الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما

كتاب الزكاة

والكلام المحيط بهذه العبادة بعد معرفة وجوبها ينحصر في خمس جمل :

الجملة الأولى : في معرفة من تجب عليه .

الثانية : في معرفة ما تجب فيه من الأموال .

الثالثة : في معرفة كم تجب ، ومن كم تجب ؟

الرابعة : في معرفة متى تجب ، ومتى لا تجب ؟

الخامسة : معرفة لمن تجب ، وكم يجب له ؟

فأما معرفة وجوبها فمعلوم من الكتاب والسنة والإجماع ولا خلاف في ذلك .

الجملة الأولى

[ في معرفة من تجب عليه ]

وأما على من تجب فإنهم اتفقوا أنها على كل مسلم حر بالغ عاقل مالك النصاب ملكا تاما .

واختلفوا في وجوبها على اليتيم والمجنون والعبيد وأهل الذمة والناقص الملك مثل الذي عليه دين أو له الدين ، ومثال المال المحبس الأصل .

فأما الصغار : فإن قوما قالوا : تجب الزكاة في أموالهم ، وبه قال علي وابن عمر وجابر وعائشة من الصحابة ، ومالك والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم من فقهاء الأمصار . وقال قوم : ليس في مال اليتيم صدقة أصلا ، وبه قال النخعي والحسن وسعيد بن جبير من التابعين . وفرق قوم بين ما تخرج الأرض وبين ما لا تخرجه فقالوا : عليه الزكاة فيما تخرجه الأرض ، وليس عليه زكاة فيما عدا ذلك [ ص: 205 ] من الماشية والناض والعروض وغير ذلك ، وهو أبو حنيفة وأصحابه . وفرق آخرون بين الناض فقالوا : عليه الزكاة إلا في الناض .

وسبب اختلافهم في إيجاب الزكاة عليه أو لا إيجابها : هو اختلافهم في مفهوم الزكاة الشرعية هل هي عبادة كالصلاة والصيام ؟ أم هي حق واجب للفقراء على الأغنياء ؟ فمن قال إنها عبادة اشترط فيها البلوغ ، ومن قال إنها حق واجب للفقراء والمساكين في أموال الأغنياء لم يعتبر في ذلك بلوغا من غيره . وأما من فرق بين ما تخرجه الأرض أو لا تخرجه ، وبين الخفي والظاهر فلا أعلم له مستندا في هذا الوقت .

وأما أهل الذمة : فإن الأكثر على أن لا زكاة على جميعهم إلا ما روت طائفة من تضعيف الزكاة على نصارى بني تغلب - أعني : أن يؤخذ منهم مثلا ما يؤخذ من المسلمين في كل شيء - وممن قال بهذا القول الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري ، وليس عن مالك في ذلك قول ، وإنما صار هؤلاء لهذا لأنه أثبت أنه فعل عمر بن الخطاب بهم ، وكأنهم رأوا أن مثل هذا هو توقيف ، ولكن الأصول تعارضه .

وأما العبيد : فإن الناس فيهم على ثلاثة مذاهب :

فقوم قالوا : لا زكاة في أموالهم أصلا ، وهو قول ابن عمر وجابر من الصحابة ومالك وأحمد وأبي عبيد من الفقهاء .

وقال آخرون : بل زكاة مال العبد على سيده ، وبه قال الشافعي فيما حكاه ابن المنذر والثوري وأبو حنيفة وأصحابه .

وأوجبت طائفة أخرى على العبد في ماله الزكاة ، وهو مروي عن ابن عمر من الصحابة ، وبه قال عطاء من التابعين وأبو ثور من الفقهاء وأهل الظاهر وبعضهم .

وجمهور من قال لا زكاة في مال العبد هم على أن لا زكاة في مال المكاتب حتى يعتق .

وقال أبو ثور : في مال المكاتب زكاة .

وسبب اختلافهم في زكاة مال العبد : اختلافهم في هل يملك العبد ملكا تاما أو غير تام ؟ فمن رأى أنه لا يملك ملكا تاما وأن السيد هو المالك إذ كان لا يخلو مال من ملك قال : الزكاة على السيد ، ومن رأى أنه لواحد منهما يملكه ملكا تاما لا السيد إذ كانت يد العبد هي التي عليه لا يد السيد ولا العبد أيضا ; لأن للسيد انتزاعه منه ، قال : لا زكاة في ماله أصلا . ومن رأى أن اليد على المال توجب الزكاة فيه لمكان تصرفها فيه تشبيها بتصرف يد الحر قال : الزكاة عليه ، لاسيما من كان عنده أن الخطاب العام يتناول الأحرار والعبيد ، وأن الزكاة عبادة تتعلق بالمكلف لتصرف اليد في المال .

وأما المالكون الذين عليهم الديون التي تستغرق أموالهم ، أو تستغرق ما تجب فيه الزكاة من أموالهم وبأيديهم أموال تجب فيها الزكاة ، فإنهم اختلفوا في ذلك ، فقال قوم : لا زكاة في مال حبا كان أو غيره حتى تخرج منه الديون ، فإن بقي ما تجب فيه الزكاة زكى وإلا فلا ، وبه قال الثوري وأبو ثور وابن المبارك وجماعة . وقال أبو حنيفة وأصحابه : الدين لا يمنع زكاة الحبوب ويمنع ما سواها . وقال مالك : الدين يمنع زكاة الناض فقط إلا أن يكون له عروض فيها وفاء من دينه فإنه لا يمنع . وقال قوم : بمقابل القول الأول ، وهو أن الدين لا يمنع زكاة أصلا .

[ ص: 206 ] والسبب في اختلافهم : اختلافهم هل الزكاة عبادة أو حق مرتب في المال للمساكين ؟ فمن رأى أنها حق لهم قال : لا زكاة في مال من عليه الدين ; لأن حق صاحب الدين متقدم بالزمان على حق المساكين ، وهو في الحقيقة مال صاحب الدين لا الذي المال بيده . ومن قال هي عبادة قال : تجب على من بيده مال لأن ذلك هو شرط التكليف ، وعلامته المقتضية الوجوب على المكلف ، سواء كان عليه دين أو لم يكن ، وأيضا فإنه تعارض هنالك حقان : حق لله ، وحق للآدمي . وحق الله أحق أن يقضى ، والأشبه بغرض الشرع إسقاط الزكاة عن المديان لقوله - عليه الصلاة والسلام - فيها : " صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم " والمدين ليس بغني .

وأما من فرق بين الحبوب وغير الحبوب وبين الناض وغير الناض فلا أعلم له شبهة بينة ، وقد كان أبو عبيد يقول : إنه إن كان لا يعلم أن عليه دينا إلا بقوله لم يصدق ، وإن علم أن عليه دينا لم يؤخذ منه ، وهذا ليس خلافا لمن يقول بإسقاط الدين الزكاة ، وإنما هو خلاف لمن يقول : يصدق في الدين كما يصدق في المال .

وأما المال الذي هو في الذمة - أعني : في ذمة الغير - ، وليس هو بيد المالك وهو الدين : فإنهم اختلفوا فيه أيضا ، فقوم قالوا : لا زكاة فيه وإن قبض حتى يستكمل شرط الزكاة عند القابض له - وهو الحول - وهو أحد قولي الشافعي ، وبه قال الليث ، أو هو قياس قوله . وقوم قالوا : إذا قبضه زكاة لما مضى من السنين . وقال مالك : يزكيه لحول واحد وإن أقام عند المديان سنين إذا كان أصله عن عوض . وأما إذا كان عن غير عوض مثل الميراث فإنه يستقبل به الحول ، وفي المذهب تفصيل في ذلك .

ومن هذا الباب اختلافهم في زكاة الثمار المحبوسة الأصول ، وفي زكاة الأرض المستأجرة على من تجب زكاة ما يخرج منها ؟ هل على صاحب الأرض أو صاحب الزرع ؟ ومن ذلك اختلافهم في أرض الخراج إذا انتقلت من أهل الخراج إلى المسلمين وهم أهل العشر ، وفي الأرض العشر وهي أرض المسلمين إذا انتقلت إلى الخراج - وأعني : أهل الذمة - ، وذلك أنه يشبه أن يكون سبب الخلاف في هذا كله أنها أملاك ناقصة .

التالي السابق


الخدمات العلمية