الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 21 ] ثم هنا مسائل :

                الأولى : القراءات السبع متواترة خلافا لقوم . لنا : القول بأن جميعها آحاد ، خلاف الإجماع ، وبأن بعضها كذلك ، ترجيح من غير مرجح ; فتعين المدعى . قالوا : الآحاد واحد غير معين . قلنا : محال ، إذ التواتر معلوم ، والآحاد مظنون ; فالتمييز بينهما لازم ، وإذ لا مظنون ; فلا آحاد .

                التالي السابق


                قوله : " ثم هنا مسائل " ، يعني أن الكلام فيما سبق ، مما يتعلق بالكتاب ، هو كالمقدمة الكلية له ، فلما فرغ منها ، أخذ يذكر جزئيات أحكامه :

                فالمسألة " الأولى : القراءات السبع متواترة خلافا لقوم " . اعلم أن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان :

                فالقرآن هو الوحي النازل على محمد - صلى الله عليه وسلم - للبيان والإعجاز .

                والقراءات : هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور ، في كمية الحروف ، أو كيفيتها من تخفيف أو تثقيل ، وتحقيق أو تسهيل ، ونحو ذلك ، بحسب اختلاف لغات العرب ، ولا نزاع بين المسلمين في تواتر القرآن ، أما القراءات ; فوقع النزاع فيها ، والمشهور أنها متواترة ، وقال بعض الناس : ليست متواترة .

                " لنا : القول بأن جميعها آحاد خلاف الإجماع " إلى آخره . هذا دليل القائلين بتواترها ، وتقريره : أنه لا يخلو إما أن تكون القراءات جميعها متواترة ، أو جميعها آحادا ، أو بعضها تواتر وبعضها آحاد ، والقول بأن جميعها آحاد خلاف [ ص: 22 ] الإجماع لأنه لا خلاف أن في القراءات تواترا ، وإنما النزاع في أن جميعها تواتر ، وفي أن هل فيها آحاد أم لا ؟ والقول بأن بعضها تواتر وبعضها آحاد ، ترجيح بلا مرجح ، إذ لا طريق لنا إلى تمييز تواترها من آحادها . فقول القائل : إن هذا البعض المعين منها آحاد ، دون هذا البعض ، تحكم محض ، وترجيح من غير مرجح ، وهو باطل . وإذا انتفى القسمان الأخيران تعين الأول ، وهو أن جميعها متواتر ، وهو المطلوب .

                وهذا معنى قوله : " فتعين المدعى " .

                قوله : " قالوا الآحاد واحد غير معين " ، يعني : الخصم النافي للتواتر عن القراءات جميعها ، قال : ليست القسمة في دليلكم حاصرة ، بل هنا قسم آخر ، وهو أن الآحاد من القراءات بعض غير معين ، لا جميعها ، ولا بعض معين منها .

                قوله : " قلنا : محال " ، أي : القول بأن الآحاد من القراءات بعض غير معين محال ; لأن القراءات حينئذ تكون مشتملة على متواتر وآحاد ، والتمييز بين الآحاد والتواتر معلوم بالضرورة ; لأن التواتر معلوم ، والآحاد مظنون ، والتمييز بين المعلوم والمظنون حاصل بضرورة الوجدان ، كالتمييز بين الجوع والشبع ، والري والعطش ، ونحوها من الوجدانيات ، لكن ليس في القراءات مظنون ; فيلزم أن لا يكون فيها آحاد ، وإلا لوجدت الآحاد مفيدة للعلم بمجردها ، وهو محال عادة .

                تنبيه : اعلم أني سلكت في هذه المسألة طريقة الأكثرين في نصرة أن القراءات [ ص: 23 ] متواترة ، وعندي في ذلك نظر ، والتحقيق أن القراءات متواترة عن الأئمة السبعة ، أما تواترها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الأئمة السبعة ; فهو محل نظر ، فإن أسانيد الأئمة السبعة ، بهذه القراءات السبعة ، إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - موجودة في كتب القراءات ، وهي نقل الواحد عن الواحد ، لم تستكمل شروط التواتر ، ولولا الإطالة والخروج عما نحن فيه ، لذكرت طرفا من طرقهم ولكن هي موجودة في كتب العراقيين ، والحجازيين ، والشاميين ، وغيرهم ، فإن عاودتها من مظانها وجدتها كما وصف لك .

                وأبلغ من هذا أنها في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تتواتر بين الصحابة ، بدليل حديث عمر لما خاصم هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنهم ، حيث خالفه في قراءة سورة الفرقان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو كانت متواترة بينهم لحصل العلم لكل منهم بها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لم يكن عمر رضي الله عنه ليخاصم في ما تواتر عنده .

                [ ص: 24 ] واعلم أن بعض من لا تحقيق عنده ينفر من القول بعدم تواتر القراءات ، ظنا منه أن ذلك يستلزم عدم تواتر القرآن ، وليس ذلك بلازم ، لما ذكرناه أول المسألة ، من الفرق بين ماهية القرآن والقراءات ، والإجماع على تواتر القرآن .




                الخدمات العلمية