفة وتجبر على ذلك فلقول الله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } .

                                                                                                                                                                                          وهذا عموم لا يحل لأحد أن يخص منه شيئا إلا ما خصه نص ثابت وإلا فهو كذب على الله تعالى .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : هذا خبر لا أمر ؟

                                                                                                                                                                                          قلنا : هذا أشد عليكم ، إذ أخبر عز وجل بذلك ، فمخالف خبره ساع في تكذيب ما أخبر الله عز وجل وفي هذا ما فيه .

                                                                                                                                                                                          وهذا قول ابن أبي ليلى ، والحسن بن حي ، وأبي ثور ، وأبي سليمان ، وأصحابنا ، واختلف فيه عن مالك - فمرة قال مثل قولنا ، ومرة قال : الشريفة لا تجبر على ذلك - وهذا قول في غاية الفساد ; لأن الشرف هو التقوى ، فرب هاشمية أو عبشمية بنت خليفة تموت هزلا ، ورب زنجية أو بنت غية قد صارت حرمة مالك ، أو أمة .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة : لا تجبر الأم على الرضاع - وهذا خلاف مجرد للقرآن .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا - إلا أن تكون مطلقة فإن كانت مطلقة فإنها لا تجبر على إرضاع ولدها [ ص: 171 ] من الذي طلقها إلا أن تشاء هي فإن شاءت هي ذلك فذلك لها أحب ذلك الذي طلقها أو أبى أحب ذلك زوج إن كان لها أو أبى فلقول الله تعالى في " سورة الطلاق " بعد ذكر المعتدات : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وائتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } فلم يخص تعالى ذات زوج من غيرها ولا جعل في ذلك خيارا للأب ولا للزوج بل جعل الإرضاع إلى الأمهات وفي هذا خلاف قديم .

                                                                                                                                                                                          روينا من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق الشيباني قال : أتي عبد الله بن عتبة بن مسعود في رجل تزوج امرأة ولها ولد ترضعه فأبى الزوج أن ترضعه ؟ فقضى عبد الله بن عتبة أن لا ترضعه ؟

                                                                                                                                                                                          قلنا : حكم حكما لا دليل على صحته ، ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          ومن احتج هاهنا بهذا ، فنحن نذكر له - : ما رويناه من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي أنا سليمان بن حرب أنا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين قال : أتي عبد الله بن عتبة بن مسعود في رضاع صبي ؟ فقضاه في مال الغلام ، وقال لوليه : لو لم يكن له مال لألزمتك ، ألا تقرأ { وعلى الوارث مثل ذلك } .

                                                                                                                                                                                          وما ناه أحمد بن عمر بن أنس العذري أنا أبو ذر الهروي أنا عبد الله بن أحمد بن حمويه . أنا إبراهيم بن خريم أنا عبد بن حميد أنا روح عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين أن عبد الله بن عتبة بن مسعود قضى بنفقة الصبي في ماله ، وقال لوارثه : لو لم يكن له مال لقضيت بالنفقة عليك ، ألا تقرأ : { وعلى الوارث مثل ذلك } فقد قلد عبد الله بن عتبة في قول أخطأ فيه لا برهان له على صحته ، فليتبعه فيما أصاب فيه ، ووافق القرآن - وهم لا يفعلون ذلك .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : إنما تزوجها للوطء ؟

                                                                                                                                                                                          قلنا : نعم ، فكان ماذا ؟ وإنما ولدته لترضعه ، فحق الصبي قبل حق الذي تزوجها بعد أن ولدته ، ولا يمنعه إرضاعها ولدها من وطئه لها .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية