الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وسئل عن رجل عنده ستون قنطار زيت بالدمشقي وقعت فيه فأرة في بئر واحدة فهل ينجس بذلك أم لا ؟ وهل يجوز بيعه أو استعماله أم لا ؟ أفتونا مأجورين .

                التالي السابق


                فأجاب : الحمد لله . لا ينجس بذلك بل يجوز بيعه واستعماله إذا لم يتغير في إحدى الروايتين عن أحمد وحكم المائعات عنده حكم الماء في إحدى الروايتين فلا ينجس إذا بلغ القلتين إلا بالتغير لكن تلقى النجاسة وما حولها وقد ذهب إلى أن حكم المائعات حكم الماء طائفة [ ص: 525 ] من العلماء : كالزهري والبخاري صاحب الصحيح .

                وقد ذكر ذلك رواية عن مالك وهو أيضا مذهب أبي حنيفة : فإنه سوى بين الماء والمائعات بملاقاة النجاسة وفي إزالة النجاسة وهو رواية عن أحمد في الإزالة ; لكن أبو حنيفة رأى مجرد الوصول منجسا وجمهور الأئمة خالفوا في ذلك فلم يروا الوصول منجسا مع الكثرة .

                وتنازعوا في القليل .

                إذ من الفقهاء من رأى أن مقتضى الدليل أن الخبيث إذا وقع في الطيب أفسده ومنهم من قال إنما يفسده إذا كان قد ظهر أثره فأما إذا استهلك فيه واستحال فلا وجه لإفساده كما لو انقلبت الخمرة خلا بغير قصد آدمي فإنها طاهرة حلال باتفاق الأئمة لكن مذهبه في الماء معروف وعلى هذا أدلة قد بسطناها في غير هذا الموضع . ولا دليل على نجاسته لا في كتاب الله ولا سنة رسوله .

                وعمدة الذين نجسوه . احتجاجهم بحديث رواه أبو داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال : إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوا سمنكم وإن كان مائعا فلا [ ص: 526 ] تقربوه } وهذا الحديث إنما يدل لو دل على نجاسة السمن الذي وقع فيه الفأرة فكيف والحديث ضعيف ; بل باطل غلط فيه معمر على الزهري غلطا معروفا عند النقاد الجهابذة كما ذكره الترمذي عن البخاري .

                ومن اعتقد من الفقهاء أنه على شرط الصحيح فلم يعلم العلة الباطنة فيه التي توجب العلم ببطلانه فإن علم العلل من خواص علم أئمة الحديث ولهذا بين البخاري في صحيحه ما يوجب فساد هذه الرواية وأن الحديث الصحيح هو على طهارته أدل منه على النجاسة فقال : ( باب : إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب : حدثنا عبدان قال حدثنا عبد الله يعني ابن المبارك عن يونس عن الزهري : أنه سئل عن الدابة التي تموت في الزيت أو السمن وهو جامد . أو غير جامد الفأرة أو غيرها قال : { بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح ثم أكل } . وفي حديث عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة قال : { سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن فأرة وقعت في سمن فقال : ألقوها وما حولها وكلوه } فذكر البخاري عن ابن شهاب الزهري أعلم الأمة بالسنة في زمانه أنه أفتى في الزيت والسمن الجامد وغير الجامد إذا ماتت فيه الفأرة أنها تطرح وما قرب منها .

                [ ص: 527 ] واستدل بالحديث الذي رواه عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس : { أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال : ألقوها وما حولها وكلوه } ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم إن كان مائعا فلا تقربوه ; بل هذا باطل . فذكر البخاري رضي الله عنه هذا ليبين أن من ذكر عن الزهري أنه روى في هذا الحديث هذا التفصيل فقد غلط عليه فإنه أجاب بالعموم في الجامد والذائب مستدلا بهذا الحديث بعينه لا سيما والسمن بالحجاز يكون ذائبا أكثر مما يكون جامدا ; بل قيل : إنه لا يكون بالحجاز جامدا بحال .

                فإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم الجواب من غير تفصيل يوجب العموم إذ السؤال كالمعاد في الجواب فكأنه قال : إذا وقعت الفأرة في السمن فألقوها وما حولها وكلوا سمنكم وترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال يتنزل منزلة العموم في المقال . هذا إذا كان السمن بالحجاز يكون جامدا ويكون ذائبا فأما إن كان وجود الجامد نادرا أو معدوما كان الحديث نصا في أن السمن الذائب إذا وقعت فيه الفأرة فإنها تلقى وما حولها ويؤكل . وبذلك أجاب الزهري فإن مذهبه أن الماء لا ينجس قليله ولا كثيره إلا بالتغير وقد ذكر البخاري في أوائل الصحيح : التسوية بين الماء والمائعات .

                وقد بسطنا الكلام في هذه المسألة ودلائلها وكلام العلماء فيها [ ص: 528 ] في غير هذا الموضع . كيف وفي تنجيس مثل ذلك وتحريمه من فساد الأطعمة العظيمة وإتلاف الأموال العظيمة القدر ما لا تأتي بمثله الشريعة الجامعة للمحاسن كلها . والله سبحانه إنما حرم علينا الخبائث تنزيها لنا عن المضار وأباح لنا الطيبات كلها لم يحرم علينا شيئا من الطيبات كما حرم على أهل الكتاب - بظلمهم - طيبات أحلت لهم . ومن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها واشتمالها على مصالح العباد في المبدأ والمعاد تبين له من ذلك ما يهديه الله إليه { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } والله سبحانه أعلم . والحمد لله وحده وصلاته على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .




                الخدمات العلمية