الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 62 ] ذكر الأحداث التي كانت في زمن نوح عليه السلام

قد اختلف العلماء في ديانة القوم الذين أرسل إليهم نوح ، فمنهم من قال إنهم كانوا قد أجمعوا على العمل بما يكرهه الله تعالى من ركوب الفواحش ، والكفر ، وشرب الخمور ، والاشتغال بالملاهي عن طاعة الله .

ومنهم من قال : إنهم كانوا أهل طاعة . وبيوراسب أول من أظهر القول بمذهب الصابئين ، وتبعه على ذلك الذين أرسل إليهم نوح ، وسنذكر أخبار بيوراسب فيما بعد .

وأما كتاب الله ، قال : فينطق بأنهم أهل أوثان ، قال تعالى : وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا .

قلت : لا تناقض بين هذه الأقاويل الثلاثة ، فإن القول الحق الذي لا يشك فيه هو أنهم كانوا أهل أوثان يعبدونها ، كما نطق به القرآن ، وهو مذهب طائفة من الصابئين ، فإن أصل مذهب الصابئين عبادة الروحانيين ، وهم الملائكة لتقربهم إلى الله تعالى زلفى ، فإنهم اعترفوا بصانع العالم وأنه حكيم قادر مقدس ، إلا أنهم قالوا الواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى معرفة جلاله ، وإنما نتقرب إليه بالوسائط المقربة لديه ، وهم الروحانيون ، وحيث لم يعاينوا الروحانيين تقربوا إليهم بالهياكل ، وهي الكواكب السبعة السيارة لأنها مدبرة لهذا العالم عندهم ، ثم ذهبت طائفة منهم ، وهم أصحاب الأشخاص ، حيث رأوا أن الهياكل تطلع وتغرب وترى ليلا ولا ترى نهارا - إلى وضع الأصنام لتكون نصب أعينهم ليتوسلوا بها إلى الهياكل ، والهياكل إلى الروحانيين ، والروحانيون إلى صانع العالم ، فهذا كان أصل وضع الأصنام أولا ، وقد كان أخيرا في العرب من هو على هذا الاعتقاد ، وقال تعالى : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى فقد حصل من عبادة [ ص: 63 ] الأصنام مذهب الصابئين ، والكفر والفواحش ، وغير ذلك من المعاصي .

فلما تمادى قوم نوح على كفرهم ، وعصيانهم بعث الله إليهم نوحا يحذرهم بأسه ، ونقمته ويدعوهم إلى التوبة ، والرجوع إلى الحق ، والعمل بما أمر الله تعالى ، وأرسل نوح وهو ابن خمسين سنة ، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما .

وقال عون بن أبي شداد : إن الله تعالى أرسل نوحا وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، ثم عاش بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين سنة ، وقيل غير ذلك ، وقد تقدم .

قال ابن إسحاق وغيره : إن قوم نوح كانوا يبطشون به فيخنقونه حتى يغشى عليه ، فإذا أفاق قال : اللهم اغفر لي ولقومي فإنهم لا يعلمون ! حتى إذا تمادوا في معصيتهم وعظمت منهم الخطيئة ، وتطاول عليه وعليهم الشأن اشتد عليه البلاء ، وانتظر النجل بعد النجل فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من الذي كان قبله حتى إن كان الآخر ليقول : قد كان هذا مع آبائنا ، وأجدادنا مجنونا لا يقبلون منه شيئا ، وكان يضرب ويلف ، ويلقى في بيته ، يرون أنه قد مات ، فإذا أفاق اغتسل وخرج إليهم يدعوهم إلى الله ، فلما طال ذلك عليه ، ورأى الأولاد شرا من الآباء قال : رب قد ترى ما يفعل بي عبادك ، فإن تك لك فيهم حاجة فاهدهم ، وإن يك غير ذلك فصيرني إلى أن تحكم فيهم . فأوحى إليه : إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ، فلما يئس من إيمانهم دعا عليهم فقال : رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ، إلى آخر القصة . فلما شكا إلى الله واستنصره عليهم ، أوحى الله إليه أن : اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون . فأقبل نوح على عمل الفلك ولها عن دعاء قومه وجعل يهيئ عتاد الفلك من الخشب ، والحديد ، والقار ، وغيرها مما لا يصلحه سواه ، وجعل قومه يمرون به وهو في عمله فيسخرون منه ، فيقول : إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون .

قال : ويقولون : يا نوح قد صرت نجارا بعد النبوة ! وأعقم الله أرحام النساء فلا يولد [ ص: 64 ] لهم ، وصنع الفلك من خشب الساج ، وأمره أن يجعل طوله ثمانين ذراعا ، وعرضه خمسين ذراعا ، وطوله في السماء ثلاثين ذراعا .

وقال قتادة : كان طولها ثلاثمائة ذراع ، وعرضها خمسين ذراعا ، وطولها في السماء ثلاثين ذراعا .

وقال الحسن : كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع ، والله أعلم .

وأمر نوحا أن يجعله ثلاث طبقات : سفلى ، ووسطى ، وعليا ، ففعل نوح كما أمره الله تعالى حتى إذا فرغ منه ، وقد عهد الله إليه حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل ، وقد جعل التنور آية فيما بينه وبينه . فلما فار التنور وكان فيما قيل من حجارة كان لحواء .

وقال ابن عباس : كان ذلك تنورا من أرض الهند .

وقال مجاهد ، والشعبي : كان التنور بأرض الكوفة ، وأخبرته زوجته بفوران الماء من التنور ، وأمر الله جبرائيل فرفع الكعبة إلى السماء الرابعة ، وكانت من ياقوت الجنة ، كما ذكرناه ، وخبأ الحجر الأسود بجبل أبي قبيس ، فبقي فيه إلى أن بنى إبراهيم البيت فأخذه فجعله موضعه ، ولما فار التنور حمل نوح من أمر الله بحمله ، وكانوا أولاده الثلاثة : سام ، وحام ، ويافث ، ونساءهم ، وستة أناسي ، فكانوا مع نوح ثلاثة عشر .

[ ص: 65 ] وقال ابن عباس : كان في السفينة ثمانون رجلا ، أحدهم جرهم ، كلهم بنو شيث ، وقال قتادة : كانوا ثمانية أنفس : نوح ، وامرأته ، وثلاثة بنوه ، ونساؤهم . وقال الأعمش : كانوا سبعة ، ولم يذكر فيهم زوج نوح . وحمل معه جسد آدم ، ثم أدخل ما أمر الله به من الدواب ، وتخلف عنه ابنه يام ، وكان كافرا ، وكان آخر من دخل السفينة الحمار ، فلما دخل صدره تعلق إبليس بذنبه فلم ترتفع رجلاه ، فجعل نوح يأمره بالدخول فلا يستطيع حتى قال : ادخل وإن كان الشيطان معك . فقال كلمة زلت على لسانه ، فلما قالها دخل الشيطان معه ، فقال له نوح : ما أدخلك يا عدو الله ؟ فقال : ألم تقل ادخل وإن كان الشيطان معك ؟ فتركه .

ولما أمر نوح بإدخال الحيوان السفينة قال : أي رب ، كيف أصنع بالأسد والبقرة ؟ وكيف أصنع بالعناق والذئب ، والطير والهر ؟ قال : الذي ألقى بينهما العداوة هو يؤلف بينها . فألقى الحمى على الأسد ، وشغله بنفسه ، ولذلك قيل :


وما الكلب محموما وإن طال عمره ولكنما الحمى على الأسد الورد



وجعل نوح الطير في الطبق الأسفل من السفينة ، وجعل الوحش في الطبق الأوسط ، وركب هو ومن معه من بني آدم في الطبق الأعلى . فلما اطمأن نوح في الفلك ، وأدخل فيه كل من أمر به ، وكان ذلك بعد ستمائة سنة من عمره في قول بعضهم ، وفي قول بعضهم ما ذكرناه ، وحمل معه من حمل - جاء الماء كما قال تعالى : ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر . فكان بين أن أرسل الماء وبين أن احتمل الماء الفلك أربعون يوما وأربعون ليلة ، وكثر ، واشتد ، وارتفع ، وطمى ، وغطى نوح عليه وعلى من معه [ ص: 66 ] طبق السفينة ، وجعلت الفلك تجري بهم في موج كالجبال ، ونادى نوح ابنه الذي هلك ، وكان في معزل : يابني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين وكان كافرا ، قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ، وكان عهد الجبال وهي حرز وملجأ . فقال نوح لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين . وعلا الماء على رءوس الجبال ، فكان على أعلى جبل في الأرض خمسة عشر ذراعا ، فهلك ما على وجه الأرض من حيوان ونبات ، فلم يبق إلا نوح ومن معه ، وإلا عوج بن عنق ، فيما زعم أهل التوراة ، وكان بين إرسال الماء وبين أن غاض ستة أشهر وعشر ليال .

قال ابن عباس : أرسل الله المطر أربعين يوما ، فأقبلت الوحش حين أصابها المطر والطين إلى نوح وسخرت له ، فحمل منها كما أمره الله ، فركبوا فيها لعشر ليال مضين من رجب ، وكان ذلك لثلاث عشرة خلت من آب ، وخرجوا منها يوم عاشوراء من المحرم ، فلذلك صام من صام يوم عاشوراء . وكان الماء نصفين : نصف من السماء ونصف من الأرض ، وطافت السفينة بالأرض كلها لا تستقر حتى أتت الحرم فلم تدخله ، ودارت بالحرم أسبوعا ، ثم ذهبت في الأرض تسير بهم حتى انتهت إلى الجودي ، وهو جبل بقردى بأرض الموصل ، فاستقرت عليه ، فقيل عند ذلك : بعدا للقوم الظالمين ، ولما استقرت قيل : ياأرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء ، نشفته الأرض ، وأقام نوح في الفلك إلى أن غاض الماء ، فلما خرج منها اتخذ بناحية من قردى من أرض الجزيرة موضعا وابتنى قرية سموها ثمانين ؛ وهي الآن تسمى بسوق الثمانين لأن كل واحد ممن معه بنى لنفسه بيتا ، وكانوا ثمانين رجلا .

قال بعض أهل التوراة : لم يولد لنوح إلا بعد الطوفان .

[ ص: 67 ] وقيل : إن ساما ولد قبل الطوفان بثمان وتسعين سنة ، وقيل : إن اسم ولده الذي أغرق كان كنعان وهو يام .

وأما المجوس فإنهم لا يعرفون الطوفان ويقولون لم يزل الملك فينا من عهد جيومرث ، وهو آدم ، قالوا : ولو كان كذلك لكان نسب القوم قد انقطع وملكهم قد اضمحل ، وكان بعضهم يقر بالطوفان ويزعم أنه كان في إقليم بابل وما قرب منه ، وأن مساكن ولد جيومرث كانت بالمشرق فلم يصل ذلك إليهم ، وقول الله تعالى أصدق في أن ذرية نوح هم الباقون فلم يعقب أحد ممن كان معه في السفينة غير ولده سام ، وحام ، ويافث . ولما حضرت نوحا الوفاة قيل له : كيف رأيت الدنيا ؟ قال : كبيت له بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر . وأوصى إلى ابنه سام ، وكان أكبر ولده .

التالي السابق


الخدمات العلمية