الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( باب ) ( العام ) في اصطلاح العلماء . ( لفظ دال على جميع أجزاء ماهية مدلوله ) أي مدلول اللفظ . قال الطوفي - بعد أن ذكر للعام حدودا كلها معترضة - اللفظ إن دل . على الماهية من حيث [ ص: 344 ] هي هي . فهو المطلق كالإنسان ، أو على وحدة معينة . كزيد فهو العلم ، أو غير معينة كرجل فهو النكرة ، أو على وحدات متعددة . فهي إما بعض وحدات الماهية فهو اسم العدد . كعشرين رجلا ، أو جميعها فهو العام . فإذا هو اللفظ الدال على جميع أجزاء ماهية مدلوله وهو أجودها . فهذا الحد مستفاد من التقسيم المذكور ; لأن التقسيم الصحيح يرد على جنس الأقسام ، ثم يميز بعضها عن بعض بذكر خواصها التي تتميز بها . فيتركب كل واحد من أقسامه من جنسه المشترك ومميزه الخاص ، وهو الفصل . ولا معنى للحد إلا اللفظ المركب من الجنس والفصل . وعلى هذا فقد استفدنا من هذا التقسيم معرفة حدود ما تضمنه من الحقائق ، وهو المطلق والعلم والنكرة واسم العدد والعام فالمطلق : هو اللفظ الدال على الماهية المجردة عن وصف زائد .

والعلم : هو اللفظ الدال على وحدة معينة ، واسم العدد : هو اللفظ الدال على بعض وحدات ماهية مدلوله . والعام ما ذكرنا . انتهى . وقوله " فإن دل على الماهية من حيث هي هي " أي مع قطع النظر عن جميع ما يعرض لها من وحدة وكثرة وحدوث وقدم ، وطول وقصر ولون من الألوان . فهذا المطلق كالإنسان من حيث هو إنسان إنما يدل على حيوان ناطق لا على واحد ولا على غيره مما ذكر ، وإن كان لا ينفك عن بعض ذلك . وقال أبو الخطاب ومن وافقه : إنه اللفظ المستغرق لما يصلح له . وقيل : ما عم شيئين فصاعدا . وقال ابن الحاجب : ما دل على مسميات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقا ضربة ، أي دفعة . وقيل غير ذلك ( ويكون ) العام ( مجازا ) على الأصح ، كقولك : رأيت الأسود على الخيول ، فالمجاز هنا كالحقيقة في أنه قد يكون عاما . وقال بعض الحنفية : لا يعم بصيغته ; لأنه على خلاف الأصل ، فيقتصر به على الضرورة . ورد بأن المجاز ليس خاصا بحال الضرورة ، بل هو عند قوم غالب على اللغات .

واستدل على مجازه بقوله صلى الله عليه وسلم { الطواف بالبيت صلاة . إلا أن الله أباح فيه الكلام } فإن الاستثناء معيار العموم . فدل على تعميم كون الطواف صلاة مجاز ( والخاص ) [ ص: 345 ] بخلاف العام ; لأنه قسيمه ، وهو ( ما دل ) على ما وضع له دلالة ( أخص ) من دلالة ما هو أعم منه ( وليس ) هو من هذه الحيثية ( بعام ) إلا بالمحدود أولا ( ولا ) شيء ( أعم من متصور ) اسم مفعول ، أي لا أعم من شيء ممكن تخيل صورته في الذهن . فيتناول ذلك المعلوم والمجهول والموجود والمعدوم ( و ) لا شيء ( أخص من علم الشخص ) كزيد وهند ، ومثله الحاضر والمشار إليه بهذا ونحوه ( وكحيوان ) أي ومثل لفظ حيوان ( عام ) نسبي لأن الحيوان أعم من الإنسان والفرس والأسد وغير ذلك من الحيوانات ( خاص نسبي ) لأن الحيوان أخص من الجسم لشموله كل مركب ، ومن النامي لشموله النبات ، فكل لفظ بالنسبة إلى ما دونه عام ، وبالنسبة إلى ما فوقه خاص .

( ويقال للفظ عام وخاص ، وللمعنى أعم وأخص ) قال الكوراني في شرح جمع الجوامع : هذا مجرد اصطلاح لا يدرك له وجه سوى التمييز بين صفة اللفظ وصفة المعنى ، وقال القرافي : وجه المناسبة أن صيغة أفعل ، تدل على الزيادة والرجحان .

والمعاني أعم من الألفاظ ، فخصت بصيغة أفعل التفضيل . ومنهم من يقول فيها عام وخاص أيضا . ا هـ . ( والعموم ) بمعنى ( الشركة في المفهوم ) لا بمعنى الشركة في اللفظ ( من عوارض الألفاظ حقيقة ) إجماعا ، بمعنى أن كل لفظ عام يصح شركة الكثيرين في معناه ، لا أنه يسمى عاما حقيقة ، إذ لو كانت الشركة في مجرد الاسم لا في مفهومه لكان مشتركا لا عاما ، وبهذا يبطل قول من قال : إن العموم من عوارض الألفاظ لذاتها ( وكذا ) - على خلاف - يكون العموم من عوارض ( المعاني ) حقيقة ( في قول ) القاضي أبي يعلى وابن الحاجب وأبي بكر الرازي ، ومن وافقهم . فيكون العموم موضوعا للقدر المشترك بينهما بالتواطؤ . والقول الثاني - وهو قول الموفق وأبي محمد الجويني والأكثر - إنه من عوارض المعاني مجازا لا حقيقة . والقول الثالث : أن العموم لا يكون في المعاني لا حقيقة ولا مجازا . ووجه القول الأول : أن حقيقة العام لغة شمول أمر لمتعدد ، وهو في المعاني : كعم المطر والخصب ، وفي المعنى الكلي لشموله لمعاني الجزئيات . واعترض [ ص: 346 ] على ذلك بأن المراد أمر واحد شامل . وعموم المطر شمول متعدد لمتعدد ; لأن كل جزء من الأرض يختص بجزء من المطر . ورد هذا بأن هذا ليس بشرط للعموم لغة ، ولو سلم فعموم الصوت باعتبار واحد شامل للأصوات المتعددة الحاصلة لسامعيه . وعموم الأمر والنهي باعتبار واحد ، وهو الطلب الشامل لكل طلب تعلق بكل مكلف . وكذا المعنى الكلي الذهني . وقد فرق طائفة بين الذهني والخارجي ، فقالوا : بعروض العموم للمعنى الذهني دون الخارجي . لأن العموم عبارة عن شمول أمر واحد لمتعدد ، والخارجي لا يتصور فيه ذلك . لأن المطر الواقع في هذا المكان غير واقع في ذلك المكان ، بل كل قطرة منه مخصوصة بمكان خاص والمراد بالمعاني المستقلة كالمقتضى والمفهوم . أما المعاني التابعة للألفاظ : فلا خلاف في عمومها ; لأن لفظها عام ( وللعموم صيغة تخصه ) أي يختص بها عند الأئمة الأربعة والظاهرية وعامة المتكلمين . وهي ( حقيقة فيه ) أي في العموم ( مجاز في الخصوص ) على الأصح ; لأن كونها للعموم أحوط من كونها للخصوص .

وقيل : عكسه . وقيل : مشتركة بين العموم والخصوص . وقالت الأشعرية : لا صيغة للعموم . واستدل للقول الأول الذي في المتن بقول الإنسان : لا تضرب أحدا . وكل من قال كذا فقل له كذا عام قطعا . ولمسلم من حديث أبي هريرة { قالوا : فالحمر يا رسول الله ؟ قال : ما أنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة ( { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } } ) وعن ابن عمر رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الأحزاب قال : لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة . فأدرك بعضهم العصر في الطريق . فقال بعضهم : لا نصلي حتى نأتيها ، وقال بعضهم : بل نصلي ، لم يرد منا ذلك . فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم . فلم يعنف واحدا منهم } متفق عليه ، ولأن نوحا تمسك بقول الله تعالى { وأهلك } بأن ابنه من أهله ، وأقره الله سبحانه وتعالى وبين المانع ، واستدلال الصحابة والأئمة على حد كل سارق وزان بقوله سبحانه وتعالى [ ص: 347 ] { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } و { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } واعترض على ذلك بأن العموم فهم من القرائن ، ثم الأخبار آحاد . رد بأن الأصل عدم القرينة ، ثم حديث أبي هريرة صريح ، وهي متواترة معنى . وأيضا صحة الاستثناء في قولك : أكرم الناس إلا الفساق ، . هو إخراج ما لولاه لدخل " بإجماع أهل العربية ، لا يصلح دخوله . وأيضا من دخل من عبيدي حر ، ومن نسائي طالق .

يعم اتفاقا ، وكذا قولك مستفهما من جاءك ؟ عام ; لأنه موضوع للعموم اتفاقا . وليس بحقيقة في الخصوص . لحسن جوابه بجملة العقلاء ولتفريق أهل اللغة بين لفظ العموم ولفظ الخصوص ، وأيضا كل الناس علماء ، يكذبه كلهم ليسوا علماء ( ومدلوله ) أي العموم كلية ( أي محكوم فيه ) على ( كل فرد ) فرد بحيث لا يبقى فرد ( مطابقة ) أي دلالة مطابقة ( إثباتا وسلبا ) فقوله تعالى { فاقتلوا المشركين } بمنزلة قوله : اقتل زيدا المشرك وعمرا المشرك وبكرا المشرك إلى آخره ، وهو مثل قولنا : كل رجل يشبعه رغيفان . أي كل واحد على انفراده ( لا ) أن مدلول العموم ( كلي ) وهو ما اشترك في مفهومه كثيرون كالحيوان والإنسان ، فإنه صادق على جميع أفراده ( ولا كل ) أي ولا أن مدلول العموم على أفراده من باب دلالة الكل على جزئياته وهو الحكم على المجموع من حيث هو كأسماء العدد . ومنه كل رجل منكم يحمل الصخرة ، أي المجموع لا كل واحد ، ويقال : الكلية والجزئية والكلي والجزئي والكل والجزء ، فصيغة العموم للكلية ، والنكرات للكلي ، وأسماء . الأعداد للكل ، وبعض العدد زوج للجزئية ، والأعلام للجزئي ، وما تركب من الزوج والفرد كالخمسة للجزء . والفرق بين الكل والكلي من أوجه أحدها : أن الكل متقوم بأجزائه ، والكلي متقوم بجزئياته . الثاني : أن الكل في الخارج والكلي في الذهن . الثالث : أن الأجزاء متناهية ، والجزئيات غير متناهية . الرابع : أن الكل محمول على أجزائه ، والكلي على جزئياته ( ودلالته ) أي دلالة العموم ( على أصل المعنى ) دلالة ( قطعية ) وهذا بلا نزاع ( و ) دلالته ( على كل فرد [ ص: 348 ] بخصوصه بلا قرينة ) تقتضي كل فرد فرد . كالعمومات التي لا يدخلها تخصيص .

نحو قوله تعالى { وهو بكل شيء عليم } { لله ما في السموات وما في الأرض } { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } دلالة ( ظنية ) عند الأكثر من أصحابنا وغيرهم . واستدل لذلك بأن التخصيص بالمتراخي لا يكون نسخا ، ولو كان العام نصا على أفراده لكان نسخا ، وذلك أن صيغ العموم ترد تارة باقية على عمومها ، وتارة يراد بها بعض الأفراد ، وتارة يقع فيها التخصيص ومع الاحتمال لا قطع ، بل لما كان الأصل بقاء العموم فيها كان هو الظاهر المعتمد للظن . ويخرج بذلك عن الإجمال ، وإن اقترن بالعموم ما يدل على أن المحل غير قابل للتعميم . فهو كالمجمل يجب التوقف فيه إلى ظهور المراد منه ( نحو قوله سبحانه وتعالى { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } ) ذكره ابن العراقي

التالي السابق


الخدمات العلمية